لكن الإنسان بفطرته ـ ليس مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه فقط.
. وهكذا حيثما اتجهنا وجدنا من الشواهد ما يكفي للدلالة على أن عدم تبديل المقاربة الأدائية المادية لنمط رؤيتها لماهية الإنسان إنما هو ناتج عن عدم انتباهها لمنطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية.
وإذا كنا اليوم نعيش في عصر أخص صفاته أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء وأنه ليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون دائما نافعة كالأشياء فإنه لزاما علينا أن نتوخى الحظر في هذه الأفكار، خاصة وأن مصدرها هو الغرب الذي ينظر إلى الإنسان كحيوان اقتصادي محكوم بمعايير الحساب النفعي، أي بمنطلقه الخاطئ المحكوم بالرؤية المادية الكمية كما تقدم ذكره(40) وهو المنطلق الذي لا نكاد نخرج من الإشارة إليه في بحثنا هذا إلا لنعود إليه وكأننا في دائرة مغلقة فهل إلى الخروج من سبيل؟! يقول (نور ثروب):
«كيف ستؤثر ـ يريد نظرية الكم في مناطق العالم الأخرى ـ هذه الطريقة الجديدة في التفكير التي أنشأها الغرب الحديث ؟!!
لقد عالج (هايزنيرغ) هذه المسألة في بدء حديثه وفي ختامه فالطريقة الجديدة في التفكير ستؤدي كما بقول المؤلف، وسواء شئنا أم أبينا، في تغير أو تدمير جزئي في عاداتنا التقليدية وفي قيمنا الأخلاقية(41).
فكثير من قادة الشعوب في العالم غير الغربي، وكذلك غالبية مستشاريهم الغربيين يرون أن مسألة إدخال الآلات العلمية وطرق التفكير الحديثة إلى آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا لا تعدو منح هذه المناطق استقلالها السياسي، ومن ثم تزويدها بالأموال والآليات اللازمة.
لكن هذا الافتراض السهل يهمل عدة أمور:
ـ أولها أن أجهزة العلم الحديث مستمدة من نظرياته، وتتطلب لإتقان صنعها أو لحسن استعمالها فهما جيدا لتلك النظريات.
ـ وثانيها أن هذه النظريات تعتمد بدورها على عقائد فلسفية إذا فهمت على حقيقتها تولد عقلية شخصية وجماعية وشكوكا تختلف كلها عما ألفته الأسرة والطائفة والقبيلة من عقلية وقيم سائدة لدى شعوب آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، وقد تتعارض معها في بعض الأمور.
وبموجز القول: لا يستطيع الإنسان أن يستورد آلات الفيزياء الحديثة دون أن يستورد عاجلا أو آجلا عقليتها الفلسفية وهذه العقلية(42) باستحواذها على تفكير الشباب العلمي تتغلب على الولاء العائلي والقبلي القديم. وإذا لم ينتج عن هذا بالضرورة توتر عاطفي وبأس اجتماعي، فمن المهم أن تتنبه لما يطرأ عليها وهذا يعني أن علينا أن ننظر إلى تجربتها على أساس أنها اجتماع عقليتين فلسفيتين مختلفتين، تلك التي تحمل الثقافة التقليدية، وتلك التي انبتت الفيزياء الحديثة ومن هنا تبرز لكل فرد أهمية فهم فلسفة الفيزياء الجديدة..
لكن المرء قد سأل : ألست الفيزياء مستقلة تماما عن الفلسفة ؟! ألم تعزز الفيزياء الحديثة فعاليتها إلا بهجر الفلسفة ؟!
إن (هايزنبرع) يجيب بكل وضوح عن كلا السؤالين بالنفي ... فلماذا ؟
لقد ترك (نيوتن) انطباعا بأن فيزياء خالية من الفرضيات التي لا تستلزمها المعطيات التجريبية. وهذا يتضح من إدعائه بأنه لم يضع أية فرضية وإنما استنبط مفاهيمه الأساسية وقوانينه مما وجده في تجاربه فإذا صح رأيه هذا في العلاقة بين الأرصاد الفيزيائية التجريبية وبين نظريته، فإن نظريته لن تحتاج أبدا إلى تعديل، ولا يمكن أن تنطوي على أية نتائج لا تؤكدها التجربة، أي أن اتفاق الوقائع معها يجعلها نهائية وخارج نطاق الشك»(43).
