بسم الله
السلام عليكم
قراءة في عشر قصص قصيرة جدا للدكتور شريف عابدين من مصر
القاص شريف عابدين
يقول د شريف عابدين : " ولدت بالإسكندرية عروس البحر
درست الطب رغم أني أعشق الفنون والآداب
تأثرت في البداية بوالدي فقد كان مهتما بالحكايات الشعبية ويحفظ السيرة الهلاليةبدأت بكتابة الشعر منذ المرحلة الثانوية
أثارت كتابات يوسف إدريس في نفسي ولعا بالقصة ولا أنسى قصتيه "مسحوق الهمس" و"بيت من لحم"
رغم أن دراسة الطب عطلتني عن الكتابة إلا أنها أفادتني كثيرا في تنمية قدراتي الأدبية وأعتبر أن الإلمام بعلم الأحياء وعلم النفس في غاية الأهمية لمن يهوى الكتابة.
سحرتني القصة القصيرة جدا واستحوذت كل اهتمامي وأتوقع لها مستقبلا زاهرا
يرجع الفضل إلى أستاذي الدكتور مسلك ميمون بكتاباته التي تيسر الفهم وتثري الذهن في تعلم أصول كتابة القصة القصيرة جدا.
كما استهوتني المدرسة المغربية الرائدة في كتابة ونقد هذا الجنس الأدبي الوليد.
أشارك بالكتابة في العديد من المنتديات الأدبية الرقمية ولم تصدر لي أية منشورات ورقية بعد."
شريف عابدين
°°°°°
(1)
◡◡◡
على مائدة المفاوضات طرحوا خارطة طريق من ثلاث مراحل متتالية؛ لكن (التفاصيل) كادت تودي بالاتفاق. تحريكا للمياه الراكدة، قبل أحد الأطراف التجاوز عن نقطة في مرحلة الباء. واعتبارا لمصالح إقليمية وافق على إسقاط نقطتين في مرحلة التاء، ثم رضوخا لضغوط دولية في مرحلة الثاء تنازل عن الثلاث نقاط . أثنى البعض على مدى الحكمة في صياغة (أنموذج) يصلح لحل جميع النزاعات؛ بينما أشاد الجميع بالقدرة الفائقة على (التجريد).
كما يُلاحظ: نص بدون عنوان ، أو نقول : متوج برمز لا يعني شيئاً مذكوراً .
و هذا يثير في نفسي مسألة العنوان و قد سبق أن قلت في هذا : " العنوان في العمل الإبداعي يختلف عن كـــــل العناوين و الأسماء.لأنه ليس تسمية فقط . بل هو عمل من عوامل البناء الإبداعي ، لأنه يساعد،و يكمل و يحيل، و يدعو للتأمل ...و هذه وظائف و ليست وظيفة. و من هنا كانت خطورة العنوان، و دوره الذي قد يغفله الكثيرون . إذ ينبغي أن يوضع بقدر كبير من الذكاء و النباهة... و أن يكون عاملا مساعداً يجعل الحدث نقطة البدء، ليجنح بعيدًا بخيال القارئ أبعـد من تخوم النص . ..وفي ذلك قال د محمد مفتاح» معرفةٌ لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد و يتنامى ويعيد إنتاج نفسه، وهو الذي يحدد هوية ( الرواية) فهو إن صحت المشابهة- بمثابة الرأس للجسد، والأساس الذي تبنى عليه ،غير أنه إما أن يكون طويلا فيساعد على توقع المضمون الذي يتلوه، وإما أن يكون قصيرا. وحينئذ فإنه لابد من قرائن فوق لغوية توحي بما يتبعه . »
فليس كل المبدعين في القصة ...قادرين على اختيار العنوان المناسب . مسألة الاختيار هي ــ في حد ذاتها ــ فن، و ذوق، و دراية ، و وعي، و إدراك....إن العنوان الذي يشي ، و ينم ،و يفضح ،و يكشف المحتوى أو يلخصه ...يهدم البناء الفني و يأتي عليه . إنّ عناوين الأعمال الفنية لا ينطبق عليها أبداً المثل السائر" الرسالة تقرأ من عنوانها " كما لا تنطبق عليها دلالات أسماء الأشخاص و الأماكن. و لا يمكن أن نقارن ذلك بما نتخذه من عناوين في إبداعاتنا .
