أما بعد،
فقد اطَّرَدَتِ الدَّواهي وحلَّ بالشّام مِن البلاء ما الله به عليم. ولقد مسَّ الناس قرْحٌ تَشيبُ له الوِلدان وتنفطِرُ السّماوات. ولا جَرَم أنّكم تَروْن وتَسمعون، ولكنْ كأنّ على أبصارِكم غِشاوة وفي آذانِكم وَقْرا. فلا يَغُرَّنَّكُم أنْ أمهلكُم الله وأنتم النّاكِفون عن النُّصْرة. قلوبٌ وجِلةٌ تَستغيثُ ولا مُجيب، وإخوانٌ لكم يَستنصِرونكُم ولا نَصير. طال عليكم الأمَدُ فقسَتْ قلوبكُم فهي كالحجارة أو أشدُّ قَسوة.
يا أشباهَ الرجال ولا رجال! ماذا تَنْظُرون وإلامَ مطْلُكم؟ إخوانُكم في ضيمٍ وشِدّة وأنتم في مَنْظَرٍ ومُستَمَعٍ، وريٍّ ومَشْبَع؟ أين رُجولتُكم وعِزّتكم؟ أتنْظُرون أن يُفنِيَ الطاغيةُ قومَه فتستريحون؟ أتنْظُرون آخِرَ دمٍ يُسفَك فتَقرّ أعيُنُكم؟ ما هذا الخِذلانُ الذي لم يشهدْ له الدّهرُ نظيرا؟ أيّ إخلادٍ إلى الأرض هذا؟ أين حَميّتُكم؟ أتَتركون النُّصْرة، وتَلْزَمون النُّعْرَة؟ لَعَمرُ اللهِ قد كان عربُ الجاهلية أكرمَ منكم وأعزَّ على جهلِهم وعصبيتهم. فإنهم ما خَفروا الجِوار ولا أسْلَموا أخا لِعدُوّ، ولا نكفوا عن نُصرةِ أخٍ، إنْ ظالما أو مظلوما. فكيف وظلمُ الطاغيةِ بَيّنٌ دَهَمتْهُ فُضْحةُ الصُّبح؟ لقد كان العَشَمُ أنكم كالبُنيان المرصوص يشدُّ بعضُه بعضا، وأنكم القلوبُ أُلِّفَ بينها فأوْعبَتِ التّراحُمَ والتَّوادّ والتّعاطُف. أوليسَ بينكم رحِمٌ وَشيجَة؟ ألَسْتمُ الجسدَ الذي إذا اشتكى شيئا تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهر والحُمّى؟
أما وقد طرَحتُم الخَفارَة ونكفتُم عن النُّصْرة فلبِئس القومُ أنتم! قد عَلِمْنا الأوْسَ تُقاتل عن الرجلِ إذا لطمَه الخزرجي حتى تُدرِكَ ثأرَه، وعَلِمْنا الخزرجَ تُقاتِل عن الرجل يُسابِبُه الأوْسي حتى يَجرِيَ القصاصُ حيث يجِب. فانْظُروا يا معشرَ مَن أذلّهم الله إلى عِزّتهم وقد كانوا أهل باطل! وانظروا إلى ذِلّتكم وأنتم أهلُ حق! ألَسْتُمْ قَمَناً أن تنصُروا مَن تقطّعت بهمُ السُّبل وتفرقت بهم أحْجاءُ البلاد؟ أمَا تروْنهُم قد دَهَمهُم الموتُ الأحمر، فما لهم مَلجأ ولا مَحْجى؟
أتنظُرون أن تَحِلَّ لهم الميْتةُ ويطلبون قِرْفَ الأرض فلا يجدونه؟ أتنظُرون أن تضيقَ عليهم الأرضُ بما رحُبَت وتخلُوَ الدِّيارُ من أهلِها؟ أتَرجُون أن يطلبَ اليتيمُ مَن يمسَحُ عَبْرتَه فلا يجدُ غيرَ اللَّطيم؟ أَيشْفي نُفوسَكم أنْ تطلبَ الثكلى من يُبْرِدُ فجَيعتها فلا تجدُ غيرَ الثكلى؟ أيُبرِئُ سُقْمَكم أن تَشْهَدوا شكوى الكَليمِ إلى الكليم؟ أوَتَنظُرون أن يُؤنِسَ السّجينُ السّجينَ، ويَعْتضِدَ الطّريدُ بالطّريد؟
والله لقد اخْتَنقْنا غيْظاً وكِدْنا نموتُ كَمداً مِن سَفَاهتِكم. فنسألُ البَاري أنْ يُوَلِّيَ أمورَنا خيارَنا، وأنْ لا يُهلكنا بما فعلَ السّفهاءُ منّا، ونسأله -وهو الذي رفع السّماوات بغيرِ عَمَد- أن ينتقمَ من الظالم ومن كلّ شيطانٍ أخرس. إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه. ألاَ له الحُكمُ وهو أسرعُ الحاسِبين.
والسلام على مَن سمع ووعَى
26 جمادى الآخرة 1433ه (17/05/2012م)