عندما تكون قريبا من شخصية كاريزمية فلن تشعر بالطاقة تتفجر منها فقط بل إنَّ هذه الطاقة تنتقل إليك مثل العدوى الإيجابية لأن أمثال هؤلاء يعرفون إلى أين هم ذاهبون فيأسرون الآخرين بتميزهم وحماسهم. لكن هذه الشخصيات الجاذبة بالتأكيد لم تحقق نجاحاً عظيماً دون صعوبات. لذا قيل (لا يُرمى بالحجر إلا الشجر المثمر) وتفسيرها يسير وسهل فالحجر: أداة الحساد، والشجر المثمر: نجاح المحسود.
ظاهرة الغيرة المهنية أو الحسد ترتبط غالبا بأجواء المنافسة. والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة و هي المبادرة إلى الكمال الذي يشاهده الإنسان في غيره فينافسه حتى يلحقه أو يجاوزه وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفس. والتنافس في فعل الخير من علو الهمة وهي نوع من المسابقة قال تعالى (فاستبقوا الخيرات) المائدة 48 وقال تعالى ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) المطففين 26. المنافس يختلف عن الحسود فالحسود عدو النعمة متمن زوالها عن المحسود كما هي زائلة عنه بينما المنافس مسابق النعمة فهو يتمنى تمامها عليه وعلى من ينافسه والحسود يحب فشل وتعثر غيره حتى يساويه في النقصان. ويذكر العلماء أن مراتب الحسد أربعة: الأولى: تمني زوال النعمة عن المنعم عليه ولو لم تنتقل للحاسد. الثانية : تمني زوال النعمة عن المنعم عليه وحصوله عليها. الثالثة: تمني حصوله على مثل النعمة التي عند المنعم عليه حتى لا يحصل التفاوت بينهما، فإذا لم يستطع الحصول عليها تمنى زوالها عن المنعم عليه. الرابعة: حسد الغبطة ويسمى حسداً مجازاً وهو تمني حصوله على مثل النعمة التي عند المنعم عليه من دون أن تزول عنه. هذا الاستثناء في تراثنا الديني لحسد الغبطة لعله قريب من المنافسة المحمودة والذي يدل على علو همة صاحبه وكبر نفسه وطلبه التشبه بأهل الفضل.
وفي أيامنا هذه تؤكد أدبيات الدراسات النفسية والاجتماعية على أهمية المنافسة باعتبارها مؤشرا دالا على السواء النفسي في بيئة العمل وينظر إليه كبديل عن الغيرة المهنية باعتبار الغيرة سلوكا سالبا. فالمنافسة لها دورها في دعم وتعزيز كفاءة وفعالية عمليات الإنتاج والأداء لأن كفاءة وفعالية أداء منظمات العمل ترتبط بشكل رئيس بدرجة تفاعل الفرد (الموظف) داخل منظمات العمل سواء كان هذا التفاعل مع الزملاء أو الرؤساء أو المرؤوسين من خلال بلورة الشروط والظروف المعززة لحالة الانسجام ومن أهمها درجة الاستقلالية في العمل (work Autonomy) عن تأثيرات أو الإملاء الخارجي سواء كان ذلك مباشراً أو غير مباشر من زملاء المهنة الواحدة.
الحديث هنا لا يقتصر على غيرة صغار القوم أو غيرة الضعفاء إنها محاولة شاملة لرصد تلك المشاعر السلبية التي تصيب الجميع وحتى من نظنهم أقوياء ويستطيعون أن يمتلكوا زمام أمرهم أو من نحسبهم علماء يمنعهم علمهم وتقواهم عن الخوض في غمار هذا المستنقع السلوكي. نعم ليس هناك أسوأ من غيرة أصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة و التجار وأهل العلم والثقافة والفكر فهؤلاء رغم مسؤولياتهم و رغم المنصة الاجتماعية والرسمية التي يمارسون دورهم من عليها لكنهم في لحظات ضعف يتصرفون بانحدار شديد فيتخبطهم مس من الغيرة!
في مثل هذه اللحظات من الممكن أن تتحول شريحة من الناس إلى (تيوس)! يقول سعيد بن جبير «استمعوا لعلم العلماء ولا تصدقوا كلام بعضهم على بعض فو الذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في ضرابها» نعم الحساد تيوس الناس لأنهم لا يتحملون من يشار إليه بعلم أو فضل أو مكانة. يقول تعالى (وفوق كل ذي علم عليم) يوسف 76 فلا يوجد هناك ذوات عارفة طالما هناك من هو أعلم فلا غضاضة أن يكون كل واحد منا طالب علم بل وحتى طويلب علم. فمن الناس من يكون شمعة يحرق نفسه ليضيء للآخرين. لكن هناك من يتلذذ بالنيل من الطامحين والإساءة إلى الناجحين والتقليل من شأن العاملين وقد يكونوا من الأقربين. وللأسف فإن (الغيبة الإلكترونية) تنتشر هذه الأيام في المنتديات وبأسماء مستعارة فالغرض والنية هو تتبع الزلات واقتناص العثرات. يقول سيد الأولين والآخرين (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم). فما يضير لو قالوا: نفع الله به ونفع بما فعل؟ أو ما يضير لو قالوا ما شاء الله. تبارك الله؟ يقول سبحانه وتعالى (وقولوا للناس حسنا) البقرة 83 (قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) الإسراء 53، وجاء في الأدب الإنساني العالمي قول مارك توين (استطيع أن أعيش شهرين كاملين على كلمة إطراء واحدة)!.
قبل الختام أوصي بهمسة في أذن المحسود وتتعلق «بآداب التفوق» فليس هناك أسوأ من المتميز المغرور. فقد يعمل سلوك الغرور على الحط من شأن الزملاء والأقران بأساليب متعددة رغم أن بعض الزملاء والأحبة ساندوا هذا المتميز لسنوات. وهو حتماً سيحتاجهم لسنوات مقبلة عندها لن يكون لديهم حافز لمساندته اجتماعيا. والأسوأ أن يصل الحال إلى رفض العمل معه. يقول الفيلسوف طاغور (ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع). إن التودد إلى الناس نوع من الكرم والمبادرة إلى التواصل معهم لنزع الحسد من قلوبهم نوع من الكرم والتغافل عما يقولون كرم تقول العرب: (من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم).
كما اقترح أيضا على الموظف المتميز والمدير المتفوق أن يستمزج التبسم والدعابة مع الزملاء والمرؤوسين لكسر حاجز الهيبة ولغة التكبر لأنه بذلك يقدم لقاحا معنويا ضد الحسد. يقول الإمام علي (رضي الله عنه): (من كانت به دعابة فقد بريء من الكبر) وكريم الأصل كالغصن كلما تحمل ثمارا تواضع وانحنى يقول الشاعر:
ملأى السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ
فما أجمل أن يكون الإنسان شمسا بين الناس يلتمسون منه دفأهم ويأنسون بالعمل معه ويتعلمون منه الجديد ويشتاقون إليه كلما غاب. هنا بالضبط يمكننا أن نرشف رحيق العشق ونتدثر بألطاف الكلام: عظمة عقلك تخلق لك الحساد وعظمة قلبك تخلق لك الأصدقاء. فهل نستطيع الجمع بين عظمة العقل وعظمة القلب ونحقق غاية هذه السطور؟.

بقلم المدرب والمستشار منصور القطري ..