عمرو بن العاص ونابليون بونابرت:مقارنة موضوعية

الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض

فى كتابه عن "تاريخ العرب" يقارن فيليب حِتِّى بين بعض القادة المسلمين فى ذلك العصر، عصر الفتوح الإسلامية، وأمثالهم من القادة السياسيين والعسكريين الغربيين كالإسكندر ونابليون، مقارنة كانت فى مصلحة الأولين. وكنت قد قرأت لجرجى زيدان فى كتابه: "تاريخ التمدن الإسلامى" أن صدر الإسلام قد اختص برجال توفرت فيهم خصال العصر، وأن ذلك العصر قد امتاز بنبوغ الرجال العظام كما امتاز عصر نابليون الكبير بقواد لم تلد فرنسا مثلهم، وأنه إذا كان قواد نابليون قد نبغوا إثر الثورة الفرنسية فقد نبغ قواد الصدر الأول للإسلام إثر واقعة الفيل، التى أراد الأحباش بها السطو على الكعبة، وحركت ساكن العرب فأظهرت من قواهم بالضغط والاحتكاك، فكأن الله قدر للعرب النصر فاختصهم بقواد من نخبة قواد العالم فى الحرب والدهاء والسياسة والحكمة كأبى بكر وعمر وعلى وخالد بن الوليد وأبى عبيدة بن الجراح وسعد بن أبى وقاص وحمزة بن عبد المطلب ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية والمغيرة بن شعبة... إلخ. كما يقول إن هؤلاء الرجال لو ظهروا فى العصر الحديث لكانوا من عظماء الناس الذين يتمثل العالم المتمدن بعظمتهم كما يتمثل الإفرنج ببونابرت وكرومويل وبسمارك وجلادستون وغيرهم[1].

وفى رأيى أن اولئك الرجال هم أفضل من نظرائهم الغربيين كثيرا رغم ما قد يبدو لبعض الناس من غرابة فى هذا الحكم، إذ الناس متأثرون فى استغرابهم هذا بتفوق الغرب فى السياسة والاقتصاد والإدارة وأمور الحرب فى هذا العصر تفوقا شديدا، ولا يصمد للمقارنة برجاله عموما إلا القليلون جدا من رجال الأمم الأخرى المعاصرة بحيث يظن الناس أن الغربيين كانوا هكذا طوال تاريخهم، وأنهم سيظلون هكذا إلى يوم الدين، وأن عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وأبا بكر وعلى بن أبى طالب لا يستطيعون أن يطاولوا الرموز الغربية فى السياسة والإدارة وما إلى هذا مثلما لا يستطيع ابن حيان أو ابن الهيثم أو ابن سينا أو الخوارزمى أو الرازى مثلا أن يطاول نظيره من علماء الغرب فى العصر الحديث. وهم فى هذا الوهم يتصورون أنه ما لم يكن الشخص مرتديا قبعة وبدلة فهو متخلف، وما دام أبطال العرب القدماء كانوا يلبسون عقالا، ويحملون سيفا، ويركبون الناقة، ويستعملون أيديهم فى تناول الطعام فإنهم، دون أدنى ريب، متخلفون عن أولئك الغربيين، الذين يحاربون بالدبابة والقنبلة والمدفع، ويتنقلون أثناء معاركهم بالطائرة والسيارة الجيب والغواصة، ويستخدمون فى طعامهم الملعقة والشوكة والسكين. وهى بلا ريب نظرة خاطئة، فالغربيون كانوا متخلفين إلى وقتٍ جِدِّ قريبٍ، ولم يتقدموا إلا بالاستقاء من حضارة المسلمين، التى قدمت للعالم فى حينها أعظم ثمرات الفكر والعلم والفنون، والتى استفادت بدروها كأية حضارة أخرى ناشئة من الحضارات السابقة عليها، ثم مالت إلى الشحوب، ثم انتهى أمرها إلى ما نعرفه كلنا من تخلف بسبب الخمول والبلادة والخنوع والرضا بالقليل والشعور بالهوان والإخلاد إلى الكسل والاستسلام، على العكس تماما من أسلافهم فى عصر النبى وما بعده بقرون.

