عمر مكرم العالم الثائر

أحمد عزيز

هو زعيم جبلته الشدائد واختاره الشعب نائبًا له عبر المواقف، لم يدخر جهدًا في مواجهة سلطان جائر ولا استعمار غاز، لم تلهه نشأته الأرستقراطية وقتها وكونه من الأشراف عن عون الشعب والقتال في سبيل حقوق البسطاء والعامة، كرّس حياته للنضال ضد الاستعمارين الداخلي المتمثل في سطوة الملوك والأمراء، والخارجي المتمثل في الحملات الفرنسية والإنجليزية على مصر، حتى مات منفيًّا وحيدًا عام 1822م. فهو مثال يُحتذى، وصدق فيه قول الله تعالى: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)}(الأحزاب).

نشأة عمر مكرم:

ولد عمر مكرم بأسيوط بصعيد مصر عام 1750م/ 1168هـ في أسرة من الأشراف بما للأشراف من مكانة لدى المصريين؛ لنسبهم المباشر بالرسول عليه الصلاة والسلام.
حفظ القرآن الكريم بأسيوط قبل أن ينتقل إلى القاهرة ليستكمل تعليمه بالأزهر الشريف، فدرس التفسير والفقه والحديث وعلوم اللغة والنحو، قبل أن يتولى نقابة الأشراف عام 1793م بعد وفاة الشيخ محمد البكري بتكليف من مراد وإبراهيم بك.

عمر مكرم مجاهدًا:

في أواخر عام 1209هـ/ 1795م استