بعد ثلاث سنوات من احتلال العراق
شبكة البصرة
د. يوسف مكي – التجديد العربي
في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003، وصل عدد من الجنود الأمريكيين، وبصحبتهم بعض المرتزقة الذين قدموا على ظهور دباباتهم، إلى ساحة الفردوس المقابلة لفندق فلسطين في العاصمة العراقية بغداد، وأسقطوا تمثالا للرئيس العراقي، صدام حسين، وسط حضور مكثف لعدسات التلفزة وأجهزة الإعلام. وقد اعتبرت تلك اللحظة، نقطة فاصلة في تاريخ العراق الحديث الذي انتزع استقلاله السياسي مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
أراد الأمريكيون من هذا الاحتلال أن يكون درسا قاسيا لكل من تحدثه نفسه أن يخرج على الخطوط الحمراء، وأن يكون مقدمة لمشروع القرن الواحد والعشرين، الذي كان قرار المحافظين الجدد أن يجعلوا منه قرنا أمريكيا بالكامل، دون منافسة من أحد. وبقدر التفاؤل الواهم في مستقبل باهر للمشروع الأمريكي، كان الطنين والتطبيل والجعجعة، والاستهجان بالعراق مقاومة وجغرافيا وتاريخاً. فالجيش العراقي قد سلم، كما هو الوهم والزيف، دون مقاومة تذكر، والدولة العراقية اختفت بسرعة فائقة، بطريقة لم يتصورها حتى أكثر الناس تشاؤما، أو تفاؤلا.. ولم يكلف "المنتصرون" أنفسهم عناء قراءة تاريخ العراق، قديمه وحديثه، ولم يحاولوا تلمس تربته والحفر في ذاكرتها ليعلموا كم هو تعداد الأقدام الغازية التي حاولت السطو على بلاد الرافدين، فغاصت تلك الأقدام في مستنقعات ديالى والأهوار، وكانت ذراع جلجامش الشامخة تمارس سطوتها، وتلاحق الغزاة فارضة عليهم الرحيل، قبل المغيب.. لتقر عيون الأرامل وأمهات الشهداء والشيوخ والأطفال في وطن لم يعهد غير الإباء والشرف والكرامة.
قبل مغيب الشمس في التاسع من نيسان/ أبريل، ولم ينبلج بعد صباح يوم جديد آمن على قوات الاحتلال، والقوى التي تواطأت معه، أعاد العراقيون لتاريخهم بهاءه وعزه، وأعلنوها صراحة للأمريكيين: لا مكان لأقدامكم في بلاد أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، واستلهموا من قوانين حمورابي، ومن فقه الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام أحمد بن حنبل حق الدفاع عن النفس والاستبسال من أجل حماية العرين. واستمر الاحتلال يواجه طوفان الغضب العراقي، ولكن إلى أين؟.. إلى أين المفر؟!.
ليست هذه المقدمة، محاولة لاستعادة توازن نفسي لأمة غلبت على أمرها، فحاشا أن تكون أمة القرآن كذلك، فقد شرفها الله بحمل رسالة العقيدة والحضارة إلى أصقاع العالم، وكان لها دائما إحدى الحسنيين.. النصر أو الشهادة. ولكنها في حقيقتها مرثية للمحتل ذاته. إن خلاصة هذا الحديث هو أن الاحتلال الأمريكي الآن، بعد ثلاث سنوات من دخول القوات الغازية إلى بغداد في ورطة، وليس من مخرج أمامه سوى الهروب قبل تفاقم أزمته. ولكيلا يظن البعض أن في هذا الحديث شيئاً من الإفراط في التفاؤل، فسوف نكرسه لشهادات مسؤولين أمريكيين، يعترفون بحجم الورطة، وعظم الكارثة التي حلت بالأمريكيين وهم يغوصون في المستنقع، ويواجهون سعير العراق وبراكينه العاتية.
