آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: فجيعة الانتظـــار

  1. #1
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    24/04/2012
    المشاركات
    14
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي فجيعة الانتظـــار

    قصة قصيرة فجيعة الانتظـــار



    تذكرت شيئا بعيدا و قريبا..
    قال بلهجة الواثقين سأفعلها في يوم ما ..سأعبر هذا الامتداد الأزرق..نحو الجزر..حيث الحياة و الإنسان..وهذا اليوم قريب..قريب جدا.
    لم أنظر إليه نظرت إلى مكان ما وكأنما لا أريده أن يستمر في هذا الحديث،و لما رآني كذلك ربما اعتقد أني لا أهتم لا أصدق رفع يده أمام وجهه أمام وجهي وحركها بقوة كأنه يشطر شيئا إلى نصفين..ثم تابع بحزم وثقة بالغين :
    - أقسم أني سأفعل...وسترى
    لما نظرت إليه رأيت وجها آخر محتقنا..غاضبا متحديا..لكن.. لم أدرك حقيقة الأشياء..صدقها..حتى الآن..الآن فقط ليت ما يحلم به الإنسان..ما يريده يتحقق..ليت الرياح جرت بما اشتهى القارب الصغير المثقل بالفقر و الأماني لكن.. القارب الصغير ما احتمل..والبحر كعادته كان شاردا [هل كان شاردا أم متربصا؟] و الليلة الظلماء كانت ستارا حالكا فاندثرت الأشياء..و تهاوت الأحلام..الأماني و المستقبل.. و انطفأت الحياة في القلوب والعيون.. و الأمل..؟ نعم..الأمل.. الوميض الذي يلتمع في العيون..فلا تعود ترى غيره..كأنه البرق..أكان حقيقة أم مجرد وهم..كما السراب..كما الأحلام..كما الكلمات ؟ الأمل..الطائر ذو الألوان الزاهية..النادر المهدد بالانقراض.. في قلوب البشر..هؤلاء البشر..لماذا تلاشى هكذا في لحظة خاطفة..قاصفة..وكان أول الغرقى..؟ كان القارب الصغير مثل ورقة تين..يتهادى..يتمايل ويتحدى أحيانا. لكنه في الأخير يغرق..ويُغرق معه كل شئ.. و الأيدي..أيدي بشر في عمر الخيبة و الفجيعة..وهي تلوح..هل كانت تتوعد؟ تودع..؟أم كانت تحاول أن تتشبث بأي شئ..أي شئ..فلا تجد غير الفراغ..والفراغ. أتراه هذا الذي حصل..؟أم أن الذي حصل شئ آخر لا نعرفه..ولن نعرفه. بعد يوم أو يومين..بعد عام أو أعوام..تجشأ البحر أجسادا منبوذة رفضتها كل الأمكنة. تذكرت شيئا قريبا و بعيدا.. كان في العشرين..تجاوزها بأشهر قليلة..أذكر أنه قال لي ذات مرة مازحا بتلك الطريقة التي تكشف كل شئ :
    - غدا عيد ميلادي..أتوقع منك هدية..
    صمت صمتا قصيرا..ثم أكمل مبتسما نصف ابتسامة:
    - كبيرة..و غالية أيضا..
    قلت : - و منذ متى وأنت تحتفل بعيد ميلادك ؟
    - منذ الغد..
    توقف قليلا..كان صمت الحجر والجماد..ثم تابع بكلمة كالجرس:
    - فصاعدا..