مسألة اختيار العنوان صعبة.ولا يستسهلها إلا غير واع بها و بأهميتها.. فيرمي العناوين كما اتفق . لا شيء يؤرق المبدع الحق ،كاختيار العنوان المناسب.و إن كان أحياناً يأتي كاللمحة الإبداعية..وليس كما يرى البعض " في نهاية الكتابة "،بل أحياناً يكون هو الباعث على الكتابة، وفي جميع الحالات، أرى أنّ العنوان لا ينفصل عن النص، و لا يلخصه ، ولا يكشفه..و لكن ــ بشفافية تلميحية ــ يغشاه،و يمازجه، و يكسبه بعداً تأمليا وً دلاليا ..يحمل القارئ ــ قبل و بعد القراءة ــ أن يقف عنده، متأملا مراميه و فضاءاته..التي لم يحددها المحتوى،ولا يمكن أن يحددها كلها، لأن المحتوى " حدث " ليس إلا ،مرهون بالزمان و المكان.بينما العنوان تكثيف لغوي، يخترق الزمان و المكان ."
و فضلا عن هذا و أهميته، هناك من يهمل العنوان قصداً ، و لكن لغاية فنية تواصلية ، الهدف منها إشراك المتلقي في الكتابة ، إذ يصبح كلّ قارئ منتجاً فعّالا ، يستنبط من قراءته للنص، عنوانه الخاص ، الذي يترجم فهمه و مدى استيعابه و رؤيته الخاصة .....
هذا النص ، جاء معبراً و هادفاً ، و انتقاديناً و كاشفاً ، لما وصلت إليه المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية من تنازلات فظيعة .. أصبحت في نظر الرأي الفلسطيني و العربي مَذلة المَذلات ... ورأي المفاوض الفلسطيني : ليس باليد حيلة : "حكم القوي على الضّعيف...و المفاوضات تحريك للمياه الراكدة "عذر أقبح من الزلة. و لهذا المراحل الثلاثة (ب ، ت ، ث) جردت من نقطها بالتوالي: من أجل استئناف المفاوضات ، و اعتبار المصالح الإقليمية ، و الرضوخ للضغوط الدولية فأصبحت المراحل الثلاثة ، عبثا ولا مسؤولية ، بل انعدمت، و أصبحت مجردة ،لا تعني شيئاً ، إذ كيف يمكن تصور الباء و التاء و الثاء بدون نقط في الأبجدية العربية (יـــــــי ) ؟ ، أقل مل يقال إنها ليست عربية .
همســـة : و إنْ عبر النص بمرارة عن وضع ما ...إلا أنه في حاجة إلى تكثيف لغوي ،و إلى اهتمام بالقفلة . لأنّ هذه الأخيرة، مُتعتها أنها تأتي دون أن تكون في الحسبان ،لتكون صادمة و مفاجئة ..فهنا جاءت نتيجة حتمية فيما يشبه التعليق : (أثنى البعض على مدى الحكمة في صياغة (أنموذج) يصلح لحل جميع النزاعات؛ بينما أشاد الجميع بالقدرة الفائقة على (التجريد) ).
***
(2)
" تســـامي "
ھا قد فك قیدي!
یا لرقته المتناھیة!
حین اقتاد روحي،
وانطلقنا في السماء.
تمنیت لو أن أولئك الذین یسیرون في جنازتي،
قد عایشوا معي ذلك التكریم؛
لعل آلام الفراق تخبو قلیلا.
مازحته مترددا : لو كان ھناك بث مباشر!
لم یتخل عن وداعته حین أجابني:
لا تتعجل ستكون المحاكمة علنیة ،
لكل البشر.
***
( تسامى ) من السمو و الرّفعة .
السارد في هذا النص ، يخترق العادة و المعتاد ، و يطل من عالم الغيب ،و قد جاءه ملك الموت:(ھا قد فك قیدي! یا لرقته المتناھیة!
حین اقتاد روحي، وانطلقنا في السماء )
لكن قبل ذلك ترك الجسد الفاني ، ليوارى الثرى ، فاشتاق وهو ( روح) يعرج إلى السماء، و حرقة فراق الأهل و الأحبة، تشده إلى الأرض: (تمنیت لو أن أولئك الذین یسیرون في جنازتي، قد عایشوا معي ذلك التكریم؛لعل آلام الفراق تخبو قلیلا. ) و لكن الأماني ، و الدعاء ، و العبادة ...كل ذلك انتهى بانتهاء الأجل المحتوم .و مع ذلك أبت روح السارد و هي منتشية بالمعراج ، حزينة لفراق الأهل إلا أن تمازح الملاك : (: لو كان ھناك بث مباشر! ) حتى يرى الأهل فضل الله عليه، و يطمئنوا، و تخف لوعته و لوعتهم.فيأتي الرد سريعاً و مطمئنناً : (لا تتعجل ستكون المحاكمة علنیة ،لكل البشر. )
هكذا تحققت المفارقة الناتجة عن رغبة في بث مباشر لعروج الروح ، تلك المفارقة المستحيلة . التي تليها القفلة الممكنة و لو بعد حين .. فتصبح المفارقة على استحالتها في الوقت الراهن أكثر واقعية و وضوحا و جلاء من أي بث مباشر..يوم أن يحاسب كلّ فرد حساباً على رؤوس الأشهاد، و تحت سمع و بصر الناس جميعاً، و أمام ربّ عادل.
الفكرة واضحة ، بل و معروفة بين المؤمنين بيوم الدين . و رغم ذلك استعادها القاصّ في قالب فنّي .. فجاءت في صورة أمنية مستحيلة، ثمّ سمت إلى صورة واقعية لا استحالة فيها .
***
(3)
میراث"
الطفل یحب العصفور.
العصفور لا یأكل!
...لا یسمع الكلام.
ماما قالت: من لا یسمع الكلام یدخل النار.
!... ... ... ... ...
مدرسة الفصل تحذرنا من عذاب القبر؛
سیأكلك الثعبان!
لا فائدة.
..مات العصفور.
الطفل یبكي:
لا...لا لن یدفن العصفور.
یحتضنه داخل القفص،
..ثم یضع بجواره،
...دودة قـــز
" الميراث"عنوان يوحي بميراث مادي،لربّما ينشب حوله صراع، و يحتدم نزاع ..كما هو الشّأن عند بعض العائلات، فيؤدي ذلك إلى تنافر و بغضاء،و شنآن و شحناء.... و لكن ليس من ذلك شيء في النّص.و إن كان الميراث و طرفاه متوفران .كيف ذلك؟
طفل صغير يحب عصفوراً في القفص. العصفور لا يريد أن يأكل. فيشرع الطفل يستعرض ميراثه التّربوي الذي أخذه عن أبيه و أمّه و معلمته :
ــ بابا قال: ستموت إن لم تأكل .
ــ ماما قالت: من لا یسمع الكلام یدخل النّار.
ــ مدرسة الفصل تحذرنا من عذاب القبر؛سیأكلك الثّعبان!
و لكن هذا الميرث ( التّخويفي التّرهيبي ) لم يجد نفعاً .و ظلّ العصفور لا يأكل ،حتّى مات.بكى الطفل عصفوره،و رفض دفنه ، و احتضنه و هو في القفص، و وضع أمامه دودة قز.
تبدو القصة بسيطة، و لكن أحياناً كثيرة الحكمة في البساطة .
دلالة النّص تقف عند ما ورثه الطفل الصّغير من وسطه ، و من أقرب النّاس إليه،و ممن هم ، عمدته و سنده ( الأب/الأم/المعلمة)
كلّهم ساهموا في زرع الخوف و التّخويف في نفس الطفل ، حتّى أصبح يعكس ذلك نطقاً وفعلا مع عصفوره . و في ذلك نقد غير مباشر لتربية الخَوف . و دعوة لمساءلة التّربية؟ و كيف ينبغي أن تكون؟علماً أنّ التّربية الصّحيحة هي ما وافقت سنّ الطفولة فيشب الفتى على الطوق ، كما قال الشاعر :
قد ينفع الأدبُ الأحداثَ في مهل++و ليس ينفع عند الكبرة الأدبُ
إنّ الغصونَ إذا قوّمتها اعتدلتْ ++و ليس تلينُ إذا قومتها الخشبُ
و لكن على العكس مما هو في النّص ، ينبغي للتّربية أن تكون تربية الجرأة و الشّجاعة ، و المروءة و المواجهة ، و التّحدي و المغالبة، و الذّكاء و الفطنة، و المهارة و الإبداع و نبذ الخوف و الرعونة ، و حب العلم و الثّقافة ، و التّحلي بمكارم الأخلاق و الفضيلة ... فإذا كان الخطاب قد تحقق من استهلال النص و جسده .يبقى السؤال ما دور باقي الكلام : (لا...لا لن یدفن العصفور.یحتضنه داخل القفص، ..ثم یضع بجواره،...دودة قز )؟ أليكتمل التعبير على أن الطفل كان يحب عصفوره ؟ فلم يرغب أن يغيبه القبر ، بل لبراءته يريد إطعامه و هو ميت ... أعتقد ألا داعي لذلك ما دامت الإشارة إلى الحب كانت في الاستهلال و في النهاية بكاه. بل أرى معالجة النهاية بقفلـــــة الموت أحسن .و أفضل ..
***
(4)
" انتقـــاد"
القطة التي دهستها السیارة.
...أفزعت طفلي.
- لمَ الاستعجال یا قطة؟
لمَ لا تنتظري الإشارة الحمراء!
لمَ لمْ تستعملي الكوبري أو نفق المشاة؟
ــ ...................................
لكني حین لمحت اندفاع صغارها نحوها.
لم أستطع أن أحبس دمعي.
***
" انتقاد "نص مؤثر ، كتب ببلاغة نصّية قصصية، تحافظ على ضروب الفجاءة و المصادفة ...
أب و ابنه في الطريق ، تأتي سيارة مسرعة ، فتدهس قطة، ترديها قتيلة . المنظر مهول ،و مفزع ،بالنسبة للطفل الصّغير ..رأى الأب أنّ وقع الصّدمة سيكون مؤثراً على صغيره ، فبادر بانتقاد القطة ـ محملا إياها وزر ما وقع :
لمَ الاستعجال یا قطة؟
لمَ لا تنتظري الإشارة الحمراء!
لمَ لم تستعملي الكوبري أو نفق المشاة ؟
ولكن و هو يفعل ذلك بغية امتصاص أثر الحادثة على طفله ، رأى اندفاع صغارها نحوها. فلم يتمالك من أن يحبس دمعه .
هكذا، بهذا التّكثيف و الاختزال، و تداخل الذّاتي و الموضوعي ، و شحذ طبيعة التّخييل السّردي ، و إثارة البعد الحجاجي الإقناعي، و اعتماد أسلوب الغرابة و المفارقة ، و اللّمحة الفكرية التّأملية .. استطاع النّص بحسّ و حبكة سردية، أنْ يترك بصمته الفنية ، عميقة الأثر ...
(5)
"ھمــس"
ھاربا من الإحساس بعبثیة الدوران في حلقة مفرغة؛
یسرح خیاله في المروج الخضراء،
حیث تمرح أنثاه المكتنزة.
مسترسلا في حلم لا یوقظه منه سوى دغدغة الإطراء:
- "یا رمز القوة".
یواصل الركض منتشیا.
-" یا رمز الخصوبة".
یمني النفس باللقاء.
- " یا ملهم الثورة".
..یتأمل حاله قلیلا، تهدا حركته؛
فيلهب السوط ظهره.
یحتج رافسا بقدمه؛
فتعلق ساقه بالحواف المعدنیة.
یسقط مضرجا في دمه، فیقتاد إلى المذبح!
في الیوم التالي: یستمر الدوران بآخر.
معصوب العینین،
...في أذنیه سدادتان.
***
" همس " نص يجعل من ثور " الناعورة " أو الطاحونة، الذي يدور في حلقة طوال اليوم ، ليدير عجلة الناعورة ، أو دواليب الطاحونة ، أو درس سنابل القمح في البيدر... يجعل منه ثوراً يرى ما يقوم به عبثيا .. في الوقت الذي تمرح أنثاه في المروج الخضراء ..
و لكن : كأي ذكر تشده عزة النّفس ، و يثيره الإطراء بما يعطي و ما يقوم به ...
فهو رمز القوة ، و الخصوبة ، و ملهم الثورة ...إلا أن حبل الأحلام السعيدة قصير. سرعان ما تلهب ظهره ضربات السّوط ، فيعود إلى واقعه المرير محتجاً ، رافساً فتعلق ساقه بالحوافي المعدنية ، ما يعجل صاحبه يعجل بذبحه ، و تعويضه بآخر معصوب العينين ، و في أذنيه سدادتان .
إنّ عملية الجمع بين الاستهلال : (ھاربا من الإحساس بعبثیة الدوران في حلقة مفرغة ) و القفلة : ( یستمر الدوران بآخر. معصوب العینین،...في أذنیه سدادتان).
يلخص الرؤية الخفية لدى صاحب الثور ، أو ( المالك/ السيد ) فلا تهمه حاجات الثور و ما يريد... بقدر ما يهمه قضاء مآربه و لو بالسّوط ، بل لا يرحم جروح الثّور ، و يبادر إلى الاستغلال النّهائي ، بذبحه ، و الاستفادة من لحمه .. و حين يستبدله بثور أخر يأتي به معصوب العينين ، حتّى لا يرى مروجاً و أبقاراً تثير مشاعره و أحلامه .. و في أذنيه سدادتان حتّى لا يسمع حقيقة الوجود و أصداءه
و هل بعد حجر السّمع و اليصر بقي منفذ أخر أهم للإدراك و الفهم ، رغم حاسة الشمّ و اللّمس و الذّوق ؟
و يستوقف القارئ هذا المقطع الاسترجاعي المهموس :
یا رمز القوة".
یواصل الركض منتشیا.
-" یا رمز الخصوبة".
یمني النفس باللقاء.
- "یا ملهم الثورة".
..یتأمل حاله قلیلا، تهدأ حركته؛
فحين تذكر أنّه رمز " القوة " واصل الركض ،و حين تذكر بأنّه رمز "الخصوبة " غمرته الأماني حباً في لقاء أنثاه . و لكن حين تذكر بأنّه " ملهم الثّورة " تغير كلّ شيء : ( يتأمل حاله قليلا ، تهدأ حركته ) لأنّ الثّورة ليست نزوة عابرة بل حدثا انقلابيا يتطلب التّأمل و الهدوء ، و تدبّر الأمر ، و تفحّص جميع وجوهه ..
(6)
"متابعة"
على شاشة القناة الفضائیة يظهر خبر عاجل:
"نهاية العالم الآن"
تظهر مشاهد خسوف ودخان
وتسمع أصوات أناس فزعین.
ثم مذیعة تطل في أناقة الصباح!
نوافیكم بالتفاصیل الكاملة:
...في نشرة المساء.
***
" متابعة " نص خفيف الظل، يعتمد التّكثيف و الإيجاز، و متعة المفارقــــــة...
( خبر عاجل ) يشد الاهتمام ، فما بالك إن كان حول نهاية العالم . التي لا يعلم بها إلا الله ، و لكن التّمويه السّردي جاء ليشعر عبثاً بذلك : (تظهر مشاهد خسوف ودخان وتسمع أصوات أناس فزعین ) إذاً أشراط القيامة الوهمية قائمة، و الكلّ مشدود إلى شاشة القناة الفضائية ، يستطلع الأخبار و المستجدات ... لكن المفاجأة : ( مذیعة تطل في أناقة الصباح! نوافیكم بالتفاصیل الكاملة : ...في نشرة المساء. )
و السؤال المفارقة : و هل فناء العالم سينتظر أو يؤجل حتّى نشرة المساء ؟ و هل ستبقى قناة عاملة حتّى المساء و ( نهاية العالم الآن ) ؟
هذا النّص كغيره من النّصوص القصصية التي تستند إلى روح الطرفة ، بل تعتمد مفارقتها المضحكة/ المبكية كثيرا ... و لا غرو في ذلك ،لأن الق ق ج لم تنبثق من فراغ ، بل تمتد جذورها عميقاً لتستمد قوتها و دعمها من الطرفة و التّراث السّردي العربي كـ القصة/ الخبر ،و القصة/النادرة و القصة/ المثل .....
و الاستئناس بذلك يبقى رغبة و احتمالا ما لم تهيمن الطرفة ، و يغيب و يتضاءل الحسّ السّردي ,,,
عموماً في هذا النص كان هناك اسنئناس إيجابي حذر .. ما أفاد النّص من زاويتين رقة و لطافة الطرفة ، و مفارقة و قفلـــة القصة ..
(7)
"ارتباط"
جذبتني نضارها وعندما حاولت لمسها، وخزتني.
نزعت أشواكها، تفادیا للجرح،
فاعترها الذبول.
سألتها عن سر ذلك الوهن ،
فتمتمت معاتبة :
ألم تسلبني قوتي !؟
***
" ارتباط " نص معبّر ، و هادف ..
رآها نضرة فواحة ، جميلة أخّاذة ،حاول لمسها ، و دون أن ينتبه و خزته أشواكها ، فأبى إلا أن ينزع الأشواك .. لكن الوردة اليانعة سرعان ما اعتراها الذبول، فأمست شاحبة لسيناتُها الرائقة .. و مسّ تاجها الوهن..
و حين سألها عن سرّ مصابها .. و هو لا يدري أنه هو السّبب ، عاتبته :
ألم تسلبني قوتـــي !؟
و كذلك الحال في الواقع المعيش، قد نسيء للغير عن قصد أو عن غير قصد ، فنحرمه إحدى خصائصه التي تميزه ... و نتعجب لما أصابه ، وغيّره ، و أنهكه و أضعفه .. و ليتنا ندري ـ فقط ـ أنّ من سلوكنا ، ما ينبغي أن ننتبه إليه ، و من أفكارنا ما ينبغي أن نحذر منه .. ليبقى الودّ و الطيبة ، و الجمال و السّعادة ..
همسة : النص مقتضب ، و مكثف .. و مع ذلك جاءت فيه جملة تفسيرية توضيحية، و يستحسن تجنب ذلك و هي ( تفاديا للجرح ) فالكلام و السياق السّابق ..يوضح ذلك.
(8)
"أرزاق"
بحجة الحفاظ على الزهور،
سمح الحاكم للشعب بالتنزه فقط أیام العطلات.
اصطف الناس في طوابیر طویلة عند أبواب الحدائق؛
باع الفقراء أماكن ادوارهم للعشاق
واشتروا بقيمتها خبزا.
***
" أرزاق " نص رغم بساطته ، يفتح نافذة التّأمل مشرعة....فكلّ و حاجته ، و كلّ وما يريد لاشك أنّ العشاق ، و محبي الطبيعة ديدنهم ، و رغبتهم ، أن يهيموا وسط الاخضرار ، ينعمون بالأزهار، و ظلال الأشجار ، و شدو الأطيار ...و لاشكّ أنّ طائفة من النّاس و إن كانت تحبّ ذلك ، فطموحها و رغبتها الأولى أن تسدّ جوعتها ، و تضمن مأواها و ملبسها ...لهذا باع الفقراء حظهم في النّزهة للعشاق ، و اقتنوا خبزاً يسدّ رمقهم .
و النّص يذكرني بنص أخر للقاص المغربي إبراهيم بوعلو تحت عنوان " السباق" أقيم سباق للسيارات ، فوضعت حزم التبن عند المنعرجات فهبّ سكان المدينة لمشاهدة الحدث .. بينما جاء بدوي وزوجته لا همّ له بالسّباق ، و من سيفوز، و بأي سيارة ... و إنّما همّه الأساس ،أنْ يجمع التبنَ المشتّت لبهائمه التّي تتضور جوعاً بسبب الجفاف ..
النص إذاً يجمع بين المتنافرات في إطار من المفارقة :
الحفاظ على الزهورـــــ اقتناء الخبــــز
الحرص على الدور لزيارة الحديقة ــــ بيع الدور و عدم الاهتمام بالحديقة
همســة : أفضل لو استهل النّص بكلمة : (حفاظاً ). بدون كلمة : حجة
و استبدال : أيّام العطلات ، بـ أيّام العطل
تبدو كلمتا : ( أماكن) و ( بقيمتها ) زائدتان لوضوح المعنى .
(9)
واجهــــة
أغراني بالغوص سكونه ،
لكنّ أعماقه كادت تفتك بي .
عاتبته : لمَ أغويتني ؟
أجاب مستغرباً: ما كنت إلا منصتاً ، استرق السمع لعصف داهم .
سألته : و لمَ لم تحذرني ؟
رمقني مستهزئاً : و هل كنت لتراني بعد أن تعمّقت ؟
" واجهة " نص يحمل على التّأمل، و لا يعني البحر كهدف مقصدي كما يتبادر من السّياق ، و لكن ينسحب على كلّ ما يمكن أنْ يغري .. و مغريات الحياة كثيرة و مختلفة ..
