مظفر الدين كوكبوري الحاكم العادل

ازهر العبيدي

ولد مظفر الدين أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين علي بن بكتكين بن محمد التركماني في أربيل في 27 محرم (549هـ- 1153م)، ونشأ في أسرة تركمانية تتكون من أبيه زين الدين علي كجك بن بكتكين بن محمد وأخيه الأصغر زين الدين يوسف. ولفرط جرأته وإقدامه في القتال ولكونه محارباً ممتازاً ومقاتلاً بطلاً وشجاعاً لقب بـ(كوكبوري) أي (الذئب الأزرق).

وقد اختار له والده مملوكه مجاهد الدين قايماز للإشراف على تربيته وتعليمه، وكان مجاهد الدين يقوم بمهمة المؤدب والمربي، وظل يشرف على تربية مظفر الدين وتعليمه حتى وفاة والده. وكان مظفر الدين يتحلى بأطيب الخلق وأكرم السجايا وكان كريم الأخلاق كثير التواضع، حسن العقيدة، شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة.

نشأ مظفر الدين نشأة دينية وهذه النشأة أهلته في حياته العامة أن يكون حاكماً صالحاً، كما أثرت نشأته الدينية أيضاً على حياته الخاصة، فكان بعيدا كل البعد عن مظاهر الإمارة والملك التي تميزت بالملبس الفاخر، والمطعم الشهي، والمسكن الفخم، والمواكب الزاخرة بالكبرياء والعظمة بل أن معيشته كانت اقرب إلى معيشة الزهاد والمتصوفين. واهتم بالعلماء والفقهاء والمحدثين والصوفية الصادقين واهتم بالعلوم الدينية كالفقه والحديث .

تولى مظفر الدين إمارة اربيل بعد وفاة والده مباشرة سنة (563هـ- 1167م)، و"إربيل" قلعة حصينة ومدينة كبيرة من أعمال مدينة الموصل وتقع إلى الجنوب الشرقي منها على بعد (87) كم. ولكنه كان قاصراً عن إدارة شؤون الحكم والإدارة بنفسه لصغر سنِّه، فقام نائب الإمارة "مجاهد الدين قايماز" الذي كان نائبا عن والده زين الدين علي بن بكتكين بتدبير شئون الدولة وإدارة أمور الحكم، ولم يبق لمظفر الدين من الملك سوى مظاهره. ولما اشتد عود "مظفر الدين" نشب خلاف بينه وبين الوصي على الحكم "مجاهد الدين قايماز"، انتهى بخلع "مظفر الدين" من إمارة "إربيل" سنة (569هـ- 1173م)، وإقامة أخيه "زين الدين يوسف" خلفاً له.
اتجه مظفر الدين نحو الموصل لعله يجد من حاكمها "سيف الدين غازي بن مودود" معاونة تمكّنه من استرداد إمارته، لكن "سيف الدين" لم يحقق له رغبته، وعوّضه عن إربيل بأن أدخله في حاشيته، وأقطعه مدينة "حران"، فانتقل إليها المظفر، وأقام بها تابعاً لسلطان الموصل، وظل يحكم حران منذ سنة 569هـ حتى سنة 578ه.

انفصل مظفر الدين عن الموصل ودخل في طاعة السلطان صلاح الدين الأيوبي وحكمه، ومن ثَم انفتح له مجال الجهاد ضد الصليبيين، وأصبح من المقاتلين مع صلاح الدين الذي أعجب به وبشجاعته، وثباته معه في ميادين الجهاد، وتحول الإعجاب إلى توثيق للصلة بين الرجلين، فأقدم صلاح الدين على أعطائه "الرها" إضافة لـ""حران" وتزويج أخته "ربيعة خاتون" له، وأنجب منها ابنتين ولم ينجب ذكوراً، وزوج مظفر الدين ابنتيه من ابني القائد نور الدين زنكي صاحب الموصل وهما عز الدين مسعود وعماد الدين زنكي.

وشارك مظفر الدين في معظم الحروب التي خاضها صلاح الدين ضد الصليبيين بدءاً من فتح "حصن الكرك" سنة (580هـ- 1184م). كما تولى قيادة جيوش الموصل والجزيرة في "معركة حطين" (583هـ- 1187م)، ويذكر أنه الذي أوحى بفكرة إحراق الحشائش التي كانت تحيط بأرض المعركة حين وجد الريح في مواجهة الصليبيين، كما يذكر التاريخ نجاح خطته ووضوح أثرها في هزيمة الجيش الصليبي إذ حملت الريح الدخان واللهب والحرارة إلى وجوه الصليبيين، فشلَّتْ حركتهم عن القتال، وحلت بهم الهزيمة المنكرة.

وظل مظفر يشارك صلاح الدين في جهاده حتى تم الصلح بينه وبين ريتشارد ملك إنجلترا في (شعبان 588هـ)، فعاد إلى بلاده، وولاه صلاح الدين "إربيل" و "شهرزور" بعد وفاة أخيه "زين الدين يوسف" سنة (586هـ- 1190م)، واصدر صلاح الدين الأيوبي منشوراً على تولية مظفر الدين لولاية اربيل وما يتبعها من البلاد، وأذاع المنشور في كافة البلاد الإسلامية، ليعلم المجاورين لاربيل أن مظفر الدين هو من أمرائه وان اربيل ما زالت جزءاً من دولته .وعندما توفي القائد صلاح الدين الأيوبي سنة (589هـ -1193م) انتهز مظفر الدين كوكبوري فرصة النزاع الأسري الأيوبي، فاستقل بمدينة اربيل وحولها إلى إمارة، واتخذ لنفسه لقب الملك المعظم، فان إمارة اربيل ولدت في عصر، اصدق وصف له هو (عصر الغلبة) .وتعرض مظفر الدين لإطماع الغير في إمارته، فقد طمع فيها بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وطمع فيها الأشرف موسى صاحب دمشق، كذلك طمع فيها جلال الدين خوارزم شاه. وتعرض كذلك لخطرين كبيرين كادا أن يطيحا بإمارته هما خطر جلال الدين خوارزم شاه وخطر التتار .

وهنا يبرز دور آخر للملك العادل الشجاع لا يقل روعة وبهاء عن دوره في ميادين القتال والجهاد؛ فهو رجل دولة وإدارة يُعنى بشؤون إمارته؛ فقام بانشاء المدارس والمستشفيات، وعمل على نشر العلم وتشجيع العلماء، ونهض بالزراعة والتجارة، وكان يشارك أهل إمارته أفراحهم. وامتاز بعدة امتيازات مما جعله حاكماً وأميراً ناجحاً، واهم هذه الامتيازات هي ثقافته الدينية وإتباعه سيرة والده وما شاهده بنفسه من مظاهر الحضارة في الموصل وحلب ودمشق. وكان يعرف بحسن سياسته وعدالة حكمه وتشجيعه للعلم والعلماء .وتفيد المصادر التاريخية أن مظفر الدين كوكبوري هو أول أمراء المشرق في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. فقد ذكر المؤرخ ابن كثير في كتاب «البداية والنهاية» أن مظفر الدين كوكبوري كان يعمل المولد الشريف ويحتفل به احتفالاً هائلاً. ونقل عن بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف كاسة، وثلاثين ألف صحن حلوى، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر.

ومن أعماله الدينية الخيرية أنه انشأ في اربيل مسجداً كبيراً له منارة رائعة (منارة جولي) يبلغ ارتفاعها 503 أقدام، أما محيطها فانه يبلغ 48 قدماً، ونقش على مئذنتها اسم مظفر الدين. كما بنى الجامع المظفري في دمشق بسفح جبل قاسيون.
وصلت إمارة اربيل إلى أوج عظمتها عام (600 هـ - 1203م) بسبب ما قام به من أعمار تلك المدينة والقلعة الأثرية. واهتم مظفر الدين بالقلعة وأسفلها خاصة، حيث كان الجزء الأسفل من القلعة مهملاً لا يعيره حكام اربيل أي التفات.

إذ اهتم مظفر الدين بهذا الجزء الأسفل اهتماماً كبيراً واعتنى بتعميره اعتناء جميلاً .وأقام مظفر الدين في أسفل القلعة المنازل والأسواق والقيساريات، وأصبح هذا الجزء مركزاً لحركة تجارية كبيرة. وقد زار ياقوت الحموي (اربيل) وهو صاحب كتاب معجم البلدان خلال معاصرته للقائد مظفر الدين كوكبوري فوصف ربض قلعتها بقوله: (وفي ربض هذه القلعة في عصرنا، مدينة كبيرة عريضة طويلة، قام بعمارتها وبناء سورها وعمارة أسواقها وقيساريتها الأمير مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين كجك علي، فأقام بها وقامت بمقامه، وصار له هيبة، وقاوم الملوك، ونابذهم بشهامة وكثرة تجربة حتى هابوه، فاحتفظت بذلك أطرافه، وقصدها الغرباء وقطنها كثير منهم حتى صارت مصراً كبيراً من الأمصار).
كان مظفر الدين محبا لفعل الخير والتصدق على الفقراء وكثير الصدقات، غزير البر والصلات.
وكان شجاعاً جريئاً مقداماً .وكان مظفر الدين إلى جانب شجاعته وبسالته، رقيق الشعور مرهف الحس .يقول عنه ابن واصل: كان مظفر الدين ملكاً جليلا شجاعاً مقداماً، ذا همة عالية وبأس شديد. وكان من أكثر الملوك تديناً وأجودهم وأكثرهم براً، وكان عالـماً تقياً شجاعاً. وكان يحب الصدقة وكان له في كل يوم كميات كبيرة من الخبز يفرقها على الفقراء في البلد، وإذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع جمع كثير عند الدار فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الصيف والشتاء ومعها شيء من النقود، وذكر ابن خلكان عنه أيضاً: " أنه كان متواضعاً، خيراً يحب الفقهاء والمحدثين والشعراء.