ثم إن التقدم مسألة نسبية، فمكتشف النار لا يقل فى مضمار التطور الحضارى عن مكتشف قانون الجاذبية أو مكتشف الميكروب ودوائه مثلا. ومثل ذلك يصدق على الإنسان الأول فى فجر التاريخ حين ترك كوخه وسار بعيدا عن مسكنه وشاهد ما لم يره من قبل، فهو لا يقل فى أهميته الحضارية عمن اكتشف القطب الشمالى بل لا يقل أهمية عن أول من وصل إلى القمر... وهكذا. وليست العبرة بالملابس وأدوات الطعام ووسائل الاتصال وما إلى ذلك، فهذه كلها أدوات مادية تكتسب أهميتها مما يكمن خلفها من مجهود عقلى هو الذى أدى إلى صنعها. وهذا المجهود العقلى واحد فى كل الحالات رغم اختلاف ثماره، التى قد تضلل بعض الناس وتوهمهم أن كل شىء أو كل شخص معاصر هو أفضل من أى شخص أو أى شىء قديم، ناسين أن ما هو معاصر الآن سوف يصير مع الزمن قديما حتى لتصبح الدبابة والغواصة والقنبلة والطائرة أدوات متخلفة عما ستكون البشرية قد اخترعته وأصبحت تستخدمه، وأخذت تنظر عنده إلى هذه الأشياء نظرة احتقار واستصغار، وحتى ليُضْحِى الرجلُ الغربىُّ رمزُ التقدم والتفوق حاليًّا مثالَ التخلف والتلكؤ كما كان أسلافه إلى وقت غير بعيد، وذلك حين تنهض الشعوب العربية والإسلامية وتسترد عافيتها وتجتهد وتبدع وتتوثب حيويةً كما كان أجدادها يفعلون قبل أن يدور الزمن دورته ويصيروا متخلفين.
أما كيف يَفْضُل أولئك الرجالُ المسلمون الذين ذكرهم حتى وزيدان نظراءهم من الغربيين فسوف يتضح هذا من المقارنة بين فتح مصر على يد عمرو بن العاص وبين الغزو الفرنسى لمصر على يد نابليون بونابرت وكليبر ومينو. وهو مجرد مثال واحد من أمثلة كثيرة: فمثلا لم يتم الغزو الفرنسى لمصر إلا بناء على تقارير أعدها جواسيس ودبلوماسيون فرنسيون من أعلى طراز يستعينون بأحدث الوسائل فى عصرهم، على حين لم يكن شىء من ذلك متوفرا فى حالة الفتح الإسلامى لمصر، بل كان هناك فقط عمرو بن العاص، الذى اقترح على الخليفة ذلك الفتح وزينه له، فى الوقت الذى كان الخليفة مترددا، وظل كذلك حتى آخر لحظة، إذ أرسل له وهو فى الطريق رسالة تأمره بأن يرجع أدراجه إذا لم يكن قد تجاوز الحدود المصرية.
وفى حالة الغزو الفرنسى كان هناك جيش عرمرم قوامه 28 ألف جندى وضابط مهيَّئين لهذا الغزو بالتعليم والتدريب العاليين، وكان هناك أسطول مجهز تجهيزا تاما لتلك العملية، فضلا عن جيش مواز من المستشرقين العلماء فى كل ميادين المعرفة: الطبيعية منها والإنسانية، فضلا عن مطبعة وآلات علمية من كل نوع تمثل آخر ما تفتقت عنه الثقافة والصناعة الغربية فى ذلك الوقت، وهو ما لم يكن له أى وجود فى فتح مصر. وعلى رأس كل ذلك نابليون بونابرت، الذى صدع الفرنسيون وما زالوا يصدّعون بعبقريته أدمغتنا بحسبانه من الفلتات العسكرية التى نادرا ما يجود الدهر بمثلها، ومعه مساعدوه الذين لا يقلون عنه كثيرا فى الموهبة. لكن على الجانب الإسلامى لا نرى شيئا من ذلك، فلا ضباط ولا جنود بالمعنى الذى نفهمه من تينك الكلمتين، بل رجال وشبان متحمسون لم يتخرجوا كالفرنسيين من كليات أو معاهد أو أكاديميات ولم يتدربوا يوما تدريبا عسكريا، ولا يتجاوز عدهم أربعة آلاف، وإن جاءتهم أثناء المعارك التى دارت بينهم وبين جيوش الرومان بعض الأمداد. بل إن عمرو بن العاص لم يسبق له قبل ظهور الإسلام أن اشترك فى حرب. كما أن الحروب القليلة التى خاضها ضد قوات الإسلام قبل أن يعتنقه كانت أشبه ما تكون بالمعارك القبلية التى لا تُعَدّ شيئا مذكورا إزاء الحروب الحديثة لا فى تخطيطاتها ولا فى أسلحتها.
وإذا كانت الحملة الفرنسية قد خلفت لنا فى وصف مصر عشرين مجلدا ضخما مصوغة بأسلوب علمى بلغ الغاية من الدقة، مع الاستعانة بالخرائط والتصاوير والإحصاءات، ولم تترك شاردة ولا ورادة فى مصر من ناحية التاريخ أو الجغرافية أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الدين أو اللغة إلا وفَصَّلت فيها القول تفصيلا، وكتب كلَّ موضوع من موضوعاتها مؤلفٌ متخصصٌ فيه اعتمد بدوره على ما كُتِب فى ذلك الموضوع من مصادر ومراجع، فإن كل ما وصلنا عن وصف مصر هو تلك السطور المعدودة التى تضمنتها رسالة عمرو بن العاص للخليفة ابن الخطاب، وهى سطور أقرب إلى الشعر منها إلى الوصف العلمى. ومع هذا فإن سطور عمرو ترتبط بالتوفيق الناصع الكامل الذى لاقاه المسلمون فى فتح المحروسة، بينما لم يكن وراء مجلدات "وصف مصر" إلا الفشل الذريع الشامل. وهذا إذا كانت رسالة عمرو للفاروق عمر صحيحة تاريخيا، أو على أقل تقدير: قد وصلت إلينا فى صيغتها الأصلية.