السيدة كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية قالت بالفم الممتلئ إن الإدارة الأمريكية ارتكبت آلاف الأخطاء في العراق. واحتج وزير الدفاع الأمريكي، رامسفيلد، على ذلك، وقال إن الأمر لا يصل إلى آلاف الأخطاء، لكن رئيسه السيد بوش قال، ليس مهما عدد الأخطاء التي ارتكبت وترتكب في العراق، طالما أن الهدف الاستراتيجي، وهو احتلال العراق، لا يزال صحيحا. وعاد من جديد، في خطابه عن حال الأمة ليؤكد أن الأمريكيين لا يمكنهم الخروج بصورة مفاجئة من العراق، رغم صدور تقارير كثيرة عن واشنطن تقول بغير ذلك. لكنه ينقلب على موقفه، فيشير إلى أن القوات الأمريكية تنتظر بناء قوات عراقية موالية، تتولى نيابة عن الأمريكيين قهر المقاومة. والمشكلة ـ والحديث هنا أيضا لجورج بوش ـ "أن العراقيين ينظرون إلى القوات العسكرية التي نؤسسها على أنها امتداد للاحتلال، وهذه هي المشكلة التي تواجهنا".
بمناسبة مرور ثلاث سنوات على احتلال العراق، برزت لهجة جديدة في تصريح المسؤولين عن العدوان، حيث اعترف وزير الخارجية البريطاني، جاك سترو بأن الفوضى تعم العراق، وعبر الرئيس الأمريكي نفسه في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة مرور ثلاث سنوات على العدوان، عن أسفه لعدم تمكن القوات الأمريكية من القضاء على الفوضى، بينما قال السفير الأمريكي في بغداد، زلماي خليل زادة "إن العراق ينزف".
إزاء هذا الوضع الأمريكي الكارثي، ترتفع أصوات كثيرة في واشنطن متسائلة عن أولئك الذين وضعوا الولايات المتحدة في هذا الوضع الحرج. تساءلت مجلة "الإيكونوميست" في عددها الصادر بتاريخ 28-1-2006، عن المتسبب في اتخاذ القرار الغبي "الذي أدى إلى فراغ أمني وسمح للمقاومة العراقية بملء ذلك الفراغ". ولكنها تستدرك فتقول إن "المقاومة العراقية لم تبدأ مع حل الجيش العراقي، ولا كانت لتنتهي لو أن الأمريكيين قرروا المحافظة عليه. ولكن لا ريب أن حل الجيش العراقي، أسهم، كما تقول المجلة الإنجليزية المؤيدة لإدارة بوش، في شحذ المقاومة العراقية. فمن الذي اتخذ ذلك القرار ولماذا؟
من جهة أخرى، دعا مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر، السيد، زبغنيو بريجنسكي إلى انسحاب شامل من العراق، معتبرا أن الاحتلال الأمريكي محكوم بالفشل بغض النظر عن المدة التي يستغرقها، وأن الديموقراطية التي تدعي أمريكا نشرها هناك، تتم عبر الإذلال والقصف والاعتقال. وأشار بريجنسكي في كلمة أمام ندوة "العراق: الخطوات المقبلة للسياسة الأمريكية" التي نظمها مركز التقدم الأمريكي إلى أسباب عديدة للانسحاب، من بينها النفقة المرتفعة للحرب، إضافة إلى تمكن المقاومة العراقية من ضرب شرعية ومصداقية الوجود الأمريكي. وفيما رأى أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى نصف مليون جندي لإحداث خرق في مواجهة المقاومة العراقية، وأن أمريكا ليست في وضع يتيح لها القيام بذلك، أكد بريجنسكي أن شرعية الوجود الأمريكي ضعفت، وأن الأخلاق الأمريكية لطخت، والمصداقية الأمريكية تبعثرت.. نحن كما يقول "في فوضى عارمة".
واعتبر بريجنسكي أنه مهما طال أمد الاحتلال الأمريكي للعراق، فإنه محكوم بالفشل، إذ إنه في حرب الاستنزاف، يكون المحتل الأجنبي دائما في الوضع غير المؤاتي. هذا احتلال فاشل. وقال إنه "في خلال عام، يجب أن نتمكن من إتمام مسار فك الارتباط والانسحاب".
