إن من غير الإنصاف أن نعتبر سيرة رسول الإسلام  مجرد سرد لمراحل حياته منذ الميلاد وحتى الممات، وكأنه حديث يراد به التسلية وإبراز عظمة الرجال، أو أن الفائدة المرجوة من سيرته تتبع مراحل حياته، وإظهار صور بطولاته، والاستئناس بالحديث عنها وكأنها فاكهة المجالس، أو أن قراءة سيرته العطرة مجرد قراءة لقصص وحكايات تخلو من العظة والاعتبار والأسوة والاقتداء، أو أن كل من تتبع خطوات حياته منذ ميلاده وحتى مماته قد ألمّ بكل جوانب سيرته، إن سيرته  تتجاوز كل هذه الأهداف الواهية، والآمال البالية؛ لتسرد سيرة نبي مُرسل متصل بخبر السماء، جُعلت سيرته هداية للناس، وترجمة عملية لدين الله عز وجل، وتجسيدا للنموذج المثالي الذي لابد أن يحيا عليه المؤمن في رحاب طاعة الله عز وجل، وتصورا للإسلام يتجسد في حياة صاحـب الرسالة، تطبيقاً للمبادئ التي جاء بها الإسلام، وواحة يُقتبس من خيراتها أسمى صور التأسي والاقتداء، وتجسيدا حيا للتاريخ الإسلامي في عصر النبوة التي ارتبطت فيها الحوادث بشخصه الكريم ، في كل جوانب حياته .

فالسيرة إذن جزء من الدين الحنيف والهدي القويم، يجد فيها كل طالب بغيته، ليست تاريخا يُسرد، ولا أحداثا ولّت ولا ماضيا يُطوى، ولا ما كان فيها قد مضى وانتهى، إنها قراءة حية للواقع، كما كانت عرضا تفصيليا للماضي، فهي الحاضر بكل واقعه، كما كانت الماضي بكل تفاصيله، فيها إشباع نهم المنهومين، يجد فيها كل باحث ضالته، وكل طالب بغيته، فيها المنهج النبوي في تربية الأشخاص وإعداد الرجال وقيادة الجيوش وتربية الأمم، فيها سيرة رسول الإسلام  أبا وزوجا وصاحبا ومقاتلا ومفاوضا وسياسيا ومخططا ومربيا ومشرعا وداعية وحاكما، فيها فن الدعوة وتنوع أساليبها والصبر على الابتلاء حتى بلوغ المرام، فيها الجهاد بكل صوره، بالكلمة والمال والسيف حتى تُرد الحقوق، وتسود كلمة التوحيد، فيها المنهج الفريد في بناء الروح التي هي سر الوجود، وحسن تربيتها والاستفادة من إمكاناتها واستخراج مواهبها الكامنة وقدراتها الهائلة الحبيسة داخل النفس البشرية، فيها تجسيد لتعاليم الشريعة المُطهرة في واقع الحياة، فيها شروح لأسباب التنزيل، فيها إشباع لاحتياجات النفس البشرية وفقا للمنهج الإلهي، فيها الأخذ بالأسباب وصدق التوكل على الله وعدم التعارض مع السنن الربانية، فيها النموذج المثالي في بناء المجتمعات وفقا للمبدأ الإلهي بالتدرج في تربية الأمم وإعدادها، فتأتي المرحلة المكية كخطوة أولى في بناء الفرد والرقي بشخصيته وغرس القيم السماوية في نفسه وتجسيد التوحيد فيها حتى خرّجت شخصية كعبد الله بن مسعود الصادح بالقرآن، ثم تتوالى مراحل البناء لتشمل الأسرة بعد الفرد، فتتكامل شخصية الأسرة المسلمة التي تُبتلى لتسمو بروحها إلى أرقى الدرجات، فيخرج نموذجا كأسرة آل ياسر، ثم تتوالى مراحل البناء ويأتي العهد المدني ليكمل البناء، فتظهر النواة الأولى للدولة الإسلامية في مجتمع المدينة، وهي نتاج طبيعي لما تم من بناء للفرد ثم للأسرة في العهد المكي، فكانت السيرة ترجمة حية وتطبيق عملي لمنهج الإسلام في بناء المجتمعات .

إن سيرة نبي الإسلام هي فترة زمنية متصلة بالوحي السماوي، كل ما حدث فيها هو سنن ربانية يمكن أن تتكرر كلما تكررت ظـروفها، ويمكن لجيل الصحابة أن يتكرر إذا تكررت مناهج التربية التي شبّ عليها، ويمكن لمجتمع المدينة أن يتكرر إذا اتبعنا المنهج الرباني في تربية الأمم والمجتمعات وفقا للتدرج، ثم اتبعنا المنهج النبوي في تطبيق هذا المنهج الرباني، فالسيرة ليست مجرد أحداث عابرة تُعبر عن ذاتها حدثت زمـن البعثة النبوية وانتهت قيمتها وفعاليتها... بل هي أحداث مقصودة، تهدف إلى تربية الأمة، فيها الآيات والعبر في شؤون الحياة كلها، وهذه الأحداث تكمن قوتها في مدى الإفادة العملية منها عند المسلمين على مر العصور، فهي عطاء مستمر وكنز لا يفنى وبئر لا ينضب ماؤه، يظل عطاؤه دائما صالحا لكل زمان ومكان، وحين نعدّها ماضيا قد ولّى، وتاريخا قد انتهى، ففي حينها يضيع رصيدها وقوتها الدافـعـة لأجيال المسلمين، فهي الرباط الذي يصل المسلم بالسنن الربانية، وهي الرباط الذي يربط قلبه بالله عز وجل، وهي الدافع للتدبر والتأمل في سنن الله تعالى، وهي الدليل الذي لا ريب فيه على صدق نبوته  ورسالته، وأنها سيرة نبي مرسل سار بدعوته من نصر إلى نصر حتى كُتب له التمكين.
ورحم الله سيد قطب إذ قال (( إنَّ سيرةَ الرسول  وسيرة هذا الإسلام لا يجوز أن تكون تاريخًا يُتلى ولا أن تكون
احتفالاتٍ تمضي، إنما يجب أن تكون حياةً تُعاد، وأن يكون واقعًا يُحقق.. إنما جاء الإسلام ليكون واقعًا حيًّا في تاريخ
المسلمين، وإنما مضت هذه الأيام؛ لتكون فيها إلى الأبد قدوةً وأسوةً لمَن يتبعون رسول الله 