ويتكون كتاب "وَصْف مصر" من 20 مجلدًا تمت كتابتها وتجميعها إِبَّان الحملة الفرنسية على مصر، إذ اصطحب نابليون بونابرت معه فريفًا من العلماء من كافة التخصصات وصل عددهم نحو 260 عالما ليسجلوا ملاحظاتهم. وبعد عودة الفريق إلى فرنسا قام وزير الداخلية آنذاك جان أنطوان شبتال في 18 فبراير 1802م بتشكيل لجنة من العلماء والملاحظين قامت بنشر جميع المواد العلمية الخاصة بالحملة، ومنها10 مجلدات للوحات،وأطلس خرائط، و9 مجلدات للدراسات العلمية. أما وصف عمرو لمصر فها هو ذا كما أورده ابن تغرى بردى فى كتابه: "النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة"، وإن كنا نظن أن يد البيان والبديع قد لعبت على مر الأيام بالنص الأصلى إذا صح أنه له فعلا، إذ من المؤكد أن أسلوب عمرو أبسط من ذلك كثيرا: "قال بعض المؤرخين إنه لما استقر عمرو بن العاصي رضي الله عنه على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنْ: صِفْ لي مصر. فكتب إليه: "ورد كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر. اعلم، يا أمير المؤمنين، أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء. طولها شهر، وعرضها عشر. يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر. يخط وسطها نيل مبارك الغزوات، ميمون الروحات. تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر. له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه. تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصْلَخَمَّ عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل وُرْق الأصائل. فإذا تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته. فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب. لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم. فإذا أحدق الزرع وأشرق سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء. والذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقر قاطنيها فيها ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يُسْتَأْدَى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها، في عمل جسورها وترعها. فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال. والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل".

وفى ابن تغرى بردى أنه "لما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لله درك يا بن العاص! لقد وصفت لي خبرا كأني أشاهده". ويقول د. حسن إبراهيم حسن إن هذا الخطاب قد تُرْجِم إلى الفرنسية، وعلق عليه الكاتب الفرنسى أوكتاف أوزان فى صحيفة "Le Figaro" بأنه من أكبر آيات البلاغة فى كل لغات العالم، وإنه من الفرائد فى إيجازه وإعجازه. ثم زاد فاقترح تدريسه فى جميع مدارس الدنيا حتى يتعلم التلاميذ والطلاب منه قوة الوصف ومتانة التعبير وصحة الحكم على الأشياء وكيفية تنظيم الدول وسَوْسِها[2].
ومُضِيًّا مع المقارنة بين الفتح الإسلامى لمصر والحملة الفرنسية عليها نقول إن نابليون بونابرت قد التجأ فى غزوه لمصر إلى الخداع الحقير، فقد تظاهر أمام أهليها كذبا ونفاقا بأنه مثلهم مسلم، وأنه إنما جاء بجيشه لتحريرهم من المماليك. وبالمناسبة فقد كان يصحب الجيشَ الفرنسىَّ مجموعةٌ كبيرةٌ من البغايا مهتمهن الترفيه عن الضباط والجنود، أما عمرو وصحبه فلم يكونوا يعرفون مثل ذلك الدنس الخلقى والاجتماعى والإنسانى. ذلك أن عمرو بن العاص هو ابن الإسلام. لهذا لم يعرف جيشه هذا العهر الغربى. كما صارح رضى الله عنه أسلافنا منذ البداية ببضاعته العقيدية وعرّفهم أنه إنما جاءهم بدين التوحيد. إنه لا يعرف الأساليب النابليونية الكاذبة، بل الأسلوب الإسلامى المستقيم. ولقد مضى نابليون فى سُنَة الخداع والكذب إلى الدرجة التى كان يلبس ملابس علماء الإسلام فى مصر ويشهد صلوات الجمعة مع المسلمين، وإن لم ينطل شىء من ذلك على أهلينا الكرام، الذين هبوا ثائرين عليه رافضين ألاعيبه الدنسة، وظلوا فى ثورة متصلة حتى استطاعوا آخر المطاف أن يدحروا الجيش الفرنسى بعد ثلاث سنوات كان ذلك الجبان قد فر أثناءها من مصر تحت جنح الظلام وتركها للمجرم كليبر، الذى اغتاله البطل المسلم الحر سليمان الحلبى ليتولى مقاليد قيادة الجيش الفرنسى وإدارة شؤون البلاد من بعده جاك مينو، الذى أعلن إسلامه وتزوج من امرأة رشيدية مسلمة. ولكن ذلك كله لم يدخل عقول المصريين، فلم يتوقفواعن الثورة. وكان أَنْ رَحَل الفرنسيون فى النهاية عائدين من حيث أَتَوْا يجللهم الخزى والفشل والعار. وقد ارتد ذلك الوغد مينو، الذى كان قد تسمى بعد تظاهره بالإسلام باسم "عبدالله"، إلى النصرانية مرة أخرى بعد عودته إلى فرنسا، ثم لم يكتف بذلك بل خدع زوجته المصرية المسلمة بأن تنصير طفلهما لا يناقض الإسلام، مستعينًا بمستشرق لئيم مثله أقنعها بصحة هذا الأمر، مستغلا فى ذلك غربتها فى فرنسا وسذاجتها، وزاد فكان يعاملها معاملة سيئة غاية السوء. ويقال إنه قد انتهى الأمر بها إلى انخداعها بكلامه وتحولها إلى النصرانية باعتبار أن الأديان كلها واحدة[3].

