مـسـلسـل حظ أمحيسـن
رواية بين الحقيقة والخيال
تأليف
الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر
استاذ جامعة بغداد والفاتح وصفاقس سابقاً



ح 1/ وقعت احداث هذه القصة, في الأربيعينات من القرن الماضي, في قرية في جنوب العراق, تقع على نهر الغراف, وادارياً تتبع قضاء الشطرة,لواء الناصرية
(محافظة ذي قار حالياً),.... و تحيط بهذه المدينة العديد من العشائرالمميزة بتاريخها العريق و بنفوذ وقوة شيوخها, الذي ضمنه قانون الأقطاع المعمول به في ذلك العهد.
بطل هذه القصة يدعى محسن سرحان, واسم الدلع في صغره "أمحيسن", وهو الأبن الأصغرلشيخ القريه.
توفت ام أمحيسن وهو لايزال في الخامسة من عمره, وله اختان اكبر منه سناً, ولذا تزوج الشيخ والده عدة نساء, حيث ان الشرع والعرف قد سمحا له بتعدد الزوجات !
الجو في تلك المنطقة بارد شتاء وقائظ صيفا الى درجة لا تطاق, ..اضافة الى الرطوبة العالية (وغره), بسبب ما يحيط بالقرية من المستنقعات والأهوار وبرك الماء الواسعة والضرورية لمعيشة الجاموس التي يصنع من لبنها الكيمر (القشطه), الذي اشتهرت به منطقة الأهوار وبالخصوص كيمر الشطرة !
اما السكان , فجلهم فلاحون اسمرت وجوههم لتعرضهم للفح الشمس الحارقة, وعلى النقيض من ذلك, يلاحظ وجود شبان جميلون ولهم اجسام معافاة وممشوقة, ولهم اطراف صلبة كأنها مصنوعة من الفولاذ, كما تلحظ فتياة لهنً وجوه مشرقة ومستديرة كالبدر, وابتسامات تكشف عن اسنان بيض كالثلج, وعيون لها بريق يسلب مهجة الناظر لها, وينطبق عليها وصف الشاعر جرير:
ان العيون التي في طرفها حور قتلننا ولم يحيين قتلانا
*****ً
ترعرع امحيسن بين اناس طيبون وسذج وبسطاء, وكان مميزاً عن كافة اشقائه, لأنه ,
آخر العنقود, وفيه بوادر نبوغة لفتت له الأنظار !
الا ان فقدان امه المبكر وزوال حنانها, جعل من حياته الجديدة اتعس مراحل عمره, حيث ترعرع في بيت كل شيئ فيه خاضع لأستبداد الشيخ وزوجاته المتغطرسات, فأصيب بالكآبة وعاش ذليلاً في جو عائلي متخلف !
كان امحيسن في تلك الحقبة من الزمن يعاني من الأضطراب العاطفي والأنفعالي وهذه من ابرز اعراض الأطفال الذين يصابون بالخجل والحساسية الفائقة وعدم القدرة على اقامة علائق عادية مع من هم في سنهم,... وهكذا صارامحيسن لا يكترث لأي فرد من افراد العائلة, فزاد ازدرائهم له, فأدى ذلك الى ارباكه نفســياً, فأندفع بكل عنف للتمرد

3
على كل ما يحيط به, واراد التحدي, فتطورت عنده الملكات المطمورة او قل,.. برزت عنده العبقرية, وصار قادراً على تأدية اعقد الأمور التي يؤديها من هم اكبر منه سناً !
*****
بلغ امحيسن الثانية عشر من عمره , وصار يتذكر اشياء عديدة حدثت في طفولته, خاصة بعد وفاة امه, الا انه يعتبر نفسه سيئ الحظ الى درجة كبيرة , وصار اسمه فيما بعد ضربا من ضروب السخرية, نتيجة للنحس الذي لازمه,... وصار اسمه تورية لكل سيئ الحظ ,..حيث يقول :
حظي مثل حظ امحيسن!!!
سببت هذه الظاهرة لمحيسن قلقاً وتوتراً بأعصابه, ولكن لم يصل الى حد الجنون, كما اشيع عنه بين الصبيان, حيث اكد الأطباء الذين شخصوا حالته, بأنه صبي صحيح الجسم ولديه ذهن خارق للعادة, .. واحياناً له تصرفات لا تتماشى مع الواقع مطلقاً.
كان امحيسن ينام نوماٍ عميقاً, ويحلم بأشياء غريبة, ويتذكر الكثير منها عندما يستيقظ صباحاً, ولما يروي الخطوط العامة لتلك الأحلام,.. يسخر منه رفاقه, لذا قرر عدم سرد اي حلم يراه مستقبلاً.
زادت عند امحيسن التأملات, او ما يعرف بأحلام اليقظة, وراح يعرض على رفاقه العاباً لم يألفوها قبلا, فأرعبت الكبار قبل الصغار !!
لذا صار اهل القرية يعتقدون بوجود (جني امعشعش), في جسده او دماغه !!
*****
تعرف امحيسن في مرحلة الدراسة المتوسطة على صبية تكبره بعامين,اسمها "جميله"
وهي ابنة عريف الجيش المتقاعد, والفراش في مدرسة القرية الأبتدائية,.. وقد استمرت علائقهما طيلة سنين الدراسة المتوسطة معاً بنفس الصفوف, لعدم وجود مدرسة ابتدائية خاصة بالبنات في تلك القرية, .. ولذا كانت جميلة متحررة لحد ما مقارنة ببنات جيلها في القرية في تلك الحقبة من الزمن.
كان امحيسن صبي عنيد وخجول اوقل صعب المراس,..اما جميله, فقد كانت صبية نشطة وطيبة ولطيفة ومرحة جداً,..وعلى الرغم من كل المفارقات ,..ربط الحب بينهما, فقد تعلق امحيسن بها, واحبها حباً عذرياً لفت انظار جميع ابناء جيله.
وصلت اخبار هذه العلاقة الى اسماع شيخ العشيرة (والده)., فوبخه ومنعه من الأختلاط بتلك الفتاة وهًددً والدها بأبعاده عن القبيلة,.. الا ان امحيسن لم يذعن لأوامر والده, وراح يكثر من اللعب مع زميلته جميلة في المزارع القريبة من دارها بعيداً عن عيون الرقباء.
شعرت أم جميله بتلك العلاقة فتصًدت لهاوانبت امحيسن على تصرفاته مع ابنتها, وطلبت منه الأهتمام بدراسته بدلاً من اللعب والحديث عن امور هي من وحي الجن او وسوسة الشيطان, فقد طرق سمعها قدرته على تمييز الألوان بدقة وهو مغمض العينين ..

4
ويحرك اي شيئ من مكانه من دون اي يمسه ,ويكسر لوحاً زجاجياً بأصبع واحد من دون ان يتهشم !!
ابهرت تلك الأعمال اصدقاؤه وبالخصوص جميله, وفسرت هذه القدرات الخفية على انها مكرمة من كرامات الأولياء الصالحين الراقدين في قبور مميزة بأطراف القرية,... ولذا زادت جميله من نذورها وتوسلت بالأولياء,... كي يمنعوا شيخ العشيرة من تهديم علاقتها مع امحيسن وعدم اتخاذ القرار بتهجيرهم من القرية, ...لأن والدها غريب !
ذعن امحيسن للأعراف السائدة وابتعد عن الألعاب الساذجة مع جميله, وصار مدركاً للتخلف والحالة المزرية لأبناء قبيلته, فتمرد على العادات البالية عند اغلبية اهل القرية.
*****
في الصباح الباكر تدب الحياة في القرية , فيتوجه الفلاحون نحو مزارعهم يسوقون امامهم السعي (الأغنام والأبقار), في حين تتوجه النساء البائعات يحملن على رؤوسهن المنتجات اللبنية , ومن اهمها(الكيمر), نحو المدينة وهن يسرن بشكل رتل عسكري ,مع اهازيج واغاني شعبية ينشدنها بأصوات خافته.
وفي كثير من الأحيان, يعترض طريقهن المعلمون على دراجاتهم وهم متوجهون الى مدرسة القرية ,... ويتبادلون معهن تحية الصباح مقرونة بغزل مهذب احياناً.
كما يلاحظ اسراباً من الطلاب المتوجهون من العشائر المحيطة بالقرية, بزيهم الشعبي المزري, ومعظمهم رث الثياب وحفاة الأقدام , ...عدا القلة منهم المرتدي للزي الحديث, ومن ضمنهم امحيسن وجميلة.
