لماذا خلق الله الانسان (بني آدم)؟
د. نظام الدّين إبراهيم أوغلو
باحث أكاديمي تركماني
nizamettin955@hotmail.com

خلق الله الإنسان لفوائد وحكم إلهية كثيرة، لا يُمكن أن نعرف أكثرها. منها ان الله
ـ خلق الانسان من أجل أن يفكر ويسأل عما يعنيه ثم يعقل ويؤمن بخالقه، ولكنه لم يخلق من أجل أن تسأل عما يفعل الخالق، فقال الله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء، 23. وعند عدم تعقل وتفكر الانسان، يكون غافلا عما عن سبب وجوده في الدنيا، وحينئذ لا يكون بينه وبين الحيوانات فرق. فالإنسان يفكّر وينطق ويسأل لكي يتعلم حقيقة الله تعالى ووظيفته تجاه الله. ولكن سؤاله وتفكيره يجب أن يكون على نية صادقة وخالصة، وله قيمة علمية. ويجب أن لايكون هدف السّائل من السؤال، أن الله خلق الانسان عبثًا أو سدىً. فقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون: 115-116. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) يس، 36.
ـ وأن يبلغ غايته، وهي تحقيق كماله المتمثّل بالقرب الإلهي وأن تحقّق صبغة التوحيد في قلبه؛ قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً) البقرة، 138. وكمال الله تعالى أنه ما خلق شيئاً عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما يخلق لحكم بالغة، ومصالح راجحة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. فيقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) الأنبياء، 16. ويقول سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الدخان: 38-39. ويقول أيضًا: (حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) الأحقاف: 1-2-3. والإنسان من جملة ذلك الخلق.
ـ وأنه خلق الانسان لغاية سامية التي هي عبادته، ويكون تشريف الإنسان وتكريمه بإظهار كمال عبوديته لله تعالى، فقال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذريات، 56-58. فلا شيء أشرف للإنسان من أن يكون عبدًا محضاً لله تعالى وحده، يأتمر بأمره، وينتهي بنهيه، ويتوجه بتوجيهاته، ويسير على صراطه المستقيم، لا نصيب لغير الله تعالى فيه. قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الزمر، 29. فلو خلق الإنسان لغير العبادة، لكان مثل البهائم يعيش هملا يأكل ويشرب ويتكاثر، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة للإنسان نفسه، والمنافاة لحكمة العليم الحكيم. فالحاصل أن الله تعالى ما خلق الإنسان عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خلقه لعبادته والتقرب إليه سبحانه. إلى غير ذلك من الحكم الكثيرة التي يطلع أولوا الألباب على كثير منها، ويخفى عليهم الكثير.
ـ وقد يكون في خلقه للإنسان بسبب جود الله وكرمه ورحمته وقدرته، وخلقه ليجعله يتمتع بالوجود والحياة الكريمة. وكان الله موجودًا منذ الأزل وهو الكائن الوحيد الموجود. وكان مكتفياً بذاته. وكان ممكناً ألا يوجد الإنسان، ولا أى مخلوق آخر. ولكن الله من كرمه وجوده ورحمته وقدرته، خلق الكائنات وأنعم الانسان بنعمة الوجود على هذا العدم. ومن أجل الإنسان خلق السّموات والأرض وما فيها وما عليها.
ونحن نسأل للعلمانيين الذين يسألون مثل هذه الأسئلة، أنتم أثبتم على أن لكل خلية في الانسان له حكمة، وكذلك لكل عضو من أعضاء الجسم حكمة وفائدة، ونحن نسأل أ ليس في خلق الانسان كله حكمة وفائدة، وحتى أنتم تقولون للحذاء حكمة وفائدة فلماذا لا تقلون أن لخلق الانسان حكمة وفائدة!!
ـ وقد يكون من أجل أن يسعدوا ويتنعموا بنعم الله تعالى في الدنيا، ثم الانتقال إلى أسعد وأأمن وأفضل ما في الدنيا، وهي الحياة الأبدية في الجنة. ويتحقق هذا عندما يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا وأن يطيعوا أوامره. وأن لا يسألوه عن أشياء غيبية ولا يعنيهم ولا يفيدهم، بل يضرّهم ويجرهم إلى نار جهنم. هكذا يريد الله تعالى من الجن والناس أجمعين. كما نرى ذلك في قصص نبينا إبراهيم (ع)، عندما استخدم العقل والجدال مع أبيه آزر وقومه عن عدم فائدة عبادتهم للأصنام. ولكنه عندما أراد الله تعالى منه أن يذبح ابنه اسماعيل، أطاعه ولم يجادل الله تعالى. وقد يتبين هذا الأمر مخالفًا للعدالة الانسانية والعقل البشري، ولكن طاعة الخالق أكبر من ذلك، وهو خلقهم ويعرف مصالحهم ويريد سعادتهم. ولكنه من دون التفكير، استجاب ولم يتردد لأمر ربه ومثله ابنه اسماعيل. هذا هو الايمان الخالص الذي يراد من كل مسلم مقابل خالقه. فالله خلق الإنسان من أجل عبادته، وإقامة شعائره، وتحكيم شرعه، فمن حاد الله ورسوله استحق العقاب والخلد في نار جهنم. فمن المسلَّم به على العقلاء أن يعلموا أنه لمْ يخلق نفسه، بل كان معدوماً، والعدم لا يخلق شيئاً، ولم تخلقه الطبيعة، لأن الطبيعة هي عبارة عن الأحجار والأشجار والأنهار والبحار، وكل هذه صماء بكماء لا تعقل، وهي فاقدة للقوة والبصر والسمع والعقل، وغير ذلك. فكيف تعطي الإنسان ما هي فاقدة له؟‍!‍ ومن القواعد العقلية المسلمة أن فاقد الشيء لا يعطيه. ثم إن المصنوع مرآة لبعض صفات الصانع، فإذا نظرنا إلى باب البيت الخشبي سنجد ما يدلنا على بعض صفات صانعه، ففيه الإتقان الذي يدلنا على أن صانعه خبير بطرائق صنع الأبواب، قادر على تشكيلها، مالك للأدوات اللازمة لذلك، غير أن هناك صفات للصانع لا نعلمها خلال الباب، مثل: ماذا يحب من الطعام؟ وماذا يكره؟ وهل هو طويل أم قصير؟ ومن أصحابه؟ ومن أعداؤه؟ فهذه الصفات لا يمكن معرفتها إلا عن طريق من يعرف النجار. فهذا المثال الذي ضربناه إنما هو من باب التقريب للأذهان، ولله المثل الأعلى فالله جل وعلا هو خالق كل شيء، ويمكننا معرفة صفاته عن طريق الوحي، ثم عن طريق آثار هذه الصفات، قال تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها) فآثار الرحمة تدل على الرحيم، وآثار الحكمة تدل على الحكيم، وهكذا.
ـ وقد خلقه الانسان لأجل أن يبتليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإظهار أبرارهم من أشرارهم، فمن عمل لما خلق له فهو من الأبرار، وصار أهلاً لدخول جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن أعرض عما خلق له، فهو من الأشرار الفجار الذين استحقوا الخلود في النار. قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) الإنسان، 2. وقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت، 2-3. وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك،2. فالمؤمن يدرك أن الحكمة من خلقه الابتلاء والامتحان، وأن أدوات الامتحان هي كل ما في هذه الدنيا، ومدة الامتحان هي حياته على الأرض. فعلى العبد أن يجتهد في عبادة ربه، وأن يستعد للقاء الله في يوم يشيب فيه الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
ـ وقد خلقه لأجل أن يتجلي كل الأسماء الحسنى والصفات العليا الإلهية على عباده. وأن يظهر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قدرته للعالمين، لأنه لا يكون الملك ملكاًـ ولله المثل الأعلى ـ إلا إذا كانت له رعية يتصرف فيهم، يقتل هذا ويعفو عن هذا، ويعطي هذا ويولي هذا، ويعزل هذا، فإذا كان ملك بلا رعية، فعلام يكون ملكاً؟! فالله أراد أن يظهر سلطانه في الأرض وحكمته البالغة، وقدرته النافذة، فيظهر بذلك أثر كرم الله تعالى وتفضله وإحسانه ورحمته سبحانه وتعالى فأتى بآدم.
ـ وقد خلق الانسان لأجل أن يظهر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى غفرانه وعفوه، وشديد عقابه، فإنه الغفور الرحيم، شديد العقاب، فكيف نعرف أنه غفورٌ رحيم إذا لم يغفر؟ أتأتي إلى ملك من الملوك فتقول: يا حليم وهو ما سبق له أن حلم عن أحد، وتقول: يا جواد، وهو ما سبق أن أعطى أحداً، وتقول: يا قوي، وهو ما سبق أن هزم جنداً، لا، لابد أن تظهر الأسماء والصفات في المخلوقين. فهو الغفور الرحيم، فلذلك أذنب آدم فظهرت مغفرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأخرجه من الجنة فظهرت قدرته، وسلط الله على بعض عباده العذاب فظهر أنه شديد العقاب.
وبعد الاجابة على سؤال لماذا خلق الله الانسان؟ قد نضطر بالاجابة على سؤال كيف نثبت وجود الله تعالى؟ والقرآن الكريم أكبر إثبات لوجود الله بالإضافة إلى آراء العلماء والفلاسفة المسلمين. ويمكن أن نقول أن الأديان كلها أثبتت على وجوده الأزلي. فخلق الملائكة والجن والإنسان، وخلق السّموات والأرض والكائنات من أجل الانسان. فهذا يدل أن الله هو الخالق وهو الأزلي. لذا من العبث أن نتعمق في السؤال عن وجوده، لأنه خلق الكائنات كلها من العدم. وليس من المنطق أن تكون الصدفة وحدها هى المسؤولة عن كل ما نحن فيه من نعمة ونظام محكم ومدبر ومركب فهذا أكبر من حجمها بكثير، وليس من المنطقي أن ينتج عن الفوضى نظاماً أو العكس وليس من الطبيعي أو المنطقي أن ينتج شيئاً من لا شيء لذا وجب وجود إله يدبر أمور هذا الكون العظيم والمستمد عظمته من عظمة الله عز وجل منطقي وعقلي. وعلم الاجتماع والتاريخ الإنساني كله يري أن الإنسان مخلوق متديّن، ذو ميول طبيعية دينية، حتى أنه لم يوجد شعب في عصر أو مكان بدون ديانة ما، ولا وُجدت لغة في العالم خالية من اسم الله أو ممَّن هو في مقام الله. وبما أن اللغة تعبّر عن أفكار الإنسان وإحساساته يكون ذلك دليلاً على أن شعور الإنسان بوجود الله عميق في قلوب المجتمعات البشرية. لا يقدر مخلوق أن يعرِّف الله كما هو، وإنما يمكننا أن نعرِّفه بما يميزه عن كل من سواه، كأن نقول أنه قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، حكيم قدوس عادل رحيم رؤوف، كثير الجود واكرم والإحسان. وهو غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله وجودته وحقه. وأنه إله فهو فرد صمد واحد أحد لا زوجة له ولا صاحبة ولا ولا ابنة ولا ولد.
الأدلة على عدم أزلية العالم كثيرة نكتفي باثنتين منها: وهذا يثبت على أزلية الله تعالى:
(1) العالم على هيئته الحاضرة متغيّر على الدوام، وكل متغيّر حادث. وإلا لزم وجود سلسلة أزلية من التغييرات، كل حلقة منها غير أزلية، أي لها بداية. وهو محال.
(2) الحقائق الجيولوجية تبيّن أن العالم على حالته المركبة ليس أزلياً، فقد توالت عليه تغييرات عظيمة وكثيرة، وتعاقبت عليه سلسلة نُظُم، آخر حلقة فيها هي النظام الحالي. أما القول بأزلية أصول الكون، أي العناصر المركب منها فيستلزم أن المواد قائمة بنفسها، وواجبة الوجود، أي مما لا نقدر أن نتصوَّر عدم وجوده، وهو باطل. والمادة ليست واجبة الوجود، ولا قائمة بنفسها، ولا أزلية. ويعلّمنا الكتاب المقدس أن الكون على هيئته الحاضرة نُظِّم بيد الخالق القدير. وعلى فرض صحة القول بأزلية العناصر، لا ينتج من ذلك أن الكون نشأ على حالته الحاضرة من نفسه، لأن العناصر الأصلية بلا حياة وليس لها عقل ولا إرادة ولا قدرة على إيجاد أمرٍ ما. فإذا سلّمنا بأزليتها بقي لزوم بيان علة كافية لحياة الكون وتركيبه ولعقل البشر وقواه. والخلاصة أن الاستدلال على أن العالم معلول أزلي هو أنه مركب، وكل مركب حادث، ومعروفٌ أن الكون مركب من عناصر بسيطة، وكل مركب معلول. والعناصر البسيطة إما أزلية أو حادثة. فالأول باطل لأن الأزلي واجب الوجود، بخلاف العناصر البسيطة التي يمكن تصوُّر عدمها. وبما أنه لا يُحتمل التصديق أنها أحدثت نفسها لأنها إن كانت علَّةً لنفسها لزم أن تكون قبل أن تكون، وهو محال. وقد تبرهن فساد القول بأزليتها، فلا بد أنها معلولة، وأن لها علةً أزلية أو محدثاً أزلياً.

وقال الشيخ أحمد النجمي في كتابه المورد العذب الزلال ص(49):
جوبًا لسؤال: لماذا خلق الله الإنسان؟ ما هي الحكمة من خلقه؟ وماهي الغاية التي يسعى إليها، والنهاية التي سيصل إليها؟ فيقول: هذا السؤال قد ضلت في الإجابة عليه العقول وتحيرت فيه الفهوم وتخبطت فيه مدارك الفلاسفة والحكماء والعلماء والعباقرة من ذوي الفهم الثاقب والذكاء الخارق فضلاً عن غوغاء الناس، لا يستثني من ذلك إلا العقول التي استنارت بوحي الله واهتدت بهداه واتبعت رسله فهي التي عرفت الإجابة عن هذا السؤال بالتلقي عن الله وعن رسله، ومن هنا نعلم علم اليقين أن العقل لا يمكن أن ينفرد بعلم العقيدة لأنه علم يرتبط بالغيبيات، والغيبيات إذا نطق فيها العقل بعيداً عن الوحي ضل وتاه وارتبك وتخبط تخبطاً عجيباً وتصور تصوراً غريباً، ذلك لأن العقل ماهو إلا أداة لتصور المعلومات التي تصل إليه من طريق الحواس ومتى تجاوز ما يحيط به في الأرض وقع في متاهات كبيرة وانحدر إلى مزالق خطيرة قال تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) سورة الأنعام آية: 122. نعم بإمكان العقل أن يستدل من خلال مشاهداته ومسموعاته أن ربه وخالقه ورازقه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. ذو القدرة العظيمة والحكمة البالغة والعلم الشامل والألطاف الخفية، قال تعالى: (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يرو أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) سورة السجدة آية 26ـ27. وإذا علمت أن العقل عاجز عن الاستقلال بمعرفة الحكمة التي من أجلها خلق الإنسان فعليك أن تتعرف على الحكمة التي من أجلها خلق الإنسان من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فقد بين الله تعالى في القرآن الكريم الذي قال عنه منزله جل وعلا (ما فرطنا في الكتاب من شئ) سورة الأنعام آية 38. بين حكماً وأحكاماً هي أقل شأناً من هذا الأمر العظيم كيف لا وهو أهم المهمات وأعظم الواجبات إذا فالحكمة التي خلق الله الإنسان من أجلها هي العبادة قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) سورة الذاريات آية: 56. فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الجن والإنس للعبادة، فالعبادة هي الحكمة التي من أجلها خلقوا ومن أجلها خلق الله السموات والأرض والدنيا والآخرة والجنة والنار ومن أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وسن الأحكام وبين الحلال والحرام ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) سورة الملك آية: 2. وذلك أن الله خلق عباده وأخرجهم لهذه الدار وأخبرهم أنهم سينتقلون إلى دار أخرى، وأمرهم ونهاهم وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره ونهيه فمن انقاد لأمر الله أحسن الله له الجزاء في الدار الاخرة ومن مال مع شهوات النفس ونبذ أمر الله وارتكب نهيه فله شر الجزاء" تفسير السعدي (7/429) بتصرف. فالعباد جميعاً خلقوا للعبادة ولكن لما كان منهم من خلق للعبادة من دون ابتلاء بمضاد كالملائكة، فهذا القسم صارت العبادة سجية لهم لا يريدون غيرها، قال تعالى عنهم: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) سورة الأنبياء آية: 26،27،28. ومنهم من خلق للعبادة مع ابتلاء بمضاد كالجن والإنس الذين جبلوا على خلائق وسجايا تنأى بهم غالباً عن الطاعة وتوقعهم في المعاصي ابتلاء من الله لهم وذلك كالابتلاء بالشهوات، شهوة المطعم وشهوة المشرب، وشهوة المنكح، وشهوة القهر، والتغلب، والاستعلاء، إلى غير ذلك. وكما ابتلاهم بقرناء السوء وبالشبه التي تلقى في قلوبهم الشكوك لأن إيمانهم بالغيب. وفوق ذلك الابتلاء بالشيطان الرجيم ذلك العدو اللدود المتربص الذي مازال منذ أن أخرج أبانا آدم من الجنة حريصاً على إغواء بنيه وإيقاعهم في الكفر والشرك والفسوق والعصيان لذلك كانت العبادة في حقهم ابتلاء واختباراً للدواعي المضادة لها، فمن استجاب لتلك الدواعي والنوازع وأطاع الشيطان كان من الغاوين الذين يستحقون دخول النار كما قال تعالى (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) سورة ص الآيات: 84،85. وأما من قدم طاعة الله وحرص على رضاه واتبع رسله والتمس حل الشبهات من شرعه واستعمل الشهوة فيما أباح الله فذلك هو المؤمن حقاً الموعود بالدرجات العلى في جنة الفردوس. وأما الغاية التي يسعى لها فهي تختلف باختلاف الناس وثقافاتهم وعقائدهم، فمنهم من عرف ربه وعرف حقه عليه وآمن بلقائه وعلم قدر الدنيا وأنها ما هي إلا معبر ومنفذ ومطية إلى الآخرة فأخذ منها ما يصلحه وتزود منها ما يوصله إلى رضى ربه وجنته، وتلك هي الغاية التي يسعى لها. ومنهم من جهل ذلك ولم يعرف ربه ولم يؤد حقه ولم يؤمن بلقائه؛ بل ظن أن الدنيا وحياتها ولذاتها هي الغاية فسعى لها ورضي بها واطمأن إليها وشمر في جمعها وأفنى عمره في لذاتها، وتلك هي غايته التي يسعى إليها، ولقد تحدث القرآن الكريم عن القسمين وبين حال كل من الفريقين فقال تعالى وهو أصدق القائلين: (إن الذين لا يرجون لقائنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم إن عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون). (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) سورة يونس الآيات: 7،8،9،10. والنهاية التي سيصل إليها فهي الدار الاخرة، إما في الجنة أبداً، وإما في النار أبداً، قال تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعوا ثبوراً ويصلى سعيراً) سورة الإنشقاق الآيات من 6ـ12.
والله الموفق
نظام الدين إبراهيم أوغلو ـ تركيا