فكل منهج تربوي لا يستمد مضمونه من المنهج النبوي في بناء الأشخاص والجماعات لا يُرجى منه نفع أو فائدة تُذكر، وكل تجربة إصلاح لا تتخذ سيرة رسول الإسلام  هاديا ومرشدا لها لا يمكن أن يحالفها نصر أو تمكين، وفي التاريخ أمثلة كثيرة لأنظمة ومؤسسات وحركات تغيير وإصلاح في المجتمعات الإسلامية، اتخذت من عقولها هاديا ودليلا، واعتبرت السيرة النبوية ماضيا وتاريخا، فلم يحالفها نجاح يُذكر، أو يؤخذ منها فائدة تُرجى، أو يعقبها ذكر يُحسب لها، وكذا كل حاكم لم يتخذ من رسول الله  أسوة له لا يمكن أن يُدرك العدل بكل جوانبه، أو أن يرتقى بأُمته؛ لتأخذ موضعا يليق بها في سباق الحياة وركب التاريخ، وكل مربٍ ومعلم لم يتخذ من رسول الله  أسوة له لا يمكن أن يشبع نهم النفس البشرية، ويُخرج طاقتها ومواهبها المعطلة، مهما حالفه الحظ والتوفيق، فالنفس بدن وروح ومهما اجتهدت في بناء البدن، فإن البناء الروحي لا يمكن أن يشبع نهمه بعيدا عن المنهج السماوي في هداية البشر وإنقاذهم من حيرتهم وضياعهم، وكل أب وكل زوج وكل مفاوض وكل قاض وكل وكل ..............
فالعطاء النبوي متوفر وغزير، إلا أنه بحاجة إلى من يشعر بقيمته، ويستخرجه من بين سطور الكتب والمجلدات؛ ليجسده في واقع الحياة .
إن اعتبار سيرة رسول الله  ورسالته ـ بما حققته من نصر وتمكين وحضارة ورُقي ـ تجربة إنسانية، يُعد انتقاصا بيناً لمضمون رسالة الإسلام، فالتُجربة قد يحالفها النجاح أو تبوء بالفشل، أما الإسلام، فهو دين سماوي، ومنهج رباني وضعه عالم الغيب والشهادة، المُدرك لحاجات البشر في كل زمان ومكان، وفرض فيه من صنوف التشريع والعبادات ما يتلاءم وحاجات البشر المتطورة والمتجددة، بحيث يعجز كل ذو عقل لبيب أن يقول عن تشريع أو عبادة أنها لا تتلاءم مع هذا الزمان، أو أنها لا تتفق مع طباع البشر في هذا الزمان، وربما شهد هذا المنهج تمكينا في واقع الحياة، وربما شهد أنصاره إخفاقا وضعفا وذلا، فلا يُرجع العيب إلى المنهج، وإنما فيمن يؤمن به ويعمل من أجله، فالمنهج واحد لن يتغير، باق لن ينتهي، كامل لن ينقص، وبقدر التزام المسلمين بمنهج الإسلام يكون التمكين والغلبة، وبقدر بعدهم عنه تكون الهزيمة والتخلف، إنها سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير، والله تعالى لا يحابي أحدا من عباده، فمن أصلح واتقى ساد وعز، ومن كفر وطغى خسر وذل ـ إن شاء الله ـ ، من قام بمنهج الله أيده الله، ومن تخلى عن منهج الله، تخلى الله عنه ثم لا يبالي في أي وادٍ هلك، وتأتي السيرة لتجسد هذا المنهج رأي العين في واقع الحياة ومختلف أمور المعيشة، فقد استطاع النبي  أن يُحيي أمة من الأجداث، وأن يقيم دولة من عدم، وأن يجمع قبائل متناحرة في بنيان واحد، وأن يجعل الحمية للدين لا للعرق والنسب، وأن يجعل الأخوة في الله قبل أخوة النسب .
هل تطلبون من المختار معجــــزة يكفيه شعب من الأجداث أحياه
من وحد العُرْب حتى كان واترهم إذا رأى ولد الموتور آخــــــاه
فلما تُوفي رسول الله  فطن أصحابه والسلف الصالح إلى قيمة الاهتداء بسنّته والالتزام بمنهجه، فجعلوا إتباعه منهاج حياتهم، وجعلوا سيرته هاديا ودليلا لخطواتهم، حتى قال علي بن الحـسـيـن «كنا نُعَلَّم مغازي رسول الله  كما نُعَلّم السورة من القرآن »
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص« كان أبي يُعلمنا مغازي رسول الله  ويعدّها علينا، وسراياه ويقول: يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها »
وقال الزُهري «في علم المغازي علم الآخرة والأولى »
فكان النتاج الطبيعي لهذه التربية، دولة فتية خضع لها أكثر من ثلثي المعمورة، نشرت عدل الإسلام في ربوع الأرض، بعدما سادها العوج والفوضى، وأعلت راية التوحيد بعدما ضربت أطناب الأرض صورٌ للشرك لم تشهد
البشرية مثلها، فحينما وعى الصحابة وسلف الأمة قيمة الاقتداء برسول الله  وتطبيق منهجه في تربية الأفراد والجماعات، دانت لهم الأرض بكل زينتها وزخارفها، وحينما وضعوا سيرة رسول الإسلام  في مكانها الصحيح استطاعوا أن يشيّدوا حضارة عريقة، قادت البشرية قرونا من الزمان، وحينما اكتسبت السيرة في حياتهم المكانة التي تليق بها وبهم، خرجّت للبشرية عباقرة في مختلف العلوم، كان لهم الفضل والسبق في بناء هذه الحضارة التي تشهدها البشرية في هذه العقود .
لقد غدا الاقتداء برسول الله  ضرورة مُلحة ومطلبا حثيثا، يفرضه واقع الحياة الذي نعيشه في هذا الزمان أكثر من أي وقت مضى، ناهيك عن كونها عبادة وتكليف، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا]
وقال تعالى [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ]
وقال تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ]
واقتضت الضرورة إعادة قراءة السيرة النبوية الصحيحة، ودراسة المنهج النبوي في مختلف الحالات، العسكرية والسياسية، والاجتماعية، والتربوية، والدعوية والعلمية، والإدارية، والاقتصادية، والحركية، والأمنية، والثقافية.
وأصبحت الحاجة إلى العودة للمنهج الرباني، والهدي النبوي، إحدى متطلبات الحياة التي تشهد تخلفا للمسلمين في شتى مجالات الحياة، وهم ينتسبون إلى دين يدعو إلى طلب العلم ويحث عليه.
فهذا التخلف العلمي، والفساد الأخلاقي، والذل السياسي، والتبعية العسكرية والفكرية، والاعتمادية الاقتصادية والتخبط الفكري، والاضطراب النفسي، وضعف البناء الروحي، وتهاوي القيم السماوية في النفوس، هو نتاج طبيعي للمناهج الوضعية في تربية الأفراد وقيادة الشعوب، وهو نتيجة منطقية لأمة رضيت بالتبعية، وانحرفت عن أسس عقيدتها وثوابت دينها، وهو نتيجة طبيعية لأمة تخلت عن أسباب النصر والتمكين ووسائل تحقيقه، قال تعالى [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]