واقترح بريجنسكي أن تطلب الولايات المتحدة "من القادة العراقيين المعينين أن يطلبوا منا المغادرة"، معتبرا أن السياسيين العراقيين الذين أعربوا عن رغبتهم في استمرار الاحتلال الأمريكي" "يمارسون قيادة سيئة"، مضيفا: "إننا نتصرف وكأن العراقيين هم رعايانا المستعمرون. إننا نعلمهم الديموقراطية عبر اعتقالهم وقصفهم وإذلالهم".
وكان مايكل أولهنان، زميل الدراسات الخارجية في معهد بروكنز في واشنطن قد قال في مقال نشر في الصحيفة بتاريخ 25 مارس 2006 "إن من غير المعقول القول بأننا نكسب الحرب في العراق، فهذا لا يتوافق مع الأرقام السيئة التي تأتي من هناك، ويتناقض من تطورات الأحداث.. نحن الآن متورطون فيما يمكن أن نسميه وضعا شديد الصعوبة"... أما ديفيد فيسك، مراسل صحيفة الإندبندنت فقال في مقال نشره بالصحيفة بتاريخ 26 فبراير عام 2006 "إن الجميع في الشرق الأوسط يعيدون كتابة التاريخ الآن، لكن لم يسبق أن شهدنا إدارة أمريكية تفسر عن عمد وتدليس وقسوة المأساة على أنها نجاح والهزيمة على أنها نصر، والموت على أنه حياة، وذلك بمساعدة صحافة أمريكية متواطئة".
وكان آخر الاستطلاعات الأمريكية قد أكد أن 72% من الجنود الأمريكيين الذين يعملون بالعراق حاليا يريدون الخروج منه بأسرع ما يمكن، وأن أكثر من ثلث الجنود الأمريكيين يتعرضون لاضطرابات وأمراض نفسيه، ولا سيما الذين عادوا من العراق، بما يعني أن الإدارة الأمريكية تخوض الحرب في العراق بجنود مهزومين. وبدورها أكدت صحيفة نيويورك تايمز أن عدد عمليات المقاومة بالعراق في عام 2005، وفقا لتقرير أمريكي صدر عن البنتاغون في 24 شباط، يناير عام 2006 قد بلغ 34 ألف هجوم على مدار العام، ومع ذلك تتكتم الإدارة الأمريكية على عدد الإصابات في قواتها، ولا تعلن إلا القليل عنها. وفي هذه الأثناء، أصدر جندي أمريكي من المارينز، هو جيم ميسي كتابا صدر في باريس في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي قال فيه "إننا أرسلنا إلى العراق لقتل الإرهابيين، ولكننا انتهينا إلى قتل المدنيين". أما فيكتوريا كلارك مساعدة وزير الدفاع للشؤون العامة، فقالت في كتاب صدر لها تحت عنوان "أحمر على شفاه خنزير" "إن ما كانت تقوم به هو عملية تجميل لوجه خنزير لا يجمل، وإن ما كانت تقدمه لم يكن مقنعا للناس".
ويجري الآن في أروقة صناع السياسة الأمريكية الحديث عن ثلاثة سيناريوهات محتملة للتعامل مع القضية العراقية في المرحلة القادمة:
السيناريو الأول: عدم التشابك العسكري المباشر بين الأمريكيين والمقاومة، والإكتفاء بالقصف الجوي، من مناطق عالية جدا، بحيث يستحيل إصابة الطائرات المهاجمة، بما يعني الإمتناع عن استخدام المروحيات والدبابات. لكن بعض المسؤولين الأمريكيين يعترضون على ذلك، مذكرين بالحرب الفيتنامية، حين صدرت تعلميات هوشي منه، الرئيس الفيتنامي وقائد حركة المقاومة، إلى المقاتلين طالبا منهم الإلتحام المباشر بالعدو، واستخدام السلاح الأبيض بما يفوت على القوات الجوية إمكانية الإستفادة من قدراتها "الخارقة" في القضاء على المقاومةِ، أو تحجيم دورها.
