من مذكرات صاحب الحمار
حسين فيلالي
بعد سنوات من الغياب ، عاد إلى البلدة يمتطي سيارة فارهة ، وكمن يحدث نفسه قال: تبدلت البلدة،و أرجو ألا يتبدل أهلها، هز مرافقه رأسه كأنما فهم قصده :
- أتمنى ذلك.
فكر في صداقات قديمة كانت قد انقطع ودها وانصرم عهدها، استحضر، أسماء وغاب الكثير.
أشار إلى مرافقه أن اتبعني، دق الباب الخشبي، فتحت فإذا بشخص تتقدمه بطنه، ،علت وجهه حمرة مشوبة بصفرة ،استبعدت أن يكون لي به سابق معرفة .
قال:
يبدو أنك لم تعرفني.
نظرت إليه ,وقلت:
أجل لم أعرفك.
ألا تقول للضيف مرحبا؟
تفضل
أحضرت براد الشاي والمسمن، وبدأت أجهد الذاكرة لعلي أعثر على بقايا هذا الرجل لكني لم افلح.
قال: أنا سين، لقد تغيرت المدينة. هذه سنوات عديدة لم أزرها، حرام أن تبقى على هذا الحال في عز الاستقلال.
وكدت أن أصدق كلامه لولا أني سمعت هاتفا: صدقك وهو كذوب.
قال: نريد أن نرشحك للانتخابات التشريعية. قهقهت حتى طار الرذاذ من فمي، والتصق بوجهه، فلم يشأ أن يبدو أقل تأدبا في حضرتي، فلم يمسح وجهه بل ابتسم وقال:
- أنت رجل مخلص والبلدة في حاجة إليك.
قهقهت ثانية فكان الرذاذ هذه المرة كالبصاق على وجهه، فلم يظهر أي انزعاج، أو هكذا تظاهر أمامي، وإنما علت وجهه ضحكة مصطنعه وقال:
ولما تعجب؟
- أنا أترشح للبرلمان.
- وأنا نائبك.
- حتى ولو قبلت بذلك، فإني لن أنجح.
- من هذه الناحية، لا تخف.
- - يبدو أنك متأكد من النجاح.
- أجل.
- - ومن يضمن لي ذلك.
- ...............
- كيف ذلك، والصناديق شفافة ؟
- - هناك من لا تدركهم الأبصار.
- لا أقبل إلا بشرط.
- قبلنا شرطك.
- قبل أن تعرفه.
- قبلنا ذلك.
- تأخذوا لي صورة فوق حماري.
- قبلنا ذلك.
- وتكتبوا تحتها شعار:
- انتخبوا صاحب الحمار.
- نفعل ذلك.
- علقوا صورتي في أنحاء المدينة، وكتبوا:
- انتخبوا صاحب الحمار، وكتبوا نص الدعاية الانتخابية الذي أمليته عليهم، كتبوه بالبنط العريض:
- خلق الله البغال، والحمير، لتركبوها، و انتم خلقتم لأركبكم،وليركب أبنائي أبناءكم.
بلغني أن الناس كانوا يشمئزون من منظري ويبصقون على صورتي حتى أن زوجتي هجرتني وقالت:
- أنها كلما اقتربت مني شمت في رائحة البصاق الممزوج برائحة التبغ المحلي، فتبدأ بالسعال، و أنها صارت تراني مسخت، و سين حمارين هزيلين،و أنها رأت الغربان تأكل من دبرنا .
وبلغني أن الناس صاروا يلعنوني جهرة.
عندما أعلنوا نتائج التصويت، خلوت بنفسي، حسبت أهل البلدة، أضفت إليهم الحمير، والكلاب، والبغال، والقطط لكن العدد ظل أقل بكثير مما أعلن عنه.
دخل علي سين فرحان، مستبشرا فوجدني أتساءل كمن يحدث نفسه.:
- كيف حصلنا على هذه النتيجة؟
- قال:
- مبروك علينا.