ولكن كيف يكون الاقتداء ؟
إن تعاملنا مع السيرة وطرق الاستفادة منها لا يتغير وفقا للواقع الذي نحياه، والذي يتغير ربما في كل ساعة، فالقيمة الحقيقة للسيرة تكمن في قدرتها على الـتعامل مع جميع الظروف، وقدرتها على العطاء المتواصل لكل عصر ما يحتاجه، باعتبارها مصدرا للاهتداء والتشريع، لا للسرد والقصص، فإن إحدى الأزمات التي تعاني منها الصحوة الشابة هي بعدها عن الدراسة التربوية العميقة لأحداث السيرة، دراسة تجعل من أحداثها دروسا لكل الأمة، بعيدة كل البعد عن تأويل أحداثها وفقا للأهواء أو المصالح المصطنعة، الأمر الذي يجعلها قابلة للتطبيق العملي، ويرتقي بها عن الدراسات العلمية المجردة التي جعلتها لسنوات طوال حبيسة الكتب والمجلدات والواقع في أمس الحاجة لها، فحينما نُجرد أحداث السيرة من بُعدي الزمان والمكان، ونتعامل مع ما صح من أحداثها على أنه مصدر للتشريع، يتسنى لنا ربطها بمشكلات الواقع، واستلهام العبر والقيم، وفهم أبعاد الأحداث وظروفها، وبذا يمكن لها أن تخدم واقع الحياة وتساهم في حل مشكلاته، لا أن تكون تراثا في المجلدات، والواقع في أمس الحاجة لها، فالسيرة ماض زمانا ومكانا، وحاضر قدوة واهتداءً، ومستقبل أملا وعطاءً.
إن قراءتنا لأحداث السيرة وأساليبنا في الاقتداء برسول الله  قد أصابها شيء من الفتور والبلاهة، فلا الذي يعيش في رغد من العيش يتبع الهدي النبوي في الشكر على النعم حتى تدوم، ولا الذي يُصاب ويُبتلى يتبع الهدي النبوي في الصبر على البلاء حتى يُرفع.

فالقيمة الجليلة، والعطاء الأمثل في الاقتداء برسول الإسلام ، تكمن في هذا الدافع الروحي الذي تتهاوى أمامه مغريات المادة والمجد الدنيوي، فقيمة الاقتداء وعطاؤه وعظيم ثوابـه، عندما يكون في الابتلاءات والشدائد التي قد يمتحن صاحبها في صدق إيمانه وقوة يقينه، فيجد نفسه مدفوعا إلى ترك مكاسب دنيوية؛ ليجني ثمارا إيمانية، وكلما تهاوى به الركب جدد الأمل، وكلما ضاقت به السبل شق طريقا وسط الصعاب يسير فيه على الهدي النبوي، فيحول دون سقوطه في الهاوية، ويرتقي به عن انتظار المكاسب البسيطة، وجني الثمار القريبة، إلى إدراك الغايات الكبرى وإبصار العواقب [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ]
فتمام الاقتداء برسول الله  يكون عند شدة البأس، وزيادة الفتن، وإحاطة المغريات، يكون في الصحة والمرض واليسر والعسر، والأمن والخوف، والحضر والسفر، والفقر والغنى، وفي كل حال يكون عليه الإنسان .

وأفعال النبي  تنقسم إلى ثلاثة أحوال :

القسم الأول: الأفعال الجِبِلّية وهي التي تصدر عنه  بمحض الجبّلة لكونه بشرا، كالقيام والقعود والأكل والشرب، فهذا القسم مُباح، لأنه لا يقصد به التشريع، إلا ما جاء فيه نص خارج عن الفعل بإيجابه أو ندبه، كالأكل باليمين والنوم على الشق الأيمن، فهذا يُشرع التأسي والاقتداء به .

