كنتُ أحيك لأطفالي أمنيات من نسيج خيالي ، فأقطع بحور الدّهر إلى كهف علي بابا ، إلى فانوس علاء الدّين أو إلى سفينة السّندباد و أناولهم بدلَ الخرق البالية فساتين حرير و معاطف أمير ، كنتُ أزيّن الفساتين ببتلّات اللّوتس الحالمة و المعاطف بريش حمام ، كنتُ كثيرا ما أجعلهم ينامون بعيدا عن الرّماد في قصور شهريار أو قلاع كسرى أو على ريش نعام .
و ذات شتاء مللْتُ من حكاياتي الزّائفة و كلماتي الخرفة ، مللتُ من رؤية أطفالي يأسرون فرحتهم في اسدال الجفون خوفا عليها من نور يحيلها هباء في الفراغ ، مللتُ من ابتسامات تجفّ على الشّفاه تضحك منها كلمات الصّباح ، سئمت دمعاتي النّافرة من عيني و من قسوة قلبي ، تنزل تعاتبني تقتلني تذكّرني بأكاذيبي على قلوب صغيرة تمسك بخيوطي المتآكلة و تحوم في سمائي المطرّزة بفضّة الغيوم ... سئمت فأوصِدت بوّابة خيالي و أغلقت كلّ المنافذ إلى مدائنه . و صار أطفالي يسألونني كلّ هزّة هواء و رجفة غصن و دمعة مطر و أنّة ريح و حفيف شجر عن كوخنا و بردنا و جوعنا كانوا يؤمنون أنّها تملك حقيقة أخرى في عيون الآملين...فلم أجد أمامي إلّا الصّمت و ادّعاء أنّ ضرسي يؤلمني، و لم يجد أطفالي غير أن يُلقوا بأنفسهم من فوق صهوة الواقع ليسقطوا شعراء و خطباء و فرسان في أفنية الخيال ، كان الوقت مساءً حينما التفوا حول كانون النّار في ركن أسود من بيتنا العتيق... كانوا يجلسون فوق حصير من حلفاء ينكتون الرّماد ببعض خيوطها و يرمون إلى الجمرات بعض حبات التّمر الأحشف يشوونها و يأخذونها إلى أفواههم تارة قطعة لحم و تارة قضمة تفاح و طورا حبة حلوى ، كنت أراقبهم و فؤادي يقطر غبطة و يتلوّى ألمًا في آن و لم تتوقّف كلماتهم عند جرعة عصير أو عنقود عنب بل وجدتهم يجعلون من فسحة الحصير غيمة في دنيا أخرى فوقف حبيبي أحمد واضعا على رأسه طاقية و حمل صحنا و أخذ يطرق طرقا خفيفا على الجدار فوقفت سوسن رفيقتي في الحقل و إلى نبع الماء و قالت بلباقة أهل المدن الأفندي عباس محمود العقاد ؟ مرحبا بكم في مجلسنا و دخل جبران و غادة السّمان و الرّافعي و عرفت حينها من تكون سوسن ... لقد كانت مي زيادة و الحصير صالونها الذي يحاكي في أصله صالون " مدام ريكاميه " و الذي كان يسمّى بالغرفة الزّرقاء و الطاقية الطربوش الأحمر و الصحن كتابا، ثم ما لبثوا أن يحيلوا الحصير سفينة الفتح و حسين الصّغير بغصن السنديان يلوّح و ينادي : تلك واندالوسيا تُطل علينا إنها تناديني آت إليك فأنا طارق و لا طارق مثلي أنا ابن زياد... و اشتدت المعركة و كان النّصر الوليد على عرش من حلفاء، لم أستطع ألّا أبكي و أنا أرى أكبادي ينسون جوعهم بعباءة هارون الرشيد أو مظلة مارك توين لم أصدق نفسي حينما وجدتني أستمع للناجشي يردّ حجة ابن العاص بن وائل ، لم أصدّق أن يناغموا الثلج المنهمر في الخارج ليكون إلهاما لليلى فتحمل قفتها لتنسج لجلساء النار و الحلفاء و الرّماد قصّة جديدة من جسد القصة الهولندية القديمة بائعة الكبريت ، ليلى لم تشعل عيدان الكبريت لتحلم بل أخذت تنشد للمارين فرقّت القلوب لألحانها فابتاعو العيدان و باعوها الحياة....
أخذت مكاني و و ضعت رأسي على وسادتي أنتظر انتهاء حكاويهم فأخذني الكرى و نمت لأستيقظ فأجد أبنائي في أماكنهم لم ينسوا نارا موقدة و لا أهملوا إحكام غلق الباب و حتى أنهم أضافوا فوق لحافي لحافا... أدركت حينها أنّ ما قرأته خلق جنّة في خيالي أودعتها أخيلة أبنائي فجعلتهم يكبرون بسرعة ثمّ آمنت أني لم أكن أقترف ذنبا بل أعطيتهم بديلا لحياة صعبة فهناك من يعيش بأنفه و عينيه و بطنه و منهم من يجبر كلّ ذلك أن يعيش بقلبه...
*النهاية*