لذلك جاء الخبر يتقدم المبتدأ و لا يكون هذا في الجملة الاسمية إلا لأهمية الخبر في الكلام : " الإغراء "
و إذا ارتبطنا بلفظية النّص : هدوء و سكون البحر يغري بالسباحة ، و الذهاب بعيداً شعوراً بالأمن و الأمان ، فلا ينبغي أن ننسى أنّ البحر رغم ذلك عميق و خطير، و تسكنه كائنات أشدّ افتراساً و فتكاً ..فكيف ُيطمَأن إليه ؟ لهذا لا عجب أن يكون السّابح عرضة للخطر في أي لحظة ، كما وقع لبطل النص الذي كادت تفتك به الأعماق ..و ما جدوى معاتبة البحر في سكونه و هدوئه أو إغوائه ؟ لقد كان منصتاً ، يسترق السّمع لعصف داهم ..و أنّى له أن يُحذر من يدخله؟ أليس في أهواله وجبروته موعظة ؟ و لكنّه الإغراء ، و حين يصبح الإنسان فريسته،لا يملك لنفسه خلاصاً و لا مفراً ..لذلك جاءت القفلة :" و هل كنت لتراني بعد أن تعمقت ؟"
صورة قوامها البحر ، و لكنّها ُتستنسخ لتشمل العديد من المجالات الإنسانية . و من تمّ اكتسب هذا النّص عمقه الدّلالي ، و بعده الفكري التّأملي ..محققاً بذلك مستوى من التقبل و التّلقي ، في إطار من الاتساق،و الانسجام،و التّكثيف .. الشيء الذي حقّق المقاربة المكرو سردية التي تعمد إليها دائما الق ق ج .
(10)
كیف ؟"
جهادا أحاول التشبث بنبرة الصوت التي أدمنت عشقها،
ململما أشلاء شهقتها الآخيرة،وبقایا ذاكرتي الآخذة في التلاشي.
استأت من صوت الجرذان،والكائنات الأرضیة الأخرى التي لا تكف عن التشویش ؛
فصرخت محتجا.
حین لمحت أحد الملائكة،هدأت قلیلا،
وقبلما أبادر بالشكوى،
...نصحني بالنسیان !؟
***
أشد ما يشدني في كتابة الدكتور شريف عابدين القصصية هذا الاهتمام الكبير بالقفلة ٌrésolution ، و تلك العناية الفائقة بالمفارقة Paradox و في هذا اهتمام كبير بأهمّ عنصرين يؤثثان مجال الق ق ج . بل إن العمل القصصي يفقد أهميته إذا افتقر إليهما .
و في نصوص الأستاذ د شريف عابدين نوع من التّساؤل التأملي . بمعنى أنّ الكتابة عنده ليست متعة قرائية فحسب بل فكرية فلسفية .. لأنها تحمل على التساؤل المستمر، و التأمل العميق في أشياء قد تبدو عادية كظاهرة الموت مثلا التي نعايشها يوميا .. و لكنها و كما هو الأمر في هذا النّص ، تصبح سؤالا يؤرق السّارد ، و بالتّالي القارئ المتلقي .
النّص يبدأ بتمهيد و توطئة للمفارقة : توتر و انفعال شديد من واقع لا يطيقــــه السارد (الأنا ) ظهر من خلال كلمات معبرة :( جاهداً، التشبث، أشلاء ، التلاشي ، استأت ، صرخت ..)
و فجأة ! (لمحت أحد الملائكة، ھدأت قلیلا ).انتهت المفارقة، و هي بين [ الانفعال] و [ الهدوء ] أو بين أسباب الانفعال و دواعي الهدوء .
و الملاك هنا ،رمز ليس إلا . لأنّ الملائكة لا ترى .
فالنّص يصوّر حالة السّارد و هو يحضر لحظة الموت و الفراق الأبدي، أمــــه تحتضر ، و لا يملك لها شيئاً : ( جاهدا أحاول التشبث بنبرة الصوت التي أدمنت عشقها، ململما أشلاء شهقتها الأخيرة، وبقايا ذاكرتي الآخذة في التلاشي . ) و لماذا الذاكرة تتلاشى ؟ و أين تذهب مخبوءاتها الجميلة و الأثيرة كذكريات الأم ّالحنون ؟ و لماذا لا تبقى ....؟ و كيف تبقى و السّارد المكلوم يصرخ ( استأت من صوت الجرذان والكائنات الأرضية الأخرى التي لا تكف عن التشويش؛ فصرخت محتجا. ) ؟ و ماذا يفيد الصراخ ؟ أو الاحتجاج في وضع مماثل ؟ هكذا ،يتداخل التّخييل و الواقع، و الذّاتي و الموضوعي في تركيبة سردية ..( حين لمحت أحد الملائكة، هدأت قليلا، وقبلما أبادر بالشكوى، ...نصحني بالنسيان!؟ ) و هل يملك الإنسان إلا أن ينسى أو يتناسى؟
هكذا تأتي القفلة المفاجئة ، موعظة و نصيحة و لكن بشكل غير منتظر لأنّ الإنسان مهما حاول لن يغير العالم ،و لا ما فيه من كائنات أرضية أو جرذان ( رمز ) و لا يستطيع إيقاف (التشويش) و إن كان في إمكانه أن يصرخ محتجاً. و إن كانت القفلة ، دعوة إلى النسيان ،فالأمر يحتمل رؤيتين مختلفتين :
الأولى : إن كانت هناك أشياء ينبغي أن تنسى ، فهناك أشياء كثيرة لا ينبغي أن تنسى، لأنّها أسّ الحياة ،و من أجلها تعمر الأرض و يحيا الإنسان ...
الثانية: النسيان رحمة من الله ، فلولا النسيان لقضى المرء حياته كمداً و حزناً ، و ألماً و حسرة .. و لما استطاب العيشَ لحظة واحدة .
و صدق المرحوم الشّاعر إبراهيم ناجي حيث قال :
أيّها السّاهر تغفـو++++تذكرُ العهدَ وتَصحو
و إذا ما التأم جرح++++جدّ بالتّذكار جرح
فتعلّم كيــف تنسى++++و تعلّم كيف تمحـو
مسألة ، قد يجد لها المتلقي شفاء في تراثنا الإسلامي ، و قد تبقى تساؤلات عند الآخرين، تثير قلقاً فكرياً لا ينتهي ...
و بذلك تكون المفارقة قد حققت دورها التناقضي ( الإنفعال/ الهدوء ) كما حققت القفلة دورها في المفاجأة و الدّعوة إلى النسيان .
همســة : [ وقبلما أبادر بالشكوى ] تستبدل بـ [ و قبل أن أبادر بالشكوى ] ؟
خلاصــــة :
1 ــ تنبني الق ق ج عند الأستاذ د شريف عابدين على مبدإ التّساؤل و التّأمل ،و كان لاتّجاهه العلمي بالغ الأثر في ذلك .
2 ــ لا يحفل النّص عنده بالنّتيجة و الجواب بقدر ما يعنى بالتّبئير Focalisation الذي يحقّق القصّ الموضوعي Objectif و التّبئير هو التقنية المتبعة لحكي القصّة المتخيلة ، بمعنى ، موقع الرّاوي من عملية القصّ ، و علاقته بالشّخصية الحكائية .
3 ــ الاهتمام بالحلم و التّخييل و كأنّي بالكاتب يستجيب لقولة جول رونار Jules Renard ( الخيال ترف التّفكير .. le rêve c'est le luxe de la pensée)
4 ــ يستحسن تجنب الجمل التّفسيرية ، ما دام السّياق يغني عن ذلك .
5 ــ جميل الاهتمام بالمفارقة و القفلة ، و الأجمل ملاءمتهما .
6 ــ بدل الوصف يستحسن توظيف المؤشرات Les indicateurs
و عموماً،كتابة د شريف عابدين القصصية تعتمد رؤية تخييلية ، تعتمد إواليات مختلفة كالتّمثلات ، و الحجاج ، و الاستشكالProblématisation ..بحثاً عن ظاهرة سيكولوجية، أو سوسيولوجية،أو سياسية.. استئناسا بالفروق الجبرية و الإستاتيكية ،و سوسيوثقافية .. الشيء الذي يجعل القارئ أمام نصّ متعدّد الدّلالات و يُحمله مهمة الكشط و التنقيب، و البحث عن الدّلالة و المعنى ممّا يتطلب التّوسّل بالنّظرية التّأويلية، التّداولية، المعرفية ، التي تعتبر التّخييل من مظاهر التّواصل .
مسلك ميمون
المفضلات