    بعد هذا الكلام بأشهر قليلة..غرق سيد أحمد ومات هكذا ببساطة هذه الكلمات.. أعرف ما أقول الآن سيد أحمد الوجه الطفو لي الضاحك.. نعم هو بعينه صار ذكرى موجعة و مؤرقة.. كيف يمكن للإنسان..أي إنسان..أن ينسى وكل شئ في الذاكرة منقوش كنقش على حجر..؟ في اليوم الماطر بعد أيام حر..كان خميسا لا يمكن أن أنسى ذلك.. عائدا من قدر التيه إلى البيت باكرا خرجت على غير عادتي كنت أعشق المطر وأعشق التفرج عليه وهو يغازل الأرض قطرة..قطرة..يعيد إليها الحياة كما يعيد الفرح إلى قلوب كثير من البشر..جفت..حتى قست.. قبيل الفجر فر النوم من فراشي ولم يعد بقيت وقتا أقلب بصري في الظلمة فكرت في أمور كثيرة..وبدأ الحنين يعاودني لشيء ما..لكن هواجسا أعرفها تماما تترقب لحظات كهاته..تتشكل في الظلمة أمام عيني لتبدأ الغزو والمطاردة..وأنا لا أملك القدرة على دفعها مستلقيا هكذا. سمعت صوتا في المطبخ عرفت أنها الجدة وقررت أن أنهض منذ مدة طويلة لم أستيقظ في مثل هذا الوقت.. عندما رأتني مستيقظا في ذلك الوقت تعجبت..لكنها لم تقل شيئا اكتفت بنظرة ثم واصلت ما كانت تفعل. و خرجتُ... كانت آخر قطرات المطر تتساقط في ذلك الصباح كانت باردة ولذيذة و أحسست وكأني نمت زمنا طويلا.وأنا الآن يمكنني أن أفعل أي شئ..أن أركض..أن أتمشى حتى نهاية العالم. وفي الشارع الطويل..الطويل والضيق..تبدد ذلك الإحساس و كأنه لم يكن.جلست في المقهى القديم..حيث يجلس فيه غالبا شيوخ كبار يلعبون الورق طوال ساعات النهار.. ويدخنون السجائر الرخيصة.يخنقون المكان كما يخنقهم الزمن . كان في ذلك الوقت فارغا..لا..لا..كان شخص ما يجلس في ركن هناك..يرتدي جلبابا داكنا. كانت الأرض مبللة و ثقيلة..والبشر يمرون ببطء يصارعون النوم ويستسلمون للتثاؤب.. جلست على كرسي بارد..وكذلك كان كل شئ من حولي ، مرت لحظات من الهدوء و السكون بعدها بدأ الشارع يمتلئ بالضجة و الناس. عندها قررت أن أعود أدراجي.. الشمس بدأت تظهر من خلف الغيوم..الغيوم التي تنتظرها أرض أخرى و بشر آخرين بلهفة العطشى. أسئلة شتى تكبر داخلي وتتفرع كلما فكرت فيها.أتساءل مع نفسي:
    - لماذا المطر يبعث في النفس حنينا حد التحسر..حد البكاء على شئ لم يكن؟
    و مشاعر أخرى يختلط فيها الفرح بالحزن؟ الألم باللذة؟وكيف يملك هذه القدرة؟ تعاودني صور قديمة قد لا أعرف أصحابها ..قد أعرفهم،لكن هذا التدفق الكثيف من الأحداث..من الأحلام يبعثرها و يبعثر ني..كنت حزينا و فرحا.. بعد غياب أيام سألتُ ماء العينين و نحن نخطو خطواتنا المتعثرة على رصيف الضياع و نلهو بالفراغ و الكلمات المفرغة و المضجرة..قلت له:
    - هل قال لك سيد أحمد شيئا..؟
    - مثل ماذا؟
    - أعني هل رأيته هذه الأيام؟
    - لا..
    - آخر مرة..
    - أكثر من أسبوع..
    - كيف كان؟ ماذا قال؟
    - لماذا ؟
    - أنت تخفي شيئا؟
    - لا..لا..كنت أسأل فقط..
    و حين صمتُ و لم أضف شيئا..أجاب ببرود :
    - آ خر مرة رأيته فيها..قال لي بأنه سيسافر أيام و يعود..
