العملية الانتقامية في بلد الشيخ وقرية خواصة
( 31 ديسمبر1947 – 1 يناير 1948 )

الدكتور الياس عفيف سليمان*

يأتي هذا البحث ليكمل مقالي الاخير الذي تم نشره في عشرات المواقع وفي دول عدة تحت عنوان " المجزرة في معامل ومصافي تكرير النفط في حيفا – 1947 ". واعتمد في هذا البحث على عدة مصادر اولية والتي جاء على ذكرها الدكتور اوري ميلشطين المؤرخ والباحث العسكري في كتابه " تاريخ حرب الاستقلال " المجلد الثاني الصادر في اللغة العبرية في العام 1999 والذي اسهم في هذا البحث, وعلى تلك المصادر التي دونت وسجلت ووثقت وارشفت الاوامر والعمليات والنتائج بشكل دقيق ومنها على سبيل المثال : الارشيف الصهيوني المركزي الذي يشمل جلسات لجنة الامن, الارشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي, وعلى كتاب مؤرخ تاريخ " الهاجاناة " في حيفا تسادوق ايشل تحت عنوان " معارك الهاجاناة في حيفا " وعلى غيرها .

قررت قيادة "الهاجاناه" القيام بعملية انتقامية كبيرة الهدف منها انذار وتحذير وتخويف العرب وبالمقابل رفع الروح المعنوية عند اليهود بعد مجزرة معامل تكرير النفط في حيفا. تم اختيار بلد الشيخ ( قرية فلسطينية تقع جنوب شرق مدينة حيفا وتبعد عنها قرابة 7 كم, وصل عدد سكانها قرابة 5000 نسمة في العام 1948 واسمها "تل – حنان" اليوم ) وخواصة , (قرية فلسطينية تقع غرب مدينة حيفا, وصل عدد سكانها قرابة 2000 نسمة, مصدر اخر 450 عائلة وهي منطقة بن – دور اليوم التابعة لنيشر). هذه القرى التي هددت طرق المواصلات بين حيفا والياجور( قرية فلسطينية تقع جنوب شرق مدينة حيفا , وصل عدد سكانها قرابة 600 نسمة في العام 1945 وهي ياجور اليوم ) حتى مرج بن عامر بحسب ادعاء الهاجاناة .

عدد كبير من عمال مصافي تكرير النفط في حيفا سكن في بلد الشيخ وخواصة , وفي الماضي القريب هاجمت وحدات الهاجاناة بلد الشيخ ولكن هذه المرة جاءت مختلفة لان الهدف لم يكن مجرد هجوم انما كان بدافع الانتقام, وجاء في شهادة غرشون جلعاد ضابط المخابرات اللوائي ما يلي " عمال مصافي تكرير النفط سكنوا بكل المنطقة, ولم يخطر على بال احد منا بان هذه العملية سوف تضع حدا لمضايقات خطوط النقل والسفر او ان وحدة من وحداتنا سوف تتخذ من القرية مقرا لها, كان الهدف القتل والترهيب ". وكتب موشيه كرمل, قائد لواء حيفا والجبهة الشمالية برقية يوم مذبحة مصافي تكرير النفط جاء فيها : " قرابة 800 عامل عربي من عمال مصافي تكرير النفط يسكنون في بلد الشيخ وفي خواصة , اقترح عملية رد فعل سريعة ". تم احضار البرقية الى دافيد بن غوريون ووافق على العملية وتم اعلام موشية كرمل بذلك. وبحسب اقوال يسرائل غاليلي ,رئيس القيادة العامة للهاجاناة ان : " القيادة العليا وافقت على العمليات الانتقامية تخوفا من ان يقوم العرب بأعمال شغب اذا لم يكن رد الفعل على المذبحة قاسيا ".

بدأت قيادة الهاجاناة بالتحضير للعملية, في يوم الاربعاء 31 ديسمبر 1947 التقى موشيه كرمل بقائد الكتيبة الاولى في البلماح ران لنر تلك الكتيبة التي اتخذت لها مقرا في الكيبوتسات المتاخمة لمدينة حيفا. كتب لنر الى يغئال الون برقية جاء فيها: "وصلتني الموافقة لعملية الانتقام والعقاب ضد بلد الشيخ .القوة, سرية بلماح وفصيلتان من وحدات المشاة. قائد العملية عامي (بحسب الوثائق هو الاسم السري لحايم ابينوعام ).هدف العملية التدمير والتخريب واصابة الرجال. العملية في الليل. هناك سرية مشاة تحضر لعملية خواصة قرب الكسارة 4 لها نفس الهدف. كن قويا ".

عين لنر نائبه حايم ابينوعام قائدا لعملية الاجتياح, وتم ارسال الوحدات العسكرية التي تم اختيارها للعملية الى كيبوتس ياجور لان المنطقة اليهودية القريبة من بلد الشيخ كانت منطقة نيشر ولكن الطريق منها الى بلد الشيخ كانت تحت رقابة وحراسة الجيش البريطاني ولهذا السبب تم اختيار ياجور كقاعدة للتحضير والانطلاق, ونصت الاوامر بما يلي :" مهاجمة القرية بقوة تصل الى 120 شخص مقسمة الى 6 اقسام , قتل اكبر عدد من الرجال, الحاق الضرر بالممتلكات, عدم المساس قدر المستطاع بالنساء, بالأولاد وعدم اضرام النيران ". وصرح ضابط العمليات اللوائي دوف تساسيس ان الاوامر قضت بتفجير 60 منزل في بلد الشيخ, بينما صرح حايم ابينوعام قائد العملية انه قيل له وبوضوح بان يقتل 100 رجل .

تم احضار الاسلحة والذخيرة والعتاد من المخازن الرئيسية الى ياجور. ولوحظ نوع من التحدي والمسابقة بين المشتركين بالعملية. وحتى ساعات الظهر كانت اربع وحدات بلماح مستعدة للهجوم, وحدتان بقيادة يتسحاق حاكا ( الملقب حوفي والذي اشغل منصب قائد المنظمة الشمالية فيما بعد ). ووحدتان تحت قيادة بنحاس زوسمان ( الملقب سيكو والذي اشغل مدير عام وزارة الدفاع فيما بعد ) . ووحدتان من المشاة بقيادة حنان زلينغر (تل حنان على اسمه ).والكتيبة " داليت " والتي كانت تحت قيادة يشعياهو غبيش ( الملقب شايكي والذي اشغل منصب قائد المنطقة الجنوبية في حرب الايام الستة ) والتى اتخذت لها مقرا في مرج بن عامر وبيت شان لم تشترك بالعملية .وكان رحبعام زئيبي (غاندي) قائد فصيلة ماعوز وقاعدتها في كيبوتس ماعوز.
لم يتقبل غاندي عدم مشاركته بالعملية فطلب من القائد غبيش ان يسمح له بالتوجه الى مقر الكتيبة في ياجور مع بعض الجنود لكي يحاول اقناع القادة هناك بالسماح له بالاشتراك بالعملية .وافق قائد الكتيبة لنر على الطلب شريطة ان يشترك غاندي كقائد جماعة (وحدة عسكرية صغيرة) لكن غاندي وضع رجاله على اهبة الاستعداد ووصل عددهم الى اكثر من نصف فصيلة (وحدة عسكرية اكبر من الجماعة) .

صرح حايم ابينوعام قائد العملية بما يلي : " خرجنا ولأول مرة لنقتل. واجه مقاتلينا اعضاء الحركات الشبابية مسالة تأنيب الضمير .وحتى انا واجهت صراع مع نفسي , ولكن كان واضحا انها حرب دفاعية لم نبادر لها ولكن علينا تنفيذها. جمعت الرجال قبل العملية وشرحت لهم الاسباب والاهداف, كانوا متأثرين بما حصل بمصافي تكرير النفط, لم يرفض احد من الرجال الاشتراك بالعملية ".

وضعت الخطة وحددت الساعة التاسعة مساء ساعة الانطلاق من ياجور الى بلد الشيخ, ولكن بسبب تأخر وصول العبوات الناسفة وبسبب نقص بالمركبات المعدة لنقل الجنود والعتاد تأجلت العملية لبعض الوقت. في الساعة الحادية عشرة ليلا انطلقت الوحدات لمهاجمة الهدف حاملة اسلحة رشاشة متنوعة, قنابل يدوية, مسدسات, بنادق, عبوات ناسفة وبلطات لخلع وكسر ابواب البيوت.

وصرح غاندي : " سرنا في وتيرة عالية ... وراينا بالعملية كأنها يوم عيد رغم الالم في القلب... سار الرجال الواحد تلو الاخر بسكوت تام ... كانت القرية مظلمة جدا... تمركزت الفصائل على الطرف الاعلى من القرية ... دخلنا اطراف القرية واقمنا مركز للقيادة والعمليات. عدت وكررت تعليماتي الاخيرة... وقلت: اذا اصبت يحل محلي مونيه واذا اصيب الاخير يأتي مكانه يوئيل. ابتسم الجميع وانا ايضا,رغم اني لم اعتقد ان احدا منا سيصاب ".

اقتحمت فصائل البلماح البيت تلو الاخر بحسب الخطة, وقتلوا الرجال. لم تلتزم فصائل المشاة بالخطة وحاولت الاستيلاء على احد البيوت في طرف القرية ودخلت في مواجهة لتبادل النيران مع موقع رشاش محصن, كانت النتيجة مقتل القائد حنان زلينغر. نيران الفيلق العربي لم تكن ناجعة, اطلق الجنود البريطانيون النار عن بعيد لكنهم لم يقتربوا من القرية. استمرت العملية قرابة النصف ساعة, ونجحنا في مفاجئة ومباغتة العرب سكان القرية. وروى غاندي, في احد البيوت وخلال عملية تبادل اطلاق النار مع المسلحين العرب اصبنا النساء والاطفال.

واضاف غاندي ," قامت مصفحة بريطانية بإطلاق النار علينا من جهة الطريق وبشكل عشوائي...ومثلها الفيلق العربي . عملية الانسحاب كانت مخيفة...لا يمكن وصف الفوضى, الوقت ضيق, الطريق الرئيسية قريبة. في كل لحظة يمكن ان تصل الشرطة والجيش البريطاني, علينا العبور من الطريق النازل من عسفيا .
تفككت وتشتت الوحدات العسكرية, حاول القادة جمع العناصر ولكن دون جدوى وفتش الجندي عن قائده والقائد عن جنوده. لعنة حلت علينا... قررت انا ورجالي ان نحمي الوحدات المنسحبة. وافق قائد السرية فورا. كانت فرقتي محاصرة...لكنهم لم يستسلموا بل وساعدنا بنقل الجرحى ".
كانت الاخطاء كثيرة في عملية الانسحاب وحتى ساعات الفجر لم يصل المقاتلون الى ياجور. قائد الكتيبة دان لنر الذي تخوف من البريطانيين خرج مع وحدة عسكرية الى الكرمل ليفتش عن رجاله والتقى بهم على مقربة من ياجور في الساعة 05:35 صباحا...ووصل كل المقاتلين الى قواعدهم في ساعات الصباح الباكر" ( يوم 1 يناير 1948 ).

رفع حاييم ابينوعام تقريرا جاء فيه: " حققنا الهدف من العملية, خسائر العدو وصلت الى 60 واكثر ( مصادر امنية اخرى توكد هذا العدد ). خسائرنا: قتيلان, مصاب بالبطن وبحالة حرجة ومصاب اخر بإصابة خفيفة . تصرف الرجال بشكل جيد ".
وصرح بنحاس زوسمان ( سيكو ) بما يلي: " تدنت المعنويات بعد مقتل 39 يهوديا في مصافي تكرير النفط في حيفا.كنا على استعداد للقيام باي عمل. ولكن بعد عملية بلد الشيخ فكرنا وتأملنا... ادهشني ان الشباب الذين تربوا تربية انسانية يقتلون ببساطة كهذه " .

في ليلة 31 ديسمبر 1947 اجتاحت قرية خواصة سرية من الكتيبة 22 ووحدات عسكرية عملت في ميناء حيفا تحت قيادة يسرائيل ليساور نائب قائد الكتيبة 22 ( الملقب ليئور والذي عمل كسكرتير عسكري لرؤساء الحكومة ليفي اشكول وغولدا مائير فيما بعد ) .

وكتب تسادوق ايشيل :" قضت الخطة بان تقوم وحدات من البلماح بالهجوم المباغت, على ما يبدو علم سكان القرية بذلك, عند وصول القوة العسكرية كان اغلبية الرجال قد تركوا القرية. والنساء اللاتي بقين في القرية لم يخفن .رغم ذلك استطاعت وحدات البلماح قتل 16 رجلا عربيا وجرح 10 اخرين كما وتم حرق شاحنة لاحد السكان العرب . تدخل الفيلق العربي واطلق النار على المهاجمين وقتل واحدا منهم , حدثت اخطاء كثيرة في هذه العملية ".

في الاول من يناير 1948 اجتمعت لجنة الامن لبحث العمليات الانتقامية في حيفا, وطرح يعقوب ريفطين (الملقب كوبي ومن ابرز اعضاء الحركة الشبابية اليهودية ,هاشومير هاتسعير) ثلاثة تساؤلات : اولها, تصرف العرب بشكل مختلف, حيت ان قسم منهم لم يشترك بالهجوم (القصد في مصافي تكرير النفط ) بل على العكس منهم من دافع عن اليهود, وعليه لم يجدر بالوحدات العسكرية ان تقوم بعملية ضد جمهور غير معروف, حيث انها لا تعلم من سيصاب , كان عليها القيام بفحص دقيق ضد من تهاجم .قاطعه بن غوريون وقال " كيف؟ اجاب ريفطين: " نعرف من هم رؤساء المخلين بالأمن والمحرضين . ثانيها , يجب علينا الا نكتفي بمعاقبة العرب انما علينا أيضا معاقبة رجال منظمة ايتسيل الذين تسببوا بهذه القضية. ثالثها, كان من الواجب مناقشة هذه العمليات الانتقامية في لجنة الامن قبل تنفيذها ". وقال عضو لجنة الامن بيرل رفطور " احدوت هاعابوداه " ان العمليات الانتقامية كانت واجبة. تقبل بن غوريون ملاحظات ريفطين بتحفظ ولكنه اضاف : " نحن في حالة حرب, وفي حالة الحرب لا نستطيع ان نميز بين الافراد. يوجد في هذا عدم مصداقية, ولكن اذا تصرفنا غير ذلك فإننا لن نصمد. يمكن ان نميز بين المناطق, القرى, ولكن بمستوى افراد فذلك غير وارد ولا يمكن خوض أي حرب بهذه الطريقة...كانت هذه مصيبة كبرى. كانت هذه المجزرة الاولى الكبرى ,من غير المحبذ بان يشعر العرب وكان الامر خارج عن سيطرتنا, هذه ليست الخليل, هذه حيفا, مدينة يهودية واحسن الرجال بما صنعوا " .

*باحث ومؤرخ فلسطيني من مشردي كفربرعم ويقيم في قرية الجش .

عن موقع رابطة أدباء الشام