إن مظفر الدين كوكبوري من أوائل الحكام الذين ارسوا نظام الرعاية الاجتماعية، فقد أقدم على إقامة مؤسسات اجتماعية للفئات الخاصة من المجتمع التي تحتاج إلى رعاية وعناية الدولة، فأنشأ لذوي العاهات دوراً خاصة بهم؛ خصصت فيها مساكن لهم، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتي لزيارتهم بنفسه مرتين في الأسبوع؛ يتفقدهم واحداً واحداً، ويباسطهم ويمزح معهم. وبنى دارين للأيتام، واحدة للبنات وأخرى للبنين من الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم، ومن لا عائل لهم، وعين فيه المشرفات على تربيتهم ورعايتهم. وكان يزور الأطفال اليتامى يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع ويلاطفهم ويوفر لهم طلباتهم واحتياجاتهم. وعندما كانوا يبلغون سن الرشد كان يزوج الشباب للفتيات، حتى اللقطاء بنى لهم داراً، وجعل فيها مرضعات يقمن برعايتهم، ومشرفات ينهضن بتربيتهم، وأنشأ للزَّمْنَى - وهم المرضى بالجذام- داراً يقيمون فيها، وزودها بكافة الوسائل التي تعينهم على الحياة الكريمة من طعام وشراب وكساء وعلاج، وجعل لكل مريض خادماً خاصاً به يقوم على رعايته وخدمته.

وعندما كان يزور البيمارستان يقف عند كل مريض ويسأله: كيف قضى ليلته ؟ وكيف هي صحته الآن ؟ وما هو الطعام الذي يريد أن يتناوله ؟ وتعدى نشاط مظفر الدين إلى خدمة غير أهل بلاده؛ فبنى داراً للضيافة في إربيل لمن يفِد إليها للتجارة، أو لقضاء مصلحة، أو للمسافرين الذين يمرون بـ "إربيل"؛ حيث يقدم للضيف كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب، كما زودت بغرف للنوم، ولم يكتف مظفر الدين بذلك، وإنما كان يقدم للضيف الفقير نفقة تعينه على إتمام سفره.

ورأى المظفر أنه مسؤول عن الأسرى الذين يقعون في أيدي الصليبيين؛ فلم يتوانَ في شراء حريتهم، فكان يرسل نوّابه إلى الصليبيين لفداء الأسرى، وقد أُحصي الأسرى الذين خلصهم من الأسر مدة حكمه، فبلغوا ستين ألفاً ما بين رجل وامرأة.
وامتدَّ برّه إلى فقراء المسلمين في الحرمين الشريفين: مكة والمدينة؛ فكان يرسل إلى فقرائهما كل سنة غذاءً وكساءً، ما قيمته ثلاثون ألف دينار توزع عليهم، كما بنى بالمدينتين المقدستين خزّانات لخزن ماء المطر؛ حتى يجد سكانهما الماء طوال العام، وذلك بعد أن رأى احتياجهما إلى الماء وما يجدونه من مشقة في الحصول عليه، خاصة في مواسم الحج.

حكم مظفر الدين مدينة إربيل نصف قرن من الزمان حتى قارب عمره الثمانين عاماً، ثم وافاه الأجل في يوم الأربعاء في الرابع عشر من رمضان عام (630 ه- 1232م) في إربيل، وكانت له وصية أن يُدفن بمكة، فلما توجَّه الحجاج إليها بجثمان مظفر الدين ليدفن بها، وجدوا أن الماء معدم فيها، فرجعوا من الطريق ودفنوه في الكوفة بالقرب من مشهد الإمام علي بن أبي طالب.

عن موقع ملتقى أبناء الموصل

المراجع والمصادر
1. ابن خلكان، وفيات الأعيان.
2. ابن كثير، البداية والنهاية.
3. ابن المستوفي، تاريخ أربل
4. ابن واصل، أخبار ابن أيوب.
5. سعيد الديوه جي، تاريخ الموصل.
6. عبد القادر أحمد طليمات، مظفر الدين كوكبوري.
7. ياقوت الحموي، معجم البلدان.
8. مقالات وبحوث متفرقة.