*****
يلتقي امحيسن صباح كل يوم مع جميله في الطريق العام عندما يتوجهان نحو مدرستهم,... ويتبادل معها تحية الصباح خلسة,..وفي كثير من الأحيان تكون جميله رفقة زميلاتها , فلا يجرؤ امحيسن من الأقتراب منها ,.... فيوجه التحية لها همساً او... اشارة بالعيون, ... وقد اثرت فيه هذه المواقف العاطفية,... وصار يقرض الشعر الشعبي عندما كان في المرحلة المتوسطة, وقرأ في احد الأيام القصيدة التالية عند تأدية تحية العلم يوم الخميس ومنها:
ليش بعيونك ترد السلام يصير حسادي كالولك كلام
ياسلام العين ياأحلى سلام هز كياني وخلً افكاري بالأوهام
ليش تنساني وتنسى ايام الغرام وليش بعيونك اترد السلام
*****
لقد شاع حب امحيسن وجميله, واشتهرت اخبارهما , فغضب الشيخ (والد امحيسن), ورفض طلب ابنه عندما ابلغه برغبته بخطبة جميله,.... كما ذعن والد جميله لتهديد الشيخ وراح يفكر بالهجرة الى المدينه خوفاً من بطش شيخ القرية.

5
حاول مدير المدرسة المتوسطة, بناءاً على اوامر شيخ القرية, وحرصاً منه على سمعة المدرسة التي ضمت ولأول مرًة عددا من الطالبات ليدرسن جنباً الى جنب مع الأولاد .
ان يكسر عرى العلاقة بين امحيسن وجميله بشتى الوسائل,..ولكن من دون جدوى !!
زاد تعند امحيسن, ولم يكترث لأحد, وصار يلتقي بجميله سراً, ولم يكلمها حتى داخل المدرسة او داخل الصف,... واخذ يتعامل معها بنفس المستوى الذي يتعامل به مع بقية الطلبة, وخصوصاً بعد ان صار حبهما مضرباً للأمثال !!
لم يروق لجميله السلوك الجديد من امحيسن, وفي احد الأيام التقت به وجهاً لوجه, وهي بصحبة زميلاتها,... وبدا عليهن الخجل, ورحن يتهامسن فيما بينهن, الا ان جميله لم تعر اية اهمية لوجودهن بالقرب منها, وكانت اكثرهن جرأة , فتأخرت عن زميلاتها وأقتربت من امحيسن وابتسمت له, ..وهمست بأذنه تحية الصباح, وركزت نظرها فيه بألم وحرقه, فبادلها الشوق واللوعة,.. ثم افترقا لتلتحق جميله بصحبها, ..فتظهر النشوة على امحيسن ويبتسم لها ويلوح لها بصورة خفية لا يجيدها الا العشاق !
وبعد مسيرة متفاوته الوقت, يصل الجميع الى المدرسة, ويسمع رنين الجرس, فيهرول المتأخرون منهم خوفاً من عقوبة المعلم المراقب في ذلك اليوم والذي يلوح بالعصا نحو
المتأخريين,.. وبعد لحظات ينتظم جميع الطلاب كلاً حسب صًفة,.. وكالعادة لا يهتم امحيسن لتحذير المعلم وحثه على الأسراع والدخول الى اصطفاف الطلبه (الطابور), الا انه لفت نظر الجميع بزيه الحديث, وهو زي مضحك لأبناء القرية في مثل ذلك العهد.
كرر المعلم اوامره, بضرورة الألتزام بالنظام, و اوعز بأجراء الحركات الرياضية , ثم قراءة احد الأناشيد الوطنية, ..وبعد اتمام تلك المراسيم,.... يتوجه الطلبة الى صفوفهم بأنتظام, الا ان امحيسن لم يترك فرصة ما لم يلفت له الأنظار, ..ويلاحظ المعلم حركة غير لائقة, فيزجره, الا انه لم يرتدع ولم يبالي للنداء,.. فيثور المعلم ويمطره بوابلاً من الشتائم الخفيفة, ثم يقتاده الى مدير المدرسة, والتلاميذ في رعب مما يجري,فكيف لهذا المعلم الشجاعة التي تجعله لا يهاب بن شيخ القرية ؟
يدخل امحيسن الى ادارة المدرسة, ويقف امام المدير وبجنبه المعلم الذي شرح ما قام به الطالب محسن سرحان من مخالفات, الا ان امحيسن لم يعِر اي اهتمام اوقل غير مكترث لأي عقوبة, .. وقد صار تواجده في ادارة المدرسة امراً مألوفاً,.. وكثيراً ما كان يعاقب بالضرب بالعصا على يده, ..ولايبالي لأي نوع من انواع الردع واعتبر الأمر نوعاً من البطولة.
يعود امحيسن بعد تنفيذ اي عقاب الى صفه , ويجلس في المكان المخصص له, مع نظرة خاطفة للحبيبة جميله, ..وتبادله هي الأبتسامه, وتعود له الطمأنينة من حب جميله له, فيهدأ قليلاً, ويجلس بكل وقار صاغياً للمعلم وهو يشرح الدرس.
كسب امحيسن من الناحية العلمية رضا كافة المعلمين, بالرغم من شقاوته مع زملائه,

6
حيث صار متفوقاً وحصل على اعلى العلامات في كافة الأمتحانات, ..وقد اشاع البعض مرًد ذلك يعود لكونه بن شيخ القرية, وخوف المعلمين من سطوة والده, وفسر البعض
الآخر للمستوى المعيشي الجيد الذي نشأ وترعرع فيه,..الا ان الظاهرة المزدوجه التي تميز بها امحيسن لم يجد احداً تفسيراً لها, ولا بد لها ارتباط خفي لم يتكهن به احد !!
تميز امحيسن من اكتساب معلومات معمقة في كافة العلوم الأساسية, اضافة الى قيامه بأعمال مبهمة لا تخضع لأي منطق !
ذاعت شهرة امحيسن بالتنجيم حتى صار حجة في علم الفراسة, (الميتافيزقيه), وقد استعان به العديد من مثقفي القرية والمناطق المجاورة لمعرفه حظهم او قراءة ابراجهم. صارت لمحيسن شخصية ابهرت كافة المعلمين الذين اشرفوا على تعليمه وجعلهم في حيرة من الأزدواجية التي ميزته عن بقية زملاؤه.
*****
تميزت قرى الجنوب العراقي, ببيت الضيافة المسمى" المضيف",.... وهو الديوان الرسمي , او النادي الأهلي للقبيلة تحت رعاية شيخ القرية, ..ويحمل المضيف اسم عائلة الشيخ, فيقال مضيف آل عبيد نسبة لقبائل العبودة, ومضيف آل جاسم نسبة للشيخ جاسم وهكذا سمي مضيف آل ابخيت نسبة للجد الأعلى لوالد امحيسن "الشيخ ابخيت".
يقع هذا المضيف بأطراف القرية, وقد بني بطراز معين ويتسع لمآت الزوار, حيث يجتمع افراد العشائر صباحاً و مساءاً لأحتساء القهوة والسًمر فيمابينهم , ويصغون لأية معلومات جديدة يصدرها الشيخ او مساعديه الذين يطلق عليهم اسم" السراكيل".
يتصدر مدخل المضيف" الوجاغ", وهو المكان المخصص لأعداد القهوة العربية, ذات النكهة والمذاق المميز , حيث تصنع بطريقة خاصة لا يجيدها الا ذوي الخبرة.
يرتاد المضيف القوم من افراد القرية فجر كل يوم لطرح المشاكل امام شيخهم لكي يبدي رأيه , ويصدر حكمه وامره المطاع في كل قضية تعرض عليه, والويل لكل من يخالفه الرأي, مهما علت منزلته او ادعى الحق بجانبه,....فللحق وجه واحد لا يراه غير الشيخ,.. وبطبيعة الحال الشيخ في عرف اتباعه معصوم من الخطأ !!
الا ان في قرار العديد من افراد القرية الذين نالوا قسطاً من المعرفة والثقافة عن طريق المذياع والصحف, ومحاورة بعضهم لأبناء المدن المجاورة, جعلهم يدركون ضحالة فكر الشيخ واسلوب حكمه, ......الا ان الدولة اعطت الشيوخ (الأقطاعيون), مزايا ومكاسب عديدة, فقد كانوا يخضعون لقانون خاص بهم ( قانون العشائر), ..وبالرغم من ذلك فأن غالبيتهم يعتمدون في اصدار احكامهم على الأعراف السائدة, ..... وقد ادى ذلك الى مصادمات كثيرة بين السلطة المركزية في بغداد و افراد العشائر كانت تسفر عن وقوع ضحايا من الطرفين, ......الا ان هذه الظاهرة اختفت عندما صار معظم شيوخ العشائر الشهيرة اعضاء بمجلس النواب او الأعيان,.. وتم الغاء قانون العشائر سيئ الصيت بعد قيام ثورة الربع عشر من تموز 1958.
*****
7

شاع خبر ظهور نتائج المدارس المتوسطه," البكالوريا ", ..فهرع الطلاب نحو مدرسة القرية لمعرفة متائجهم, وكان من ضمنهم امحيسن,..فقد اسرع عندما شاهد حبيبته جميلة, المتجهة مع زميلاتها نحو المدرسة,..... فحياها بطريقته الخاصة, ....ودبت فيه السعادة
لرد تحيته بأبتسامة حلوة.
دخل امحيسن الى بهو المدرسة, ولفت له الأنظار, ..وزج نفسه بين صفوف الطلبة المحتشدين حول لوحة الأعلانات ,.... لمشاهدة نتيجته ونتيجة جميله,.. ..وقد تم له ذلك بصعوبة, وتوجه نحو المكان الذي اعتادت جميله الوقوف به, ..وبشرها بنجاحها, وعلت البسمة ثغرها وزاد تألقها, وهي بالملابس القروية المزركشة, وكأنها باقة من الزهور,...
فتصمت قليلاً, ..ثم تقول وانت يا امحيسن؟ .. انشا.. الله..الأول !
و اجابها بكل اعتزاز, .. طبعاً,....درجاتي بكل الدروس عاليه.
لم تظهر الفرحة على امحيسن, وعلت وجهه الكآبة, ..ولم تبهره النتيجة, حيث سيفترق عن الحبيبة بعد اقل من شهر, ....فهو على علم برغبة والده بأكمال الثانوية في بغداد , وبهذا سيتحقق للشيخ مأرباً آخراً, حيث ستضعف العلاثقة العاطفية بين امحيسن وجميله, عندما تبهره بنات بغداد الجميلات,..فالشيخ لا يعترف بشيئ اسمه الحب, ويعتبر العلاقة بين المرأة والرجل هي جنسية فقط, ويستطيع ازالة صورة اجمل امرأة بوضع صورة اخرى عليها !
ساد الصمت بين الحبيبين, والطلبة مشغولون بمعرفة نتيجة كل منهم , ..وجميله تقرأ ما يدور في مخيلة امحيسن,..وراحت تبدي قلقها لما يخبئه الزمن لها, وقالت للحبيب:
" فرحتنا لا طعم لها, فبعد اقل من شهر ستتركني وحيدة, وانت ستنعم بالحياة في بغداد, ومن يدري,..فربما ستقطفك مني واحدة من حسناوات الحضر !!
ساحت دموع جميله على خدودها المياسة بصمت, ..وحاول امحيسن السيطرة على الموقف حتى لا يلفت انظار الطلبة نحوهم ويبعد عنهما الفضيحة ويزيد الطين بله,..فقد راجت اشاعة حبهما في جميع ارجاء القرية,.....وسوف تزداد رسوخاً اذا ما لاحظ اي طالب مثل هذا المشهد الرومانسي الذي لم يألفه طلبة القرية !!
حاول امحيسن السيطرة على الموقف, وراح يهدأ من روعها, ويزيل عنها الشكوك, ثم
سحبها بعيداً عن جمهور الطلبة, وقال لها:
" سوف اطلب من والدك موافقتة لأكمال دراستك الثانوية في قضاء الشطرة او بمركز اللوا(المحافظة), "مدينة الناصرية".
لم توافق جميلة على فكرته, وقالت له:
" من المستحيل ان يوافق الوالد على هذا المقترح, .فهو يحسب الف حساب لأقوال الناس
فهل من المعقول ان ترسل فتاة بمثل سني للدراسة والعيش بمدينة اخرى بمفردها من دون ان يرافقها محرم او حتى احد المعارف! ".

8
تفتق ذهن امحيسن, واقترح عليها نقل وظيفة والدها الى اي مدرسة ابتدائية في الشطرة او الناصرية,..فوظيفته بسيطة وسهلة المنال.
تدرك جميله في الحال ضحالة وظيفة والدها, وتحمر وجناتها خجلاً,..ويدرك امحيسن خطأه, واعتذر منها عن هذه الهفوة الغير متعمدة,..الا انها لم تقبل اعتذاره, ..فتنظر اليه بشذر وألم وتغادر المنطقة من دون وداع وتنسحب الى الخلف حتى تقترب من زميلاتها الواقفات على مقربة منها ,..وبسرعة تنسجم معهن بالكلام المفعم بالتورية والألغاز من اجل التعرف على ما دار بين الحبيبين في المحطة الأخيرة لقطار الحب.
*****
في مساء ذلك اليوم, يدخل امحيسن الى المضيف, ويتوجه نحو مكان جلوس والده الشيخ ويقبل يده, ثم يجلس على بعد قليل منه, ..فيرحب الشيخ بالقادم ,..... ويستفسر منه نتائج الأمتحان, ..فيفرح الشيخ من نتيجته الباهرة.
يأمر الشيخ ولده بالذهاب الى مركز القضاء والأتصال بعمه التاجر في بغداد , لمعرفة الوثائق الللازمة لدخول الثانوية المركزية في العاصمة.
لم يوافق امحيسن على مقترح والده والذي يهدف منه ابعاده عن جميلة,..ويبين رغبته في اكمال دراسته في مدينة الشطرة.
يحتدم الجدل بين الوالد وابنه بصوت خافت, لكي لا يلفت لهما الأنظار,... ويصر امحيسن على موقفه,..ويقول:
" انا لا ارغب البعد عن القرية,..يا محفوظ,..وافضل ترك الدراسة عن البعد عنكم !!
يبتسم الشيخ ليخفف من حدة الموقف ويقول لولده بسخرية مؤطرة بلهجة الدلال او ما
يسمى (بالدلع), لمحبوبه امحيسن ويقول:
" انت ما تكدر البعد عن الكريه لو..(سكوت), ..انا لا اريد ان تعصي امري يا اوليدي",
ابتعد عن التصرفات الصبيانية, امامك زمن طويل لتحقق طموحك, واخرج من ذهنك احلام المراهقة ,..أنت لسه,..أصغير!! ".
فهم امحيسن ما يعنيه والده,... وان التعند سينقل غضب الشيخ على والد جميله, ولذا ذعن للواقع, وبدأ يتهيئ للرحيل,.. او قل البعد عن الحبيبه !
وفي يوم الرحيل, ...تجمع الأقرباء والمحبين لتوديع امحيسن, ..وتخلل ذلك الموقف زغاريد النساء وقرع الطبول,..وامحيسن مثل (الأطرش بالزفه),..فهو لم يهتم بكل الذين من حوله, وزاغت عيونه عن كل ما حوله ليبحث عن قلبه الذي انتزع منه قسراً,...ومن ثم وقعت عينه على وجه جميله المشرق, ويحيها ببسمة, فترد له التحية, فيشعر امحيسن بنشوة ازالت عنه الهموم,....وراح يمشط تضاريس جسمها المكتنز حيوية, وكأنه يراها لأول مرة,..فقد بانت اكثر نضوجاً, ..وكم تمنى في تلك اللحظات ان يضمها الى صدره ولو لثواني,.. وصار لا يخشى لومة لائم,... وليكن من بعده الطوفان!!
تبادل امحيسن وجميله الخواطر فيما بينهما من على بعد, وتراقصت الأفكار في ذهن هذه القروية التي احست بظلم العرف المهيمن على محيطها الضيق وتسائلت مع نفسها:
9
" لماذا يفارقها الحبيب؟ ولم لا يسمح له بالزواج منها,... فما ذنبها ان كان والدها فراشاً وابوه شيخ القريه؟. ..لقد ورث المشيخه من والده, والنظام آنذاك هو الذي صان الطبقات
في المجتمع الواحد,.. وحتى الدين لا يسمح بالتمييز بين المسلمين,....كما نص على ذلك القرآن الكريم, (اكرمكم عند الله اتقاكم), ولم يرد اي نص في الكتب السماوية اوالوضعيه ما يمنع من تزاوج الأحباب بسبب اختلاف طبقاتهم او دينهم اوعرقهم او لون بشرتهم!!
تتوجه ام جمبله بصحبة ابنتها لتوديع امحيسن,..ويتبادلون عبارات الوداع , ويحيهم هو بكل لطف وادب, ويهنأ الأم بنجاح ابنتها,..وتخرج الحلوى (الحامض حلو), من الكيس وترشه فوق رأسه مع زغاريد النسوه المحيطات بالحبيبين, والدعاء بتحقيق الأمل.
يمعن امحيسن النظر بوجه جميله,..فتبادله الحسرات المفعمة بالأمل, ويخترق شعاع كيوبيد من عيون جميله ليخترق شغاف قلب امحيسن المضطرب اصلاً, وكاد لسانه ان ينطق ما اختلج بفؤاده من تراكمات الحب,.. والتي لا يحسها الا من اكتوى بالعشق !!
تكلم امحيسن مع جميله بأمور عديد خلال ثواني معدودة,مضمونها يحتاج الى عشرات الصفحات لشرحها!!
حان وقت الرحيل, ويستأذن امحيسن المحيطين به, بمشاعر مكللة بالحزن, ويودع الجميع فرداً..فرداً,..ويغادر جسده المكان, ويبقى شعاع الحب المقدس على ارتباط وثيق مع جميله, وتجف الكلمات وتنهمر الدموع الخافته,.. ملوحاً كل منهما يده بالوداع !
تتحرك السيارة ببطئ لمغادرة المكان, ويكاد امحيسن يصرخ طالباً توقفها,..ولكن هيهات ان يمنع ما هو مقدر, ..فتلوح جميله بيدها ,... ويتبادل النظرات معها, وتمزق الحسرات قلبه الصغير المفعم بالحب العذري والحنين الصادق الذي زقه من جميله ليعوض ما افتقده من حنان امه بعد وفاتها... وهو مازال صبياً.
يتردد الأنسان بعض الشيئ في اللحظات الحاسمه التي تغير مجرى حياته الى الأبد,.. فيأكله الندم بمرور الزمن, على تلك الفرصة التي كانت بين يديه ولم يجرأ على تنفيذها والفرص لا تتكرر,..و قد تستبدل
الا انها لا تعوض فرصة العمر!!
*****

تصل السيارة المقلة لمحيسن الى "محطة القطار في اور",.. وبعد وصول القطار النازل من البصرة الى بغداد,..يصعد امحيسن برفقة احد الأعوان من افراد القرية الى القطار,..وامضى تلك الليلة حالماً حتى الصباح بالحبيبه جميله !!
في صباح اليوم التالي, يصل القطار المحطة,.. ويستقل امحيسن ومرافقه سيارة اجرة ويتوجهان الى بيت عمه في شارع الزهاوي مقابل البلاط الملكي سابقاً.


10

سجل امحيسن بالثانوية المركزية بالقرب من مجلس الأمة آنذاك, ..وتعلم استخدام سيارات النقل (الأمانه) , ..واشد ما كان يلفت نظره, بنات بغداد السافرات, او المرتديات للعباءة البغدادية,.. من دون غطاء الوجه (البوشيه),..فيركز نظره على فتاة تصعد
الباص وهي معطرة بروائح زكية أنعشته, .... وينظر الى الطيورعلى الأرصفة وفي الساحات العامة من دون ان يمسها احد !
غمرت تلك المشاهد امحيسن بالألم ,.. وتذكر بنات قريته ,....وتمنى ان يعم التطور الذي شاهده في بغداد عموم الوطن.
يصل امحيسن المدرسة, و يتوجه الى صفه,..ومن ثم يدخل مدرس المادة, ويبدأ بشرح الموضوع والكل مصغي بأجلال واحترام,.. وان اول ما لفت نظره, هو هندام المدرس وتمكنه من سرد المادة العلمية, واصغاء الطلبة وتدوينهم كل ما ينطق به ويكتبه ويرسمه على السبورة,..... ويستمر الدرس لحين سماع الجرس.
*****