- قلت: أصدقني القول، هل استدعيتم سكان كوكب آخر؟
- لماذا؟
- لقد كان سكان القرية يبصقون على صورنا، ويلعنونا قبل الانتخابات، فكيف صوتوا علينا بهذه النتيجة؟
- استجاب الله دعوتي
- كيف
- ألم أتمنى ألا يتغير الشعب مثل ما تغيرت المدينة ؟
دخل علينا صاحبي الحمار، عاتبني وقال:
- لم تنصفني، وطلب سحب صورته من الترشيحات، اندهشت لفكرة الحمار وقلت له:
- وما يزعجك فأنا المتر شح، و قد اختارني الشعب.
- قال:
- و هل تعتقد أنك الأفضل؟
- أجل.
- أنت مغرور، لو ترشح مكانك كلب، أو قط، أو دجاجة، أو حمار مثلي لنجح.
- لقد تجاوزت حدودك، ثم عدت و قلت في نفسي أيكون هذا الحمار اللعين على علم بما جرى؟
- وكأن الحمار قرأ ما يجري في خاطري فبادرني بالقول:
- أنا لا اقبل أن أشوه سمعتي معك ومع سين.
- تشوه سمعتك؟
- أجل، أنا حمار مثقف نزيه.
- حمار نزيه ؟
- أجل أنا على الأقل لم أغير جلدي، ولم أتنكر لمبادئي،ولم أكذب على الشعب ولم أرض أن أكون ذيلا لأي كان.
- طيب، طيب، وما هو المطلوب مني؟
- أن تقبل بالتناوب على الحكم.
- كيف؟
- أن يأخذوا لي صورة، وأنا راكب عليك؟
- أجننت؟
- أن يركبك حمار مثلي أصيل خير من أن يركبك إنسان مستنسخ من حمار.
- حتى و لو قبلت، فلن يرض الشعب بذلك.
- ومتى كان للشعب رأي، و هو فوق ذلك لا يدري أين مصلحته؟
- أنت حمار مغرور.
- إذن سأنسحب من التحالف.
- لا، لا، انتظر، انحنيت، ركب اللعين علي، أحسست بحوافره تدمي ظهري، وبرائحة نتنة كالبول تغطي حسدي، رحت أصرخ اهبط، اهبط أيها الحمار القذر، اللعنة عليك وعلى من انتخبني، و على سين، و استفقت مذعورا على قرع متتالي لباب المنزل، كأنما صاحبه يستنجد من خطر وشيك.
- فتحت بسرعة، وأنا في ملابس النوم، وجدت على الباب صديقي إبراهيم وهو حزين، طلب مني أن اقرضه بعض المال، وروى لي ما حدث لزوجته، وأبنائه، وسألني إن كنت قد سمعت الأخبار.
- قلت:
- عن أي أخبار تتحدث؟ فأخبار الأمة هذه الأيام أصبحت لا تسر، أصبحنا نخشى قراءة الجرائد، أو رأيت التلفاز، والحزن العربي صار بحجم الجغرافيا، موت وحزن في قطر عربي، ورقص، وفرح في قطر آخر على مرمى رمح. أصبح ضياع القضية الفلسطينية، وما يجري في سوريا لا يساوي حزن خسارة مبارة رياضية.
- قال:
- اقصد قضية الحمير.
- وكتم ضحكة كادت أن تفضح سري ثم أضفت:
- لقد قرأت في الجرائد اليومية أن ألفا وخمسمائة حمارا قد ذبح بالعاصمة، وسوق لحمها للمساكين على أنها لحم أبقار مستوردة.
- قال:
- أخشى أن تكون المصيب قد وصلت إلينا
- قلت:
- ربما، ولكن لماذا هذا السؤال؟
- قال:
- لقد اشتريت لحما مجمدا، وأظن أنه سبب مرض زوجتي، وأبنائي.
- قلت له:
- راقب زوجك، وأبناءك في الليل، تحسس أرجلهم عندما ينامون، فان وجدتها تأخذ شكل حوافر الحمير، أو رايتهم يترافسون، أو مرر أمام أعينهم طبقا من شعير فان بدؤوا بالنهيق، فأنصحك بأن تأخذهم إلى بيطري بدلا من طبيب بشري، وسلمته المبلغ، ضحك إبراهيم و انصرف..