أما عمرو فنجح فى فتحه لمصر، التى اعتنقت الإسلام وتبنت اللغة العربية وثقافة العرب والمسلمين وتخلت تماما عن لغتها وثقافتها بمحبة واقتناع تَحَوَّلا مع الزمن إلى عشقٍ ووَلَهٍ حتى بَزَّتْ مصرُ فى ذلك بلادَ العرب نفسها، وأضحت هى حامية حمى الإسلام والعروبة بعدما دحرت الصليبيين والتتار. أى أنه فى الوقت الذى نجح فيه عمرو وحده فى قيادة فتح مصر نجد أن ثلاثة من أكابر قواد فرنسا بل أوربا كلها يفشلون فشلا ذريعا فى مجرد البقاء فى مصر، فضلا عن طبعها بالطابع الفرنسى لغة وثقافة ودينا إلى الأبد كما حصل فى حالة الفتح الإسلامى. كذلك فعمرو لم يفتح مصر وحدها، بل فتح فلسطين، وشارك فى فتح الشام من قبل، زيادةً على فتحه طرابلس من بعد. فانظر أيها القارئ الكريم وتأمل، ولسوف تتحقق فعلا أن الأمر كما قلت لك من أن عمرو بن العاص أفضل كثيرا من أولئك الساسة والقادة العسكريين الذين قارنهم به كل من حِتِّى وزيدان.
فتح مصر إذن وانطباعها بالطابع العربى الإسلامى يعود الفضل فيه إلى عمرو ورجاله بعد الله سبحانه، عمرو ورجاله الذين رباهم رسولنا الكريم على عينه فأحسن التربية. وإذا كان الغزو الفرنسى قد فشل فشلا ذريعا حتى لقد فقدت القوات الفرنسية نصف رجالها على أيدى أجدادنا الأبطال، فها هى ذى ثمار الفتح الإسلامى بل بركاته وأفضاله وهباته الكريمة لا تزال قائمة حية فى كل مكان رغم كل ما مرت به مصر من مؤامرات من القوى الدولية الكبرى ضد الإسلام منذ أول يوم. كذلك لم يحترم الفرنسيون دور العبادة الإسلامية قط حتى لقد دنس الضباط والجنود الفرنسيون الملاعين الجامع الأزهر نفسه بخيولهم، التى أوطأوها إياه وتركوها تبول وتروث بداخله بعدما ربطوها فى قبلته، علاوة على فظائعهم الأخرى من تقتيل للرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وهتك للأعراض، وتحريق للمنازل، ومصادرة للأموال، وموالاة لفرض الضرائب الباهظة. أما المسلمون فلم يَمَسُّوا كنيسة أو معبدا بأى أذى، واحترموا دين المصريين رغم إيمانهم بأن كل دين ما عدا دين الإسلام غير مقبول عند الله. وكانت الجزية لا تتجاوز دينارين عن كل فرد نظير أمرين: حمايته، وإعفائه من الخدمة العسكرية، التى لم يكن يصح ولا يليق أن ينخرط فيها غير المسلم حتى لا يجد نفسه وقد تعين عليه أن يواجه أبناء دينه فى الحرب. فانظر إلى الفرق العظيم بين الفتح الإسلامى لمصر على يد عمرو، الذى كان يمثل دولة ناشئة بدائية لا تملك من إمكانات الدول شيئا له قيمة على الإطلاق، وبين الغزو الفرنسى، الذى تَعَاقَبَ على قيادته ثلاثة من كبار رجال فرنسا، وفشلوا جميعا أمام شعب متخلف عن فرنسا بأشواط شاسعة، بخلاف الوضع فى الفتح الإسلامى، إذ قام به عدة آلاف من الجنود البدائيين ضد دولة الروم: أمريكا ذلك العصر.

وحتى تكتمل الصورة لا بد أن نوضح للقارئ ما نبهنى ابنى إلى أنه لا يصح أن نُغْفِل فى هذا السياق، سياق الموازنة بين نابليون وبين المجاهد العظيم عمرو بن العاص، ما يعرفه التاريخ من أن الانتصارات التى حققها نابليون فى أول حياته العسكرية قد انتهت فى آخرها إلى هزائم مريرة فقدت فيها فرنسا كل شىء، وفقد هو معها كل مجده وكرامته، إذ تم أسره ونفيه خارج فرنسا ذليلا مهانا حيث مات ميتة تعيسة، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت! أما إنجازات عمرو بن العاص وانتصاراته الباهرة المجيدة فقد بقيت كلها لا لسنوات معدودة ثم ذابت مثلما تذوب رَغَاوَى الصابون كما هو الحال فيما حققه نابليون فى حروبه، بل لقرون وقرون، وسوف تستمر إلى ما شاء الله. وقَضَى الرجل عزيزا لم يمس كرامته سوء، ولم يستطع الأعداء معه شيئا، إذ كانوا قد اندحروا اندحارا نهائيا أمام ضرباته الساحقة، رضى الله عنه وأرضاه.

تقول مادة "نابليون الأول" فى نسخة "الويكيبيديا" العربية عن هذا الجانب من حياة القائد الفرنسى: "خاضت الإمبراطورية الفرنسية نزاعات عدّة خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر عُرِفَتْ باسم "الحروب النابليونية"... وأحرزت فرنسا انتصارات باهرة في ذلك العهد على جميع الدول التي قاتلتها، وجعلت لنفسها مركزًا رئيسيًّا في أوروبا القارِّيّة، ومدّت أصابعها في شؤون جميع الدول الأوروبية تقريبًا حيث قام بونابرت بتوسيع نطاق التدخل الفرنسي في المسائل السياسية الأوروبية عن طريق خلق تحالفات مع بعض الدول، وتنصيب بعض أقاربه وأصدقائه على عروش الدول الأخرى. وشكّل الغزو الفرنسي لروسيا سنة 1812 نقطة تحول في حظوظ بونابرت حيث أصيب الجيش الفرنسي خلال الحملة بأضرار وخسائر بشرية ومادية جسيمة لم تُمَكِّن نابليون من النهوض به مرة أخرى بعد ذلك[4]. وفي سنة 1813 هزمت قوّاتُ الائتلاف السادس الجيشَ الفرنسيَّ في معركة الأمم. وفي السنة اللاحقة اجتاحت هذه القوّات فرنسا ودخلت العاصمة باريس وأجبرت نابليون على التنازل عن العرش، ونَفَوْه إلى جزيرة ألبا. وهرب بونابرت من منفاه بعد أقل من سنة وعاد ليتربع على عرش فرنسا، وحاول مقاومة الحلفاء واستعادة مجده السابق، لكنهم هزموه شر هزيمة في معركة واترلو خلال شهر يونيو من عام 1815. واستسلم بونابرت بعد ذلك للبريطانيين، الذين نَفَوْه إلى جزيرة القديسة هيلانة، المستعمرة البريطانية، حيث أمضى السنوات الست الأخيرة من حياته. وأظهر تشريح جثة نابليون أن وفاته جاءت كنتيجة لإصابته بسرطان المعدة على الرغم من أن كثيرًا من العلماء يقولون بأن الوفاة جاءت بسبب التسمم بالزرنيخ".

أرجو أن تكون صورة عمرو بن العاص وعظمته قد تجلت من خلال هذه المقارنة السريعة التى لم أتوقف فيها إلا عند الخطوط العامة. رضى الله عن عمرو بن العاص رضى واسعا، وجازاه عنا نحن المصريين خير الجزاء، فإن له فى أعناقنا جميعا لَدَيْنًا كبيرًا. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال فى حق عمرو رضى الله عنه: "ابنا العاص مؤمنان"، أى عمرو وأخوه هشام، و"عمرو بن العاص من صالحى قريش. ونعم أهل البيت: أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله"[5].

وقِسْ على الغزو الفرنسى محاولة الإنجليز احتلال مصر بقيادة الجنرال فريزر سنة 1807م، أى بعد اندحار الفرنسيين بأعوام خمسة ليس إلا، تلك المحاولة التى مُنِيَت بالفشل التام وخروج أصحابها أذلاء مهانين مدحورين أمام بسالة سكان رشيد، الذين لم يمكنوا أولئك المجرمين من النفوذ إلى مصر عبر مدينتهم مستعينين بالله سبحانه وبطلقات الرصاص الذى انهمر دفعة واحدة فوق رؤوس الأوباش الإنجليز وهم متناثرون كالدجاج الدائخ فى شوارع المدينة، وأهل رشيد يرددون اسم الله الكريم من فوق مئذنة الجامع الكبير، ليعود أوغاد بريطانيا بعد مرور خمسة وسبعين عاما لاحتلال البلاد إثر طائفة من الأحداث المريبة والخيانات العجيبة، ولكنهم لا يستطيعون البقاء فى مصر سوى سبعين عاما خرجوا بعدها، بينما الإسلام والعروبة والثقافة الإسلامية العربية راسخة على مدار أربعة شعر قرنا فى أرض المحروسة، وخالدة إلى الأبد إن شاء الله. وكل ذلك، بعد الله سبحانه، بفضل عمرو بن العاص وجنوده النبلاء الكرام، رضى الله عنهم وأرضاهم. ولا ريب فى أن هذا هو أقوى رد على من يزعمون أن المصريين لم يبسطوا ذِرَاعَىِ الترحيب لعمرو ورجاله. ترى لماذا أصر المصريون على خروج الفرنسيين ثم الإنجليز من بعدهم من بلادهم، ولم يدخروا تضحية ولا بذلا فى هذا السبيل حتى دحروهم رغم أن مصر دولة ضعيفة متخلفة فقيرة، على حين كان العكس هو الصحيح فى الفتح الإسلامى الكريم؟ ولماذ أقبلوا على الدين الذى جاء به عمرو، واللغة التى كان يتكلمها عمرو، والثقافة التى كان يتثقف بها عمرو، ورفضوا لغة الإنجليز والفرنسيين وثقافتهم ودينهم رغم كل هذا؟

وأخيرا أحب أن أورد شهادة أحد الكتاب بالقسم الخاص بمدينة الإسكندرية فى كتاب "وصف مصر"، إذ وصف ابْنَ العاص، إعجابا به وبمقدرته العسكرية والسياسية، بأنه "عمرو الرهيب"[6]. وهذه الشهادة فى سياقنا الحالى هى أهم شهادة من نوعها لأن قائل هذا واحد ممن اشتركوا فى الحملة الفرنسية، تلك الحملة التى تحققنا، من خلال المقارنة بينها وبين فتح مصر على يد عمرو بن العاص، أنها فى الرَّغام، أما الفتح الإسلامى ففى السماء السابعة. وشهد شاهد من أهلها!

هذا، ولا بد أن ألفت النظر هنا إلى شىء غاية فى الأهمية، وهو أن المسلمين فى البلاد التى فتحها العرب هم من أهل البلاد المفتوحة، اللهم إلا نسبة جد ضئيلة لا تكاد تُذْكَر. ذلك أن العرب الذين كانوا يدخلون تلك البلاد إنما كانوا يدخلونها بآلاف معدودة ليس إلا. وماذا تكون تلك الآلاف المعدودة فى بحر الملايين المتلاطم من سكان كل بلد؟ لقد دخل عمرو بن العاص مصر مثلا أول ما دخلها بأربعة آلاف جندى أو أقل، ثم جاءته على سبيل المدد بضعة آلاف أخرى. ثم إن هؤلاء جميعا لم يستقروا فى مصر إلى الأبد، بل مضى بعضهم يفتح البلاد غربا. أقول هذا لأعالج خطأ صرنا نسمعه هذه الأيام مؤداه أن المسلمين فى مصر ليسوا مصريين فى الحقيقة، بل هم عرب انتقلوا إلى مصر عند الفتح، ثم استقروا فيها ولم يعودوا إلى بلادهم منذ ذلك الحين. والآن عليهم، فى رأى من يزعمون هذا، أن يعودوا من حيث أَتَوْا، أى إلى بلاد العرب، أو "جزيرة المعيز" كما يسميها بعض هؤلاء الزاعمين. وهذا أمر خطير سوف تكون له عواقبُ وخيمةٌ. فالإسلام فى نظر هؤلاء ليس دينا مصريا، بل دينا أتى من خارج الحدود. ونسى هؤلاء أن الدين المصرى الأصيل الذى نعرفه هو وثنية الفراعين، وأن النصرانية هى أيضا دين أتى من خارج الديار، مثلها مثل الإسلام سواء بسواء[7].

