أحداث خالدة في معركة القادسيـة

أكرم كساب

في التاريخ الإسلامي أيام لا تنسى ، وذكريات لا تمحى ، ومواقف خالدة ، حفرها أصحابها في سجل التاريخ بمداد دمائهم ، لا بحبر أقلامهم ، ومن ثم فإن هذه الصفحات لا تنسى على مر التاريخ ، ولا تمحى على مرور الأيام وتعاقب الشهور والأعوام .

ومن هذه الأيام الخالدة يوم " القادسية " ، اليوم الذي يعرف بيوم " سعد بن أبي وقاص " ـ رضي الله عنه ـ .
نعم ـ " سعد بن أبي وقاص " خال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولقد أحسن الأستاذ " محمد إقبال " ـ رحمه الله ـ حين قال متحدثـًا بلسِان حال أهل " القادسية " وغيرهم من المجاهدين ، فأنشأ يقول :

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك * فوق هامات النجوم منارا
بمعابد الإفرنج كان آذاننا * قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها * سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنَّا نُقدم للسيوف صدورنا * لم نخش يوما غاشما جبارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة * خضراء تنبت حولها الأزهارا

لقطات من معركة " القادسية " الخالدة :

1- " رستم " و " ربعي بن عامر " :
كان " رستم " هو قائد الفرس في هذه المعركة بأمر من ملكهم " يزدجرد " ، وقد حاول " رستم " التنصل من هذه المهمة ، غير أنه اضطر للقيام بها تحت إلحاح ملكهم " يزدجرد " ، وكانت معنويات الفرس منحطة تمامـًا ، نظرًا للانتصارات الباهرة التي سجلها المسلمون في معاركهم السابقة ، وكان من الحيل الرائعة التي قام بها " سعد بن أبي وقاص " ـ رضي الله عنه ـ إرساله المجموعات الاستكشافية من جنوده ، وبعثه السريا لتأتيه بالأخبار ، وتزوده بالطعام ، حتى عرفت أيام قبل " القادسية " بأسماء ما كان فيها من طعام ، كيوم " الأباقر " ويوم " الحيتان " ، وكان في هذا استنزاف للقوات الفارسية .
ولما اقترب الجيشان بدأت المراسلة ، فطلب " رستم " من " سعد " ـ رضي الله عنه ـ أن يبعث إليه رجلاً من رجاله ، فاختار له " سعد " ـ رضي الله عنه ـ أسدًا من أسوده ، وهو " ربعي بن عامر " ـ رضي الله عنه ـ ، وقبل قدوم " ربعي " ـ رضي الله عنه ـ لجأ " رستم " إلى طريقة الأغراء ، فزين له مجالسه بالنمارق ، وأظهر اللآلئ والياقوت والأحجار الكريمة ، بيد أنهم فوجئوا برجل قصير القامة ، عليه ثياب صفيقة ، وأسلحة متواضعة ، وفرس صغير ، ولم يزل " ربعي " ـ رضي الله عنه ـ راكبـًا فرسه حتى داست على الديباج والحرير ، ثم نزل عنها وربطها في قطع من الحرير مزقها ،
وأقبل على " رستم " فقالوا له : " ضع سلاحك " ،
فقال : " إني لم آتيكم ، وإنما دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت " ،
فقال " رستم " : " ائذنوا له " ، فأقبل ـ رضي الله عنه ـ يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق أكثرها ، فقال له " رستم " : " ما الذي جاء بكم " ؟ ،
فقال ، ويا نِعْمَ ما قال : " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله " ،
فقال " رستم " وما موعود الله " ؟ ،
قال : " الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقى " ،
قال " رستم " : " قد سمعت مقالتك ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا " ؟ ،
قال : " نعم كم أحب إليكم ؟ يومـًا أو يومين ؟ " ،
قال : " لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا " ،
فقال : " ما سن لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل " ،
قال " رستم " : " أسيدهم أنت " ؟ ،
قال : " لا ، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم " ،
فاجتمع " رستم " برؤساء قومه فقال : " هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل " ؟ ،
فقالوا : " معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب ! ، أما ترى من ثيابه " ؟ ،
فقال : " ويلكم لا تنظروا إلى الثياب ، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ، ويصونون الأحساب " .
هذا موقف " ربعي بن عامر " ـ رضي الله عنه ـ مع " رستم " ، فهل رأيت قوة وبيان ، وسرعة بديهة ، ووضوح حجة ، ورباطة جأش ، وثبات موقف كهذا ؟
إنه حدد غاية المسلم ، وهي " إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " ، وحدد مصير المسلم ، وهو " موعود الله بجنة الله " ، وإن كل هذه الإغرءات من الحرير والذهب والنمارق والأرائك لم تهز شعرة منه ، ولم تستطع أن تشغله عمَّا أعده الله له في موعوده ، حيث له فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر .

2- " رستم " و " المغيرة بن شعبة " ـ رضي الله عنه ـ :
لما رأى " رستم " ما رأى من " ربعي بن عامر " ـ رضي الله عنه ـ أرسل إلى " سعد " ـ رضي الله عنه ـ يطلب رجلاً آخر ليرى هل هؤلاء القوم كلهم على وتيرة واحدة أم لا ؟ ، فأرسل له " سعد " ـ رضي الله عنه ـ " المغيرة بن شعبة " ـ رضي الله عنه ـ ، لكن " رستم " غير من لهجته ، فأظهر حدته وأبدى غضبه وثورته ، فقال أول ما قال لـ " المغيرة " : " إنما مثلكم في دخول أرضنا مثل الذباب رأى العسل فقال من يوصلني إليه وله درهمان ؟ ، فلما سقط عليه غرق فيه ، فجعل يطلب الخلاص ، فلم يجده ، فجعل يقول من يخلصني وله أربعة دراهم ؟ ، ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جحرًا في كرم ، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفـًا رحمه فتركه ، فلما سمن أفسد شيئـًا كثيرًا ، فجاء بجيشه ، واستعان عليه بغلمانه ، فذهب ليخرجه فلم يستطع لسمنه ، فضربه حتى قتله ، فهكذا تخرجون من بلادنا ، وقد أعلم أن الذي حملكم على هذا معشر العرب الجَهدُ الذي قد أصابكم فارجعوا عنَّا عامكم هذا ، فإنَّكم قد شغلتمونا عن عِمارة بلادنا ، وعن عدوّنا ، ونحن نُوفِر لكم ركائبكم قمحـًا وتمرًا ، ونأمر لكم بكُسوة ، فارجعوا عنَّا عافاكم الله ! " .
فقال " المغيرة بن شعبة " ـ رضي الله عنه ـ : " لا تذكُر لنا جهدًا إلاَّ وقد كنَّا في مثله أو أشدَّ منه ؛ أفضلُنا في أنفسنا عيشـًا الذي يقتل ابن عمه ، ويأخذ ماله فيأكله ، نأكل الميتة والدم والعظام ، فلم نزل كذلك حتَّى بعث الله فينا نبيـًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنزل عليه الكتاب ، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به ، فصدّقه منا مصدّق ، وكذّبه منَّا آخر ، فقاتل مَن صدّقه من كذبه ، حتى دخلنا في دينه ؛ من بين مُوقن به ، وبين مقهور ، حتى استبان لنا أنه صادق ، وأنه رسول من عند الله ، فأمرنا أن نقاتل من خالفنا ، وأخبرنا أن من قُتل منَّا على دينه فله الجنَّة ، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه ، فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله ، وتدخل في ديننا ، فإن فعلت كانت لك بلادك ، لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت ، وعليك الزكاة والخُمس ، وإن أبيت ذلك فالجزية ، وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك " .
قال له " رستم " : " ما كنت أطنُّ أني أعيش حتى أسمع منكم هذا معشر العرب ، لا أمسي غدًا حتى أفرُغ منكم وأقتلكم كلّكم "
أرأيت أخي الحبيب كيف كان رد " المغيرة " ـ رضي الله عنه ـ أمام هذه التهديدات ، وتلك الإغرءات ، لقد قابل تهديداته باستهزاء ، وإغراءته بإعراض ، ولم ينس أن يعرض على " رستم " دعوة الله ، فلما أصر " رستم " على عناده واستكباره ، وجهز جيشه وجنده ، كان جزاؤه القتل ، وكان ذلك على يد هلال بن عُلَّفـة التيمي .

3- " سعـد " ـ رضي الله عنه ـ وسلمى :
كان اختيار " سعد " ـ رضي الله عنه ـ لهذه المعركة قائدًا هو قرار الفاروق " عمر " ـ رضي الله عنه ، هو " وأبو عبيدة " ـ رضي الله عنه ـ ، وقيل يومها " الأسد في براثنه " ، غير أن " سعدًا " ـ رضي الله عنه ـ كان قد أصيب بجروح ملأت قروحها ، فخذيه ، وإليتيه ، فكان ـ رضي الله عنه ـ يدير المعركة من مكان مرتفع ، فلما رأته زوجته " سلمى " ، وكانت قبله عند " المثنى بن حارثة " ، فلما توفي ، وقضت عدتها تزوجها " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ، فلما جالت الخيل ورأت " سلمى " ما رأت ، قالت : " وامثناه ولا مثنى لي اليوم " ، فضربها " سعد " ـ رضي الله عنه ـ واعتذر للناس لما لاموه على عدم حضور المعركة ، فقد قال أحدهم :
نقاتل حتـى أنزل الله نصـره * و" سعد " باب " القادسية " معصم
فأبنا وقـد آمـت نساء كثيرة * ونسـوةُ " سعد " ليس فيهنَّ أيـم
فلما أراهم " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ما به من القرح عذره الناس ، وأيم الله إن " سعدًا " ـ رضي الله عنه ـ لم يكن ليجبن أو ليترك المعركة ، وهو أول رامٍ في الإسلام ، وأول من أسال دمـًا في الإسلام .
ولكن ألا ترى إلى غيرة المرأة على دين الله ، وكيف تستحث زوجها ليخوض غمار المعركة ، ولم تكن " سلمى " وحدها ، بل كان نساء عصرها كلهنَّ كذلك .

4- " أبو محجن " ـ رضي الله عنه ـ و " البلقاء " :
كان " أبو محجن " قد حبسه " سعد " ـ رضي الله عنه ـ عند " زبراء " أم ولد " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ، لشربه الخمر ، فلما سمع " أبو محجن " ـ رضي الله عنه ـ صهيل الخيل ، وقعقعة السيوف ، خاطب " زبراء " قائلاً : " يا زبراء أطلقيني ولك عليَّ عهد الله وميثاقه ، لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلي الحديد في رجلي " . وكان مما قال ـ رضي الله عنه :

كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا * وأترك مشدودًا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت * مصاريع دوني لا تجيب المناديا
وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوةٍ * فقد تركوني واحدًا لا أخايا

فأطلقته " زبراء " وحملته على فرس لـ " سعد " يقال له " البلقاء " ، وخلَّت سبيله ، فجعل ـ رضي الله عنه ـ يشد العدو شدًا ، و " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ينظر إليه ويقول الضرب ضرب " أبي محجن " والكر كر " البلقاء " ، فلما أن فرغوا من القتال ، وهزم الله جموع الفرس ، رجع " أبو محجن " إلى " زبراء " وفاء بوعده بعد أن أرضى ربه بقتال عدو الله ، ووفاء بوعده لـ " زبراء " ، فأدخل رجله في قيده ، فلما نزل " سعد " ـ رضي الله عنه ـ من رأس الحصن رأى فرسه تعرق ، فعرف أنها قد ركبت ، فسأل عن ذلك " زبراء " فأخبرته خبر " أبي محجن " فأخلى سبيله .
إن " أبا محجن " ـ رضي الله عنه ـ وقع في ذنبه هذا ، لكنه لم يلبث أن ندم على فعله ، ولقد تحرك الإيمان في قلبه ، حتى بدت الحسرة عليه وهو مقيد في وقت يحتاج فيه الإسلام إلى نصرته ، ولست أدري من أي المواقف نعجب ؟! ، من حرقة " أبي محجن " على الإسلام ، أم من صدقه ووفائه بعهده ووعده مع " زبراء " ؟ ، أم من إخلاص الرجل ورضائه بأن يكون في القيد بعد قتاله ، ولا يعلن عن موقفه حتى علم به " سعد " ـ رضي الله عنه ـ ، وإن هذه لدلالة رائعة على أن كل إنسان مطالب بنصرة هذا الدين ، وأن صاحب المعصية لا تعفيه معصيته من نصرة دين الله جل وعلا .

وأخيرًا فإن يوم " القادسية " يوم من أيام الله ، ومعركة فاصلة من معارك الإسلام ، نسأل الله أن يعيد لنا هذه الأيام ، وتلك المعارك ليعود للإسلام عزه … اللهم آمين .

عن موقع إسلام ويب