القسم الثاني: الأفعال التي أُختص بها  دون أمته، وفيها أمور مباحات وواجبات ومحرمات، فمن المباح له: الزيادة على أربع نسوة في النكاح، ومن المحرم عليه: الأكل من الصدقة، وأكل ذي الرائحة الخبيثة، وغير ذلك من الأمور التي يضيق المقام لتفصيلها هنا، وهذا القسم يُحرم فيه التأسي به.

القسم الثالث: الأفعال التعبدية التي يقصد بها البيان والتشريع، وهي شرح تعاليم الإسلام، كأفعال الصلاة والحج، فحكم هذا القسم تابع لما بـيَّـنه، فإن كان المبيَّن واجباً كان الفعل المبيِّن له واجباً، كقوله  «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي »وقوله « خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ » وإن كان مندوباً فمندوب.لذا قال  « إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ »

وهذا الاقتداء هو طوق النجاة لهذه الأمة، كي تحمل راية القيادة من جديد، فهذه الأمة لديها من المقومات ما ينتشلها من ركودها، ويُعيد إليها مجدها وقيادتها؛ لتأخذ مكانها المنوط لها في ركب الحياة وقيادة العالم، فلا توجد أمة على وجه الأرض تحمل منهجا يشمل كل جوانب الحياة كمنهج الإسلام في تربية الأفراد وبناء المجتمعات، وها هو العصر الحديث قد أطّل علينا بعلومه الغزيرة، وأخرج لنا مئات النظريات التربوية في تربية الأشخاص وإعداد الرجال، والرؤى الإصلاحية في قيادة المجتمعات، والاكتشافات العلمية في شتى المجالات، إلا أنه لم يأت بنظرية واحدة لبناء الروح التي هي المُحرّك الأساسي للنفس البشرية والدافع للعمل والابتكار .

إن ما يشهده الوقت الراهن من تأخر ملحوظ للمسلمين في شتى المجالات، ليس لنقص في العقيدة التي يؤمنون بها، وإنما لخلل في تطبيق المنهج الذي جاء به الإسلام في واقع الحياة، وهذا الخلل أمر عارض مرت به كل الرسالات والحضارات والدول، بل والأفراد، إلا أنه إذا طال زمانه، بدت معايبه، وظهر خطره الحقيقي على الرسالة والأمة التي تدين بها.
فقد أظلنا هذا الزمان، وأحاطت بنا الفتن والمغريات، وقيدتنا المدنية الزائفة بوابل من الأفكار الهدامة، والقيم المنحطة بين علمانية، وشيوعية، ورأسمالية، وعولمة، فشغلتنا بالرد عليها عن قضيتنا الأساسية، حتى تقوقعنا على أنفسنا واقتصرنا على موقف المُدافع عما بقي من قيم في نفوسنا، وبمرور الزمن ترسخت هذه الأفكار في أناس من بني جلدتنا، حكاما، وعلماء، ومصلحين، وغدت دعوتنا في صراع داخلي بين أبنائها، فتخلت عن سمو رسالتها، وعالميتها، وحقق أعداؤها هدفهم الأسمى، بانشغال الأمة عن قضية الدين والدعوة إليه، وحمله إلى العالم أجمع، حتى بدت الصورة قاتمة، والوضع لا يبشر ببارقة أمل، إلا أن هذا الوضع بالنسبة لتاريخ الرسالة وعُمر الأمة، كسحابة صيف سُرعان ما تنجلي، وإن طال زمانها، فإن عودة الإسلام كعقيدة ومنهاج حياة أمر حتمي، وهو كائن لا محالة لأنه دين الفطرة، وهو الدين الذي تكفل الله بنصره وتأييده، فإن لم تكن عودته في هذا الزمان، فلابد أن تبشر بها وتُعِد لها مَن خلفك، وإن لم تكن كمسلم أداة تبني الدين، فلا تكن وسيلة لهدم بنيانه، ولا يصنع منك الواقع السيء شخصية إنهزامية، فما الإنتكاسات في تاريخ الأمم إلا فترة إنتقالية، وختاما نسوق هذه البشارة المحمدية؛ لتطمئن النفس وتسكن، وتعلم أن الإسلام قادم لقيادة البشرية من جديد، قال  « لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ »

بهذه الكلمات دونت مقدمة كتابي(السيرة النبوية منهاج حياة)والله وحده أسأل أن يكون عملي هذا خالصا لوجهه.