وكثير من الناس للأسف ينظرون إلى مسلمى الأندلس بنفس العين، ويَرَوْنَ فيما فعله الملكان الإسبانيان فرديناند وإيزابلا من إعادة شبه جزيرة أيبريا نصرانية كما كانت قبل مجىء العرب إليها أمرا عاديا ليس فيه ما يمكن أن يؤخَذ عليهما، بما فيه طرد المسلمين من البلاد أو قتلهم أو تنصيرهم قسرا. ومقطع الحق أن المسلمين الذين كانوا يعيشون فى شبه جزيرة أيبريا إنما كانوا أوربيين حتى أولئك الذين كانوا يحملون أسماء عربية لا نستثنى منهم مع مضى الوقت أولاد الحكام أنفسهم. ذلك أن العرب الخُلَّص هناك كانوا نسبة صغيرة جدا كما هو معروف، فهم نقطة فى بحر من أهل البلاد، ثم تزوج كثير منهم من السكان المحليين فنشأ جيل مخلَّط، ثم تزوج كثير من هذا الجيل المخلَّط من السكان المحليين أو من أمثالهم من الجيل المخلَّط فصارت نسبة الدم العربى مع مرور الزمن ضئيلةً جِدَّ ضئيلةٍ... ويؤكد هذا فيليب حتى، إذ يقول إن أهالى البلاد المفتوحة قد تزاوجوا بالعنصر الفاتح فاختلط بهم الدم العربى حتى ضاع بين العناصر[8]. ويوضح هذا فى موضع آخر قائلا إنه باعتناق الفرس والسريان والقبط والبربر الدين الجديد وتزاوجهم بالعرب لم يعد لقومية المسلم أهمية، إذ صار كل من أسلم وتحدث بالعربية عربيا بغض النظر عن جنسه الحقيقى[9].
ولتوضيح هذه النقطة أسوق ما ذكره د. أحمد أمين فى كتابه: "ضحى الإسلام" من أن أم الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور بربرية، وأم الرشيد سَبِيٌّة من خَرْشَنة، وهى بلدة قرب مَلَطْية، وأم المأمون فارسية، وأم الواثق أَمَة تسمى: قراطيس، وأم المتوكل أَمَة تسمى: شجاع... وهكذا[10]. وأما مسلمو الأندلس فإنهم، كما هو الحال فى أى بلد آخر فتحه المسلمون، قد أَتَوْا من أن معظم أهل البلاد اعتنقوا الإسلام مع الأيام مثلما حدث فى مصر وغيرها. وكثيرا ما تساءلت أمام طلابى: إلى أى مدى يمكننا أن نعد ولادة بنت المستكفى مثلا عربية؟ فأما من ناحية الجنس فربما لم يكن يزيد ما فى عروقها من دم عربى للأسباب التى وضحتها على عشرة فى المائة، أما أنها عربية الثقافة واللغة والأدب والعادات والتقاليد فهى عربية عريقة. ولا يصح أن ننسى أن أمها أَمَةٌ من أهل البلاد، شأنها فى ذلك شأن كثير من الخلفاء الأمويين وأبنائهم وبناتهم فى الأندلس.

وعلى هذا الأساس فالذين نُفُوا من الأندلس أو نُصِّروا كَرْهًا أو تم تعذيبهم وقتلهم هم أسبانٌ خُلَصَاءُ الأسبانيةِ أو ذوو نِسبةِ دمٍ أسبانيةٍ عالية. ومن ثم فالحديث عن الاضطهاد الذى يقال إنه وقع بالمصريين فى ظل الحكم الإسلامى هو كلام غير دقيق. فمثلا بالنسبة إلى الادعاء الخاصّ بإلجائهم إلى اعتناق الإسلام فإن من بَقِىَ على نصرانيته منهم دليل لا يُدْحَض على أن أسلافهم لم يتعرضوا للإكراه الدينى المزعوم، وإلا ما بَقُوا على نصرانيتهم. وأما المسلمون الذين يُدَّعى أن أجدادهم قد دخلوا فى الإسلام برغم أنوفهم فإنهم لا يَشْكُون من شىء بتاتا حتى لو ثبت أن هذا صحيح، وما هو بصحيح أبدا، بل يعتزّون بدينهم ويَعَضُّون عليه بالنواجذ، ويَرَوْن أن الله قد أكرمهم بانتسابهم إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم، ويُكِنّون للصحابى الجليل عمرو بن العاص رضى الله عنه محبة خاصة لأنه كان، بعد الله سبحانه وتعالى، السبب فى تعرّفهم إلى هذا الدين، واعتناقهم له وتشرّفهم به من ثَمَّ. ولهذا يَسْتَحْلُون اسم "عمرو" ويكثرون من تسمية أبنائهم بهذا الاسم المحبوب. وكما لا يتدخل المسلمون، وهم نحو خمسة وتسعين بالمائة من السكان، فى عقائد شركائهم فى الوطن أو يقولون إن هؤلاء الشركاء ينبغى أن يغادروا البلاد لأن دينهم غير مصرى، ولأن نسبة منهم تنتمى إلى جنسيات أخرى كاليونان والأرمن والشوام والقبارصة وما إلى ذلك، فينبغى أن يراعى إخوان الوطن هذا المبدأ، وبخاصة إذا كان المسلمون يشكلون الأغلبية الساحقة. ومن ثم فليس من الحق، ولا من اللياقة، فى شىء أن يقال إن مسلمى مصر ضيوف كما صرح بذلك بعضهم منذ فترة غير بعيدة. والمفارقة فى الأمر أن من قال ذلك لا يشبه فى ملامحه ولا فى لون بشرته المصريين الأصلاء كما لاحظ من علقوا على كلامه من المسلمين. لكننا لا نقف عند هذه الملاحظة الأخيرة، بل نقول إن صدر مصر يتسع للجميع. والعبرة أن نفهم ذلك ونتصرف جميعا على مقتضى الحكمة والوطنية والكياسة بدلا من الرعونة والاستفزاز الذى لا ثمرة له غير إحراق الوطن. وبالمناسبة فرغبة بعض من ينتسبون إلى الأقلية بمصر فى التحكم فى سير الأمور فى البلاد تمثل النقيض التام لمبادئ الشورى والديمقراطية. وَقَى الله مصرنا الحبيبة شرور الفتن ما ظَهَر منها وما بَطَن! ووقى الله سائر البلاد العربية التى تتردد فى جنباتها هى أيضا مثل هذه الدعوة!