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نقبل هذه النظريات كما هي عليه في كشوف أصحابها؟ أليس من حقنا أن نحاول التعرف عليها على ضوء بناء هذا الوجود ؟!!
سنحاول سنحاول أن نجيب على هذا السؤال مستعينين بنظرية جديدة للعلامة محمد عنبر
إن الكلمة ـ أي كلمة ـ يقوم فيها ذلك القانون الوحيد الشامل الذي تجري أشياء الوجود وفاقا له ألا وهو قيام الزوجين النقيضين في الآخر من كل شيء من أشياء هذا الوجود..
لذا فيكون الأصل هو "الشيء في نقيضه" وهو بسط المتزاوج الذي يحكم الفكر والمادة في آن واحد. والشيء في نقيضه هو الذي يعرب عن كل متحرك في هذا الوجود، فكل حركة: هي هذا الشيء في نقيضه بحكم أنها تتألف من نهاية الخطوة السابقة وبداية الخطوة للاحقة كما تتألف كل من در و رد حيث تتألف (در) مثلا من الدال التي هي بدايتها من جهة ونهاية رد القائمة في ذاتها من جهة أخرى.
كما تتألف (رد) من الراء التي بدايتها من جهة ونهاية (در) القائمة في ذاتها من جهة أخرى ضرورة وبداهة ولئن قالت الفيزياء الحديثة (عالمنا عالم أزواج) فإن الاعتماد على مثل هذا القول إنما هو اعتماد لأنه موافق ومطابق للشيء في نقيضه الذي يتمثل في قيام كل من الزوجين في الآخر من كل شيء والذي يتمثل في كل لبنة من لبنات هذا الوجود كما يتمثل في كل صيغة صدرت فطرة وسليقة وطبعا على مثل ما هي عليه الحال في در و رد
إن الرد من المنع وان الدر من العطاء وقد يكون الامتناع والعطاء في لغة أخرى بحرفين آخرين أو أكثر غير الدال والراء، ولكن الشيء الذي يتحتم أن يكون نظام التعاقب الواحد، فيجب أن يكون الحرف المشابه للدال هو الأول في صيغة العطاء، وهو الآخر في صيغة المنع ولا يمكن أن يكون غير ذلك، لأن طبيعة تركيب الصيغة تقتضي ذلك, وهي واحدة في اتجاهها وإن قامت حروف مقام حروف في الصيغ: فليس مشروطا في اللغات الأولى والألفاظ الأولى وحدة الحروف بل المشروط وحدة الاتجاه وما الحروف إلا الثوب الذي ترتديه الوجهة التي تبقى واحدة وان تنوعت أثوابها. وحين تدرس الأصول الأولى في اللغات على الإمام الواحد تتجه إلى التلاقي تحت لوائه عن علم ودراية إضافة إلى التقائها فيه حسا وغريزة.
ولما كانت هذه النظرية جديدة لأول مرة في تاريخ العلوم وتصلح أن تكون معلما لبناء الوجود كما هي معلما للعلم والفلسفة فقد نقلنا منها مباحث( 48) وإن كانت قليلة مقارنة بحجم الكتب الشارحة لهذه النظرية. متيقنين أنها تضفي أنوارا على الثقافة العقدية الدينية باعتبارها منظومة مترابطة وشاملة.
ومن المصطلحات التي وقفت حجرة عثرة في البحث: النظر على وصف الشيء بأنه مادة، لا مجال عند بعضهم للشك فيه وقل مثل ذلك في قولهم بأنه عقل. والجميع إلى يوم الناس هذا لا يزالون يواصلون عما هي عليه المادة في ذاتها، وعما هو عليه العقل في ذاته؛ فكيف يمكن أن يكون وصفهم لأي منها قاعدة وأساسا ينبني عليه؟! يتواصل