السنياريو الثاني، هو أن ينسحب الأمريكيون فورا من العراق، وأن يتركوا لإيران حرية إدارته، ودعم القوى المرتبطة بهم كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة، وليذوقوا من ذات الكأس التي تجرعها الأمريكيون طيلة الثلاث سنوات المنصرمة. ومن ثم ليعودوا ثانية بعد استقرار العراق، من بوابة أخرى. إن ذلك سيفسح المجال للإدارة الأمريكية للتعامل بحرية، ودون ضغوط مع الملف النووي الإيراني، وفرض ما تشاء من عقوبات، ربما تصل حد توجيه ضربات جوية للمواقع النووية الإيرانية، إن بشكل مباشر أو من خلال تكليف العصا الغليطة لأمريكا، الكيان الصهيوني بهذه المهمة، بما يزيح عن الإدارة الأمريكية مواجهة جملة من المشاكل والتعقيدات. لكن آخرون في هذه الإدارة يعترضون على ذلك، ويقولون إن معناه، تسليم العراق لقمة سائغة لإيران، وأن تستمر الفوضى في العراق، ويؤكدون أن إيران ستكون عاجزة عن القيام بهذه المهمة، مشيرين إلى حالة الصراع التاريخي بين البلدين، وإلى أن ذلك سوف يعجل في تصاعد الكراهية بين العراقيين لإيران وأمريكا، وسوف يساعد المقاومين على أستكمال تحقيق برامجهم.
السيناريو الثالث، هو استبدال القيادة الشيعية المعينة من المحتلين بأخرى من السنة التقليديين الذين لا يمانعون في أن يكونوا أحجار شطرنج بيد قوات الإحتلال. إن ذلك سوف يكون مبعث راحة لكثير من القيادات العربية، حيث سيبدوا وكأنه إعادة الكرة للحضور العربي، والسماح لجامعة الدول العربية بالتعامل المباشر في المسألة العراقية. وفي هذا السياق، يذكر المراقبون بتصريحات لوزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل التي أبدى فيها قلقه من تصاعد الدور الإيراني في العراق، وخشيته على عروبته ووحدة أراضيه، كما يذكرون بالتصريحات الأخيرة للرئيس المصري، حسنى مبارك التي تحدث فيها عن دور إيران في العراق، وعن تبعية الشيعة لسياساتها، باعتبارها مرجعيتهم الدينية. وكذا تصريحات الأمين العام لجامعة الدول العربية، السييد عمرو موسى التي أبدى فيها خشيته من تفتيت العراق، ومن حرب طائفية بدت ملامحها تتضح، منذرة بحرب أهلية. لكن المعترضين على هذا السيناريو يقولون بعدم إمكانية تطبيقه، لأن القوى السنية التقليدية معزولة جماهيريا، ولا تملك أي تأييد، حتى في الأوساط السنية، فضلا عن أن المقاومة قادرة بسهولة على اختراقها والتعرض الميداني لوجودها. وهكذا لا يبدو في الأفق ما ينبئ بقرب اتفاق على واحد من هذه السيناريوهات الثلاثة.
وتصدر الآن العشرات من التصريحات والإفادات من مسؤولين وجنود وصحفيين ومراقبين أمريكيين متحدثة عن مشاكل وكوارث يعاني منها الوجود الأمريكي في العراق، مما لا تتيح هذه المساحة استعراضها، كلها تؤكد بما لا يقبل الشك والجدل أن الأمريكيين الآن بعد ثلاث سنوات في ورطة حقيقية، وأنه لم يعد أمامهم غير الانسحاب. ليستعيد العراق حريته، وترتفع أعلامه العربية والإسلامية عاليا، بإذن الله في القريب العاجل. "إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب"؟
editor@arabrenewal.com
شبكة البصرة
الاحد 17 ربيع الاول 1427 / 16 نيسان 2006
المفضلات