عن المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير

الهوامش:
[1] انظر جرجى زيدان/ تاريخ التمدن الإسلامى/ 1/ 67- 68.
[2] انظر د. حسن إبراهيم حسن/ تاريخ عمرو بن العاص/ مكتبة مدبولى/ سلسلة "صفحات من تاريخ مصر"/ العدد 34/ 1996م/ 194.
[3] فى كتاب حمدى البطران: "مصر بين الرحالة والمؤرخين" أن الزوجة، واسمها زبيدة، كانت شابة، فى الوقت الذى كان مينو يقترب من الخمسين. وقد سُمِّىَ الولد باسم سليمان مراد جاك مينو. ولما تم جلاء الجيش الفرنسي عن الإسكندرية طلب لها مينو الإذن بالسفر إلى فرنسا والتقى بها هناك. وقد أساء ذلك الوغد معاملتها وتنكر لها واستبدل بها بعض الراقصات. كما كتب الطهطاوى فى كتابه: "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" أنه عندما سافر إلى العاصمة الفرنسية عام 1826م شاهد عددا كبيرا من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنسيين، وندر وجود أحد من المسلمين بينهم، إذ كان المسلمون إما ماتوا وإما تنصروا، وإن كان أيضا قد شاهد امرأة عجوزا باقية على الإسلام. وسمع في مرسيليا أن مينو رجع عن إسلامه إلى النصرانية، وأن زوجته لما وضعت ابنها أراد مينو أن يعمّده، لكنها رفضت. فحاول أن يقنعها بأن الأديان مآلها جميعا واحد، لكنها أصرت على الرفض. فما كان منه إلا أن أحضر لها المستشرق دي ساسى، طالبا منها أن تسأله، فاستشهد لها الثعلب الماكر بقوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (سورة البقرة/ 62)، موهما إياها أن الآية تسوى بين الأديان جميعا، على حين أن الآية بكل وضوح تشترط، إلى جانب العمل الصالح، الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو ما لا يتم إلا بالإيمان بكل الأنبياء والكتب السماوية، وفى المقدمة سيدنا محمد والقرآن كما هو مذكور فى القرآن نفسه. فعندئذ صَدَّقَتْه وأَذِنَتْ بتعميد ولدها. ويقول الطهطاوى إنه سمع أنها قد تنصرت فى نهاية المطاف أيضا.
[4] فقد نابليون من رجاله حَوَالَىْ نصف مليون فى روسيا وحدها. قارن ذلك بالعدد الصغير الذى خسره عمرو بن العاص فى كل معاركه، ودعنا من الثمار العظيمة التى جناها المسلمون من وراء هذه المعارك مقارنة بالفشل الفادح الذى مُنِيَتْ به فرنسا على يد قائدها المغوار.
[5] أرجو، إذا وهبنا الله حفيدا آخر غير خالد، الذى اخترت له اسم الصحابى الكبير خالد بن الوليد، والذى ألقبه وهو لا يزال رضيعا بـ"الفيلسوف الصغير"، أن نسميه بمشيئة الله: "عَمْرًا" تحيةً متواضعةً لابن العاص المجاهد الصنديد، وتقربًا إلى الله بحبه، وردًّا على من يحاول من الأقزام التطاول على الصحابى الجليل، ومنهم الشيوعى الوقح القبيح الوجه والبدن واللسان الذى تسافَهَ قبيل هلاكه على ذكرى عمرو بن العاص، فختم الله له بأسوإ الأعمال وذهب إلى حيث ألقت غير مأسوف عليه.
[6] انظر كتاب "وصف مصر"/ ترجمة زهير الشايب/ 3/ 279.
[7] ما نراه ونسمعه ونكتوى به الآن من مزاعم خاطئة عن الإسلام والمسلمين بما يستتبع ذلك من نفى المصرية عنهم والادعاء بأن النصارى وحدهم هم أصحاب البلد حدث مثله فى أوائل القرن المنصرم، ثم انتهت الخصومة بين الفريقين إلى الوضع الذى كان سائدا من قبل، وَضْع التفاهم والمجاملة ومراعاة كل طرف لمشاعر الآخر. ونرجو أن ينتهى الخلاف الحادث الآن بين الأغلبية المسلمة وشركاء الوطن إلى ما انتهت إليه الخصومة التى اشتعلت قبل نحو 100 عام. انظر فى التأريخ المفصل لتلك الخصومة د. محمد محمد حسين/ الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر/ ط7/ مؤسسة الرسالة/ بيروت/ 1405هـ- 1984م/ 1/ 125- 151.
[8] Philip Hitti, The Arabs: A Short History, P. 81.
[9] P. 84.
[10] انظر د. أحمد أمين/ ضحى الإسلام/ مكتبة الأسرة/ 1/ 1997م/ 29.