    - إلى أين..؟
    لم يقل لي..و لم أسأله.. هل كان يعرف و يريد أن يخفي عني ظنا منه أني لا أعرف؟
    قادما من بداية الزقاق..عابرا بركا من المياه لم تزل مزاريب المنازل العتيقة فرحا ترغمها على تقبل المزيد ودون روية، وخندق صغير يشطر الزقاق إلى شطرين ينقل مياه الغسيل في الأيام العادية و ينقل مياه المطر من أول الزقاق إلى آخره..حيث هناك لا يسأل عن وجهته أحد. رجال قليلون يقتلعون الحجارة الصغيرة التي تسده و التربة المتصلبة و العلب القديمة الفارغة..و يتحدثون بفرح طفولي عن أرض بعيدة قد تكون أمطرتها السماء و يتمنون ذلك من قلوبهم التي غسلها المطر توا من سنوات القحط و الجفاف.. و عجائز يتفرجن بفضول الأطفال و سعادتهم و المطر يدغدغ فيهن الأيام الخوالي الجميلة.. أيام الخير و الجود .. التي طمرتها الأيام اللاحقة في ظلمة زوايا البيوت و لينفضن عن صدورهن أعباء الزمن الذي يسرق منهن السنوات خلسة وفي صمت. أما النسوة..يدفعن الماء بعيدا عن أبواب البيوت..يطاردن أطفالهن الراكضين من بركة إلى أخرى كضفادع لا تعرف التعب..يتحدثن بضجة..يجتمعن ويتفرقن..ويسردن حكايتهن البارحة وحتى الصباح مع المطر.. كان الزقاق ساحة ضيقة لمهرجان كبير... اللحظة..اللحظات القصيرة والخاطفة كانت تقتنص كل لحظة سهو..لحظة تأمل و انتظار..لتنتفض من تحت الركام و تطفو كجثة إنسان { ما أقسى هذه الكلمة } تلك اللحظة كانت مؤلمة..موجعة..و حزنا مسيطرا. ما الآن..فقد امتدت كشيء مرن و كبرت ، و لحظة السهو والانتظار قد أصبحت زمنا طويلا.. حياة. أيها البحر البعيد..أنت الملجأ الوحيد..الصعب والأخير..لماذا تآمرت معهم..مع الفقر والبطالة ومع الآخرين..أنت تعرفهم لماذا ..؟ و عكرت ماءك.. لماذا طاردت الهاربين من فجيعة الانتظار..ومن خديعة الانتظار..؟ لماذا أعدتهم بعد أن سلبت منهم..من عيونهم بريق الحياة..و أي حياة..؟ أتراك أيها البحر..كنت رحيما ونحن لا ندري ؟ كنت مُخَلصًا؟ قل شيئا أيها البحر فنحن لا نفهم لغة الموج..و لا لغة الموت..قل شيئا فهذا الصمت ما عاد يجدي..و السكوت. أتقدم خطواتي الأولى داخل الزقاق في غفلة عن الجميع أنظر إلى حيث أضع قدمي..الأرض لزجة و زلقة.. لا أريد أن أبدأ حديثا مع أحد تكون بدايته سلام لا تُعرف نهايته و كأني عائد من سفر طويل أو من الأسر أو المنفى..لكن المستحيل هنا هو أن تمر دون أن يشعر بك أحد.. أن يراك أحد.. و ما كنت أخشاه وقع..سمعت صوتا نسائيا قديما و يبدو بعيدا..وأكاد أميز كلماته. فلأقف الدقائق الطوال..
    - أش حال محمود..؟
    -عندما يتركه الناس يكون بخير..أما عندما...
    - أش كيفك..؟
    -مزاجي متعكر..منذ قليل كان نقيا كماء المطر..الآن اختلط بالتربة و البشر..
    - أش نبتك..؟ ا
    لبداية هي هذه..و النهاية..هل يراها أحدكم في الأفق..؟ كلمات طويلة متكررة كأنها محفوظة عن ظهر قلب و لاتُمل يتوارثها الناس أبا عن جد منذ القدم كشيء ثمين.. يسألونك عن الصحة..عن الأهل..ثم عن الصحة..وعن أشياء كثيرة..وعن الدراسة،و يتوقفون هنا كثيرا..وأنا أكره الذين يسألون عن الدراسة و عن الأشياء التي لا تعنيهم..وما أكثرهم. عبرت ذلك الطريق الطويل المليء بالحواجز البشرية و الأسئلة..و نجوت. دخلت إلى البيت كان كل شيء فيه مقلوبا و مبعثرا.وأكثر من غرفة بدون فراش أو أجزاء منها . وفي زوايا و أماكن عدة تنتشر أكثر من آنية من آواني المطبخ تلتقط قطرات ماء من سقف تشبع بماء المطر فأخذ يتسرب عبر الشقوق نحو الأرض و الأفرشة.. كالعادة إذن..حالة طوارئ..لا يُعرف كم ستطول..؟ جدتي في الخارج مع النسوة.. جدي لا يعيش في هذا العالم له عالمه الخاص رغم أن المطر يعني له الشيء الكثير..منزو في ركن غرفته يمسد لحيته البيضاء يخللها بأصابعه المعروقة و يسبح بمسبحته السوداء القديمة التي يقول و بفخر واضح بأنها أكبر منه سنا وأنه قد ورثها من أجداده. يجلس في مكانه ذاك لا ينتظر شيئا سوى الموت ينتظره بتحدي الرجال القدامى..و قد يكون القادم الجديد،هو الآن يسمع خطواته..يرفع عينيه..يديم النظر..لا ليس هو..هذا الحفيد الوحيد و اليتيم. في الصيف الأخير..وفي المقهى نفسه..مقهى الحالمين و الهاربين..وفي الركن ذاته وعلى الطاولة ذاتها. جلست و سيد أحمد كعادتنا القديمة إبريق شاي وكأسين أو ثلاث و أحيانا قليلة و عندما يكون بعض النقد في الجيب كوبين من القهوة.. و في الجهة المقابلة كان الناس يمرون يهرولون و يتراكضون كأنما تنتظرهم أعباء الدنيا.يبتسمون في وجوه بعضهم..ويضحكون بصوت عال و كأن القلوب صافية و لا ينقصهم شيء..ينظرون إلى ساعاتهم..و الوقت يمر بطيئا و معاندا.. يذهبون و يجيئون..يقفون ثم يجلسون على العتبات و في الزوايا يستندون على الجدران حتى تتآكل تحت قسوة أحذيتهم و قرب علامات المرور يتوقف بهم الزمن..أما عندما تمتلئ بهم المقاهي فهناك يتبددون و هم يكرعون كؤوس الشاي و القهوة و أشياء أخرى و مع الكلمات المسهمة يتعاركون حتى ينزفون..و ترى الفرح في عيونهم و هم يجدون الكلمات الخادعة و الصعبة و الوقت بطيء و معاند.. و السيارات في ذلك الصيف..السيارات ذات اللوحات الصفراء و الحمراء و الحروف الأعجمية تمرق بضجيج فتان لا تتوقف بمكان معين..تتوقف في كل مكان..يتنقل أصحابها بين الشوارع كفراشات تستعرض ألوانها..و كانوا هم يستعرضون أشياء كثيرة تتلقفها أعين الناس المسجونين في الوطن العطشى إلى حياة أفضل و عندما لا تراهم ينادونك بالموسيقى الصاخبة..فتشرئب القلوب و ترقص قبل الأجساد. و في زاوية علوية من المقهى كان هناك تلفاز و حيد يتحدث لأشباح بشر..سرقتُ نظرات إليه..لفت انتباهي صور القتلى والجرحى في كل مكان.أحسست بالحقارة و الدناءة أما الغيظ فكان مثل نار لا تعرف الانطفاء..قلت في سري بمرارة شعرت بها في حلقي : - نحن عالة..ونستحق أن نباد بالمرة.. لا أدري لماذا نطقت تلك الكلمات بالذات..في حين كان يجب أن أقول كلمات أخرى..ثم لماذا شعرت بذلك الغيظ المدمر؟ قريبا منا..رأيت شخصين يضحكان طوال الوقت وكانا يتحدثان عن رجل ما قالا بأنه يبيع نوعا جيدا من الخمور بثمن معقول.. كان يرفعان صوتيهما عمدا ربما..تفاخرا قد يكون..فالفخر بمثل هذه الأمور صار شيئا عاديا..و ضروريا.. و تكون إنسانا ناقصا و لا تعرف شيئا إن لم تدمنها.. أما القهقهات..فكانت بطريقة بذيئة و وقحة و منفرة.. أذكر كل هذا الآن..و لا يمكنني أن أنساه.. و الصمت الذي يرفع راية النصر بيننا الآن..فهو نقيضه في ظلمة رأس سيد أحمد ..الأفكار التي تشبه الزلازل لا يغيرها، هكذا كان دائما منذ عرفته أيام الدراسة و قبلها يفعل ما يراه هو مناسبا..أما الأهل..أما الأساتذة..أما الناس فهم كائنات لا تعرف مصالحها فكيف تعرف مصالح الغير؟ وهم أيضا مسكونين خاصة الأهل و الأساتذة برسم و تخطيط حياة الأشخاص الآخرين و لا ينفكون عن تقديم النصائح و كأنهم أنبياء. أعرف كل شيء يجول في خاطره الآن.. ارتفعت سحب الدخان فوقنا..كغيوم فجأة..التفتُ إلى الشخصين..كانا منسجمين.سعلتُ بشدة..سعلت..دمعت إحدى عيني..بعد أن هدأتُ قلت في نفسي بحنق وأنا أمسح الدمعة :
    - نحن غارقون في مستنقع التخلف و نحلم بالتقدم و الحرية..
    صمت للحظة لكني تابعت دون شعور :
    - نحن كائنات من جنس آخر..فريد و عجيب..و الجبن و الخضوع يتراكضان مع الكريات الحمراء في العروق بسلام. لا أدري كيف تقفز هذه الكلمات إلى لساني..؟
    ارتفع الضجيج من حولنا..صرخت في أعماقي و القهقهات تصم أذني :
    - نحن في قاع التخلف..أما الرذيلة فأسفل سافلين.
    في ذلك اليوم..و ذلك المكان..كانت تلك آخر مرة رأيت فيها سيد أحمد إنسانا حيا يتنفس ويحلم..بعدها و كما تنطفئ فوانيس القرويين بغتة انطفأت شعلة الحياة في عينيه..و لم أره إلا هناك في غرفة الموتى بقايا إنسان و نشيج مكتوم و انكسار يستريح في العيون و النفوس.. دخلت غرفتي..و أي غرفة ؟تلقفتني العتمة..سقطت على فراشي لم أشأ أن أنير الغرفة..لكني شغلت آلة التسجيل.. شريط من الطرب الحساني..ينساب..يتهادى الصوت كأنه ينطلق من قلب الصحراء..يشق كل الطرق و كل الأزمنة.. و يأتيني عبر الرياح إلى تلك العتمة..يأتيني حنينا موجعا و يزيدني حزنا وفرحا.. كنت دائما أحب سماعه في الليل.. في الليل يختلف كل شيء..يكون أكثر نغما..أكثر طربا.. و أكون أنا أكثر حزنا و فرحا.. و لكنه بعد الذي حدث صار يرعبني و يقتلني..و كل مرة اسمعه فيها يعيدني إلى تلك اللحظات..أعيشها من جديد بالعذاب نفسه..فلا أقوى على الصمود..و أهرب..أهرب.. حتى تنقطع أنفاسي..و لا أعود أسمع شيئا.. كان يدمرني حتى أقصى الحدود.. مضى وقت طويل..و أنا مستلق..هل نمت ؟ هل غفوت؟ و في وقت ما... هل كان ظهرا؟ هل كان عصرا؟ أم كان وقت غروب ؟ كل ما أذكره أن الدنيا كانت غارقة في عتمة كئيبة و غريبة.. في ذلك الوقت جاءني ماء العينين شاحبا..منكسرا.. و بحر من الدموع رأيته في عينيه..يبحث له عن شاطئ عن صخور يتكسر عليها موجه الغاضب.. جاءني و قال تلك الكلمات.. هل يمكن أن تكون الكلمات هكذا ؟ لم أعتقد ذلك مرة.. كيف تملك هذه القدرة على التحول..على التلون و التشكل في معاني لا حصر لها..؟ من الجمود إلى القسوة..ومن الحياد إلى الطعن و الغدر بل من قمة الفرح إلى قاع الأسى و الوجع..ومن مجرد حروف و كلمات إلى سكاكين و خناجر مسمومة تنغرس في الصدر..في كل مكان من الجسد دون رحمة.. الكلمات التي تسوق الفرح وتحمله إليك بين حروفها..ذاتها يمكن أن تسوق لك الألم.. ما أقسى الكلمات.. و الفجيعة...شيء آخر يجب أن نلغيه من قاموسنا لأننا لا نقدر على تحمله.. قال لي بعد كلمات كثيرة يصعب فهمها أول الأمر..غائبا مذهولا :
    - لقد وجدوه مرميا على شاطئ البحر..بين الصخور..
    ميتا. قلت كمعتوه..كمقهور :
    - منهو..؟
    أجاب..هل هو الذي أجاب..؟ سمعت صوتا غريبا..هل كان صوتا إنسانيا..بشريا؟جاءني اسمه كمقصلة تحز الرؤوس:
    - سيد أحمد
    اهتزت الأرض من تحتي..ثم غاصت..أصبحت شيئا لزجا.. و دارت..دارت..و منذ ذلك الوقت و أنا أبحث عن معنى آخر للحياة..و الموت.. ما أقسى تلك الكلمات التي تعني نهاية إنسان..و شطبه من الذاكرة و إلى الأبد ليصبح شيئا من الماضي المنسي من يذكره بعد ذلك..؟من؟ الموت و الحياة يولدان معا في جسد الإنسان.. سألت كمن لا يريد أن يصدق :
    - كيف..؟
    كانت كلمة بدون معنى..سؤالا أخرق..ضالا..يشبه صاحبه يشبه وجه العالم الجديد بكل قسوته و لامبالاته.
    -وجدوه..وخمسة آخرين..
    تغور الحياة و تذبل..وتنطفئ شموعها العشرون مرة واحدة كأنما هبة ريح ناقمة { ما أكثر الناقمين } كانت تترصدها في ليلة باردة مظلمة..بلا نجوم ولا قمر.. الموت و الحياة ضدان..لا..ليس ضدين..شيء واحد لا يحتمل التفريق و لا التجزيء..كما لا يحتمل أحدهما الأخر. كيف صارت الحياة هكذا بائسة..و كريهة و رخيصة..؟ و الموت كيف صار..حلما و أمنية ؟ و الغياب الذي امتد أكثر من أسبوع..هاهو يتفجر فجيعة و موتا..لا يشبه أي موت آخر.. الغياب الذي امتد أياما..هاهو الآن امتداد بدون انتهاء.. لم يخبر أحدا..أخبر شخصا..شخصين..لماذا لم يقل لي؟ و هل كنت سأمنعه؟ هل كنت سأكون أقوى من صوت البحر..من هدير الموج..و حلكة الليل..؟ هل كنت سأفعل شيئا آخر ؟ هل كنت سأقنعه رغم المحاولات الكثيرة بأن حياته أغلى من مغامرة؟ كان ساعتها سينظر إلي و يقول:
    - عن أية حياة تتحدث..؟
    لماذا أسأل الآن؟ و ماذا تفيد الكلمات؟ و كل شيء انتهى كل شيء..كل شيء..و الكلام ليس سوى سلاح..سلاح عتيق بيد الضعفاء العاجزين و المقهورين.. قال لي مرة بإصرار عجيب:
    - لو كتبت لي النجاة..فإني لن أعود إلى هنا مرة أخرى..أقسم على ذلك..
    لم يدري دون قسم..دون أن يتمنى..أنه لن يعود..على الأقل حيا.. هاهو الآن جثة بدون عينين..لكنه رغم ذلك شاهد على كل شيء.. جثة..لولا ذلك الجرح الغائر القديم على ظهر يده لبقيت لإنسان مجهول.. جثة برجل واحدة..محشورة بين الصخور..و البحر و الموت.. كمصيرنا، الرجل الأخرى احتفظ بها البحر..ربما للذكرى و حينما ننسى سيرميها في وجوهنا ذات صباح كي نتذكر ولا ننسى من نحن؟ بي رغبة للبكاء..عفوا ليس البكاء..فماذا يعني البكاء..؟ يحدث أحيانا أن يبكي الإنسان لشيء بسيط وتافه ودون سبب..و قد يكون هذا البكاء يعني نقيضه..بكاء فرح.. لذلك يجب أن أصحح.. بي رغبة للصراخ..العويل..رغبة لتحطيم و تدمير كل شيء ، بي رغبة للتلاشي..و للموت.. أما هذه اللعنة التي تفيض من صدري الآن فأريدها أن تشمل العالم كله..أن تطغى و تستبد..أن تقتل.. أريد أن أنسى..أن أفقد الذاكرة..أريد أن اسكت...


  2. #2
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    24/04/2012
    المشاركات
    14
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: فجيعة الانتظـــار

    أيها الاخوة الاعزاء..
    انا انتظر ردكم...تعليقكم..توجيهكم وانتقادكم..


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •