الأمة الإسلامية بين الحملات الصليبية والحروب اليهودية: مقارنة ونتائج

الدكتور غازي التوبه

قامت الدولة اليهودية في 15 مايو 1948م في فلسطين، وكان قد قامت مملكة صليبية في القدس في 15يوليو 1099م، وشكّلت هاتان الهجمتان الصليبية سابقاً واليهودية حالياً خطرا على الأمة، وقد نجحت الأمة في التصدي للخطر الصليبي وإزالته، وما زالت تعاني في مواجهة الخطر اليهودي، وتنتقل من تعثّر إلى آخر.
فكيف كان النجاح في التصدي للخطر الصليبي؟ ولماذا كان الفشل في التصدي للخطر اليهودي؟ وهل يمكن الاستفادة من النجاح السابق في مواجهة الخطر الحالي؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في السطورالتالية:

الحملات الصليبيّة:

خطب أربان الثاني بابا روما بمناسبة انتهاء مجمع كليرمون في نوفمبر 1095 م داعياً فرسان أوروبا إلى حملة صليبية لإنقاذ فلسطين من أيدي المسلمين، فلسطين التي وصفها الكتاب المقدس بأنها أرض اللبن والعسل وبأنها ميراث المسيح، وحدّد لها موعداً في أغسطس 1096 م، وبدأت الحملة الصليبية الأولى لتتبعها ستُ حملات أخرى استمرت مائتي عام،وقد اشتركت فيها كل أصناف المجتمع الأوروبي: الملوك، والنبلاء، والفرسان، ورجال الدين، والفلاحون، والأثرياء والفقراء...الخ.
وقد استولت الحملة الصليبية الأولى على نيقية عاصمة السلاجقة في 19 يوليو 1097 م، ثم استولت على مدينة الرها في شرقي تركية وأقامت فيها أول إمارة صليبية، ثم حاصرت إنطاكية في 21 أكتوبر 1097 م ثم فتحتها وهكذا قامت الإمارة الصليبية الثانية، ثم تحركت جموع الصليبيين نحو القدس في ينايرمن عام 1099 م، ثم فتحتها في 15 يوليو 1099م، وأعقب ذلك مذبحة رهيبة، وأبيحت المدينة للسلب والنهب والقتل عدة أيام وفاض الدم، وظلت الجثث مطروحة في الشوارع إلى أن اجتمع الصليبيون وقرروا اختيار ريمون السانجيلي حاكما لبيت المقدس تحت لقب"حامي الضريح المقدس"ثم تحولت القُدس إلى مملكة تحت حكم بلدوين، وهكذا أسفرت الحملة الصليبية الأولى عن مملكة في القدس وإمارتين في الرها وأنطاكية•
ثم تتابعت الحملات الصليبية، والواضح أن كل الشعوب والدول الأوروبية اشتركت في الحروب الصليبية: الإنكليز، والألمان، والفرنسيون، والإيطاليون...الخ، ولم تقتصر الحروب الصليبية على تهديد أرض فلسطين وبلاد الشام، بل تعدت ذلك إلى تهديد مناطق أخرى مثل مصر وتونس، فقد تعرضت الأولى لعدة غزوات، وقد اختصها الصليبيون في إحدى المرات بحملة صليبية خاصة هي الحملة الرابعة، أما تونس فقد غزتها الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا لقي حتفه في تلك الغزوة.

فماذا كانت ردود فعل الأمة الإسلامية؟:

لقد أدرك المسلمون هول الغزو وأخطاره، فأخذ الفقهاء والعلماء يخطبون من فوق منابر المساجد في فضل القدس الشريف، وفضل الجهاد والمجاهدين، ولم تكن حلقات الدروس تخلو من حديث حول القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، كما ألفت الكتب والقصائد التي تحرض وتتناول هذا الموضوع بشكل أو بآخر، وقد أثارت أعداد اللاجئين الهاربين من مذابح الصليبيين مشاعر الاستياء في كل مكان ذهب إليه اللاجئون، لقد أدرك المسلمون أن الصليبين جاؤوا إلى بلادهم بقصد البقاء، وكانت تلك صدمة مؤلمة•
وبدأت الدعوة إلى الجهاد تسري بين أبناء الأمة، وتجاوبت معها جماهيرها، وأصبحت حركة يقودها الأمراء،وفي خضم هذه الحركة ولدت القيادة المقاتلة وعلى رأسها عماد الدين الزنكي الذي برزعام 521 هـ - 1127م رافعا راية الجهاد، حاكما للموصل، ثم حكم حلب عام 522 هـ، ثم استولى في العام التالي على حَماه، ثم استولى على حمْص عام 532 هـ - 1143م، ثم انتزع الرها من أيدي الصليبيين عام 1144 م، بعد حصار دام 28 يوماً، وكان سقوطها صدمة نفسية مؤلمة للصليبيين في كل مكان، لأنها كانت أول أمارة صليبية تقوم على الأرض الإسلامية، ولأنها كانت مرتبطة بتاريخ المسيحية المبكر، وكان سقوط الرها من الناحية العسكرية كسباً كبيراً لأنه جعل وادي الفرات منطقة تخضع للسيطرة الإسلامية، وكان هذا الانتصار بداية النهاية للصليبيين.
خلف نور الدين الشهيد والده عماد الدين الزنكي إثر اغتيال الأخير على يد الباطنّية عام 1146م، وسار على نهج والده في توحيدالبلاد الإسلامية، وكانت دمشق هي البلد الوحيد الخارج عن نطاق التوحيد شمال الخلافة الإسلامية، وكان ملكها معين الدين أنر يمثل عقبة في وجه نور الدين محمود، وفي كل مرة كان يظهر فيها نور الدين محمود أمام أسوار مدينة دمشق كان الصليبيون يهبون لنجدتها،ثم عقد تحالفا ضعيفا معها بعد موت حاكمها، إلا أنه استطاع أن يدخلها في النهاية برغبة أهلها الذين سئموا ظلم حاكمهم.

وهكذا استطاع نور الدين محمود أن يوحدالجبهة الشرقية، ثم اتجهت أنظاره إلى مصر، وكانت تحكمها الخلافة الفاطمية، وتسابق في الوصول إليها مع الصليبيين، واستغل المنازعات الداخلية، فأرسل أسد الدين شيركوه برفقته شاب في السابعة والعشرين من عمره هو ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، الذي خلف عمه أسد الدين شيركوه في الوزارة بعد وفاته عام 564 هـ -1169م، ثم استطاع صلاح الدين أن يلغي الخلافة الفاطمية ويلحق مصر بالخلافة العباسية، وذلك عام 567 هـ -1171م.

وهكذا توحدت كل من بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر تحت راية واحدة، ثم حدثت معركة حطين في يوليو 1187م، التي كانت مقدمة لأخذ القدس من الصليبين في 2أكتوبر 1187م، وسارعت بعد ذلك المدن والقلاع الصليبية إلى الاستسلام لصلاح الدين فلم يبق في أيدي الصليبيين إلا بعض مدن محدودة هي: صور، إنطاكية، طرابلس، وهكذا تأكدت نهاية الحروب الصليبية كثمرة لعملية التوحيد التي قامت بها الدولتان: الزنكية والأيوبية•
ولقد حققت القيادات الإسلامية الانتصار على الصليبيين بعد أن قامت بخطوتين مهمتين هما:

الأولى: الاستفادة من الرصيد الثقافي الذي تقوم عليه الأمة،والذي يُعد محوراً أساسياً من أساسيات وجودها وهو الجهاد والمجاهدون، وفضلهما وأهميتهما في الحفاظ على المقدسات الإسلامية والحرمات الشرعية، واستثارته وتحريكه،والبناء عليه.

الثانية: التوحد تحت راية الجهاد، وهو ما بدأه عماد الدين الزنكي،حيث حكم الموصل ثم حكم الرها وحماه وحمص، ثم جاء نور الدين الشهيد واستمر حاملاً راية الجهاد، وضم دمشق إلى الدول المتوحدة، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي وضمّ مصر،وأصبح الصليبيون محصورين بين جناحي الأمة الشرقي الذي يضم الموصل والجزيرة وبلادالشام، والجناح الغربي الذي يضم مصر، ثم كان الإطباق الذي حقق الانتصار على الصليّبيين في حطّين، هذا ما يتعلّق بالحروب الصليبية• والآن: كيف سارت الأمور بالنسبة للحروب اليهودية؟

الحروب اليهودية :

عقدت القوى اليهودية في أوروبا المؤتمر الصهيوني الأول لها في بازل في سويسرا عام 1897م، وحدّدت أرض فلسطين هدفا لإقامة دولتها، واختارت هرتزل أميناً عاماً لها، ثم وقعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914م، وانهزمت الخلافةالعثمانية التي وقفت إلى جانب ألمانيا في الحرب، وكانت نتيجة الحرب سقوط الخلافةالعثمانية، وتقسيم بلاد الشام، ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني .

ثم بدأت الهجرة اليهودية تتوالى إلى فلسطين، ومكّن الانتداب البريطاني اليهود من إقامة دولتهم، فساعد الوكالة اليهودية على شراء أراضي العرب المسلمين، ونقل إليها كثيراً من الأملاك الحكومية، ثم أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947م، واندلعت المواجهات بين العرب واليهود، ودخلت الجيوش العربية فلسطين في 15مايو 1948م، وانهزمت أمام الجيش اليهودي، وقامت الدولة العبرية على أرض فلسطين،ونزح نتيجة ذلك عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ثم خاض العرب عدة حروب بعد ذلك مع الدولة اليهودية هي حرب 1956م، 1967م، 1973م ..

ثم دخل العرب في سلام مع اليهود،فوقّعت مصر اتفاقيات كمب ديفيد مع مناحيم بيغن العام 1978، ثم وقعت منظمة التحريراتفاقية أوسلو مع إسحاق رابين العام 1993م، ووقعت الأردن اتفاقية وادي عربة مع إسحاق رابين العام 1994م ..

والسؤال الآن: ما أوجه الاتفاق والاختلاف بين الحملات الصليبية والحروب اليهودية؟

1 ـ تتفق الحملات الصليبية والحروب اليهودية بأن أوروبا كانت ذات دور رئيسي في الحربين، وقد حّلت أميركا مكان أوروبا في دعم الكيان اليهودي بعد أن ضعف وضع أوروبا الاقتصادي والعسكري، وتقلص نفوذها السياسي.

2 ـ تتفق الحملات الصليبية والحروب اليهودية، بأنها استهدفتا العالم العربي والإسلامي وليس أرض فلسطين وحدها، فقد أقامت الحملات الصليبية دولا وممالك لها في نيقية، والرها، وطرابلس، وإنطاكية، والقدس، وهاجمت مصر وتونس، وأفرزت الحروب اليهودية احتلال أرضٍ في لبنان وسورية، ومصر، وتتطلع إسرائيل الآن إلى السيطرة على العالم العربي انطلاقاً من مقولة"أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل".

3 ـ تتفق الحملات الصليبية والحروب اليهودية بأنهما تستهدفان اقتلاع الوجود الإسلامي واستبداله بوجود آخر صليبي في الماضي، ويهودي في الحاضر، ولذلك لاتتوقف أهداف الصليبيين واليهود على الاستغلال الاقتصادي، إنما تتعداه إلى وجود مغاير ودائم.

4 ـ تختلف الحملات الصليبية عن الحروب اليهودية بأن بداية النهايةبالنسبة للحملات الصليبية بدأت بعد أقل من خمسين عاماً عندما احتل عماد الدين الزنكي الرَّها في العام 528 هـ - 1144م، في حين أن الدولة اليهودية مازالت تزداد تمكينا بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على قيامها، ويدل على ذلك اتفاقيات الاستسلام التي وقعتها أكثر من دولة عربية معها، فما السبب في ذلك؟
-السبب في ذلك ثلاثةأمور:

الأول: لقد تواصلت القيادات العباسية أثناء الحملات الصليبية مع ميراث الأمة الثقافي المرتبط بقيم البذل والعطاء والتضحية والجهاد والشهادة والمقدسات وتفضيل الآخرة على الدنيا ...الخ ، فاستفادت منه وحركته لدفع الأمة إلى الجهادوالقتال، في حين أن القيادات العربية المعاصرة التي تصدّرت الساحة السياسية بين الحربين العالميّتين الأولى والثانية وبعدها تنكّرت لميراث الأمة الإسلامية الثقافي، فهّونت من شأن الدين ورابطته وأعلت القومية ورابطتها بحجة تجاوز العصرلرابطة الدين، بل أصبح الدين العدوّ الأول للعلمانيين العرب ،ولقد قال أحد شعراء القومية:
سلام على كفر يُوحّد بيننا **وأهلا وسهلاً بعده بجهنّم

وشكّكت في بعض حقائق القرآن الكريم بحجة العلم من جانب والتاريخ من جانب آخر، كما حدث مع طه حسين عندما شكّك في حديث القرآن الكريم عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبنائهما الكعبة، وزينت السلوك الغربي القائم على انفلات العلاقات الجنسية بين الذكر والأنثى بحجة الحرية الشخصية وعدم توليد الكبت حسب نظريات فرويد، وروجت الفنون الهابطة القائمة على العري بحجة تذوق الجمال، ونادت بأنه لا حكم في الإسلام، وأن الحكم الذي مارسه الرسول كان شيئاً خاصاً به، لذلك فإننا يمكن أن نختار الحكم الذي يناسبنا كما جاء في مزاعم علي عبد الرازق في كتابه " الإسلام وأصول الحكم " ثم زاد الطعن في الدين والاستهزاء به في المرحلةالاشتراكية التي بدأت في الستينيات ، وامتدت إلى معظم الدول العربية..
ولم يتوقف الأمرعند هذا فحسب بل تعداه إلى اعتباره أساس التخلف، ويجب اقتلاعه من واقع الحياة والمجتمع والاقتصاد والأسرة والتربية لأنه أفيون الشعوب، ولأنه يقوم على الخرافة والأوهام ومُناهض لأصول العقل والنهضة، وقد روج لهذه المقولات كثير من الكتاب منهم: جلال صادق العظم، نديم البيطار، غالي شكري، لويس عوض...الخ

وبالفعل وضعت المقومات والبرامج والمناهج التي تحقق ذلك في أجهزة الإعلام والتربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة...الخ ، فكانت نتيجة ذلك تمزيق أوصال الأمة، وتوليد التناقضات في كيانها،واضطهاد علمائها، وتغييب طلائعها المؤمنة في السجون، وانهزامها في المعارك التي خاضتها أمام اليهود.

الثاني: رفعت القيادات العباسية شعار الجهاد منذ اللحظة الأولى لبدء الحملات الصليبية، واستمرت في رفعه إلى أن انتهى الوجود الصليبي، وكانت تتولد الأسر المجاهدة واحدة تلو الأخرى: فكانت الأسرة الزنكية، ثم الأسرة الأيوبية، ثم المماليك الشراكسة، ثم المماليك البحرية، في حين أن القيادة المعاصرة أنزلت راية الجهاد بعد أقل من خمسين سنة من مقاتلة اليهود، عندما وقّعت اتفاقات سلام مع اليهود، وعندما اعترفت منظمة التحرير بالقرار 242 وبإيقاف الانتفاضة والكفاح المسلح ضد إسرائيل، لذلك صارت تهمة الإرهاب تهمة جاهزة لكل من يفكر بمقاتلة اليهود، ولكل من يعد العدة لاسترداد حقه وأرضه السليبة، مع إن أطماع اليهود في توسيع الأرض والنفوذ والسيادة لم تتوقف إلى الآن عند حدبل نرى حدتها تزداد يوماً بعد يوم .

الثالث: لقد اعتبر المجتمع العباسي أن مقاتلة الصليبيين واجب الأمة جميعاً، لذلك اشتركت في مجاهدتهم كل الأعراق والأجناس: العرب، والفرس، والأكراد، والأتراك ...الخ ، ثم سارت القيادة في خطة توحيدية شملت مختلف المدن الإسلامية، ومنها: الموصل، وحماه، وحمص،وحلب، والشام، والرها....الخ، حتى توصلت إلى إجلائهم عن الأرض الإسلامية، لكن القيادةالسياسية المعاصرة اعتبرت أن مقاتلة اليهود واجب الفلسطينيين، لذلك أنشأ مؤتمرالقمة العربية العام 1964م منظمة التحرير الفلسطينية التي اعتبر دورها الدورالرئيسي والأساسي في مواجهة اليهود، واعتبر دور الدول العربية دور الداعم ويكون ذلك حسب ظروفها وإمكاناتها..

لقد أدى هذا التقسيم إلى حصر الصراع بين منظمة التحرير وإسرائيل، وجعل انتصار إسرائيل مؤكداً لأنها الأقوى بالمقارنة مع منظمة التحرير،ولأنه أبعدَ طاقاتِ الأمة وإمكاناتها عن ساحة الصراع.
لقد انتصرنا على الحملات الصليبية لكننا خسرنا الحروب اليهودية ؛ لأن القيادات السياسية حاربت ميراثها وتنكرت لثوابت الأمة الدينية، ولأنها غلبت الجانب القُطْري على حساب توحيد الأمة، ولأنها أنزلت راية الجهاد قبل انتهاء المعركة.

المصدر : مجلة الوعي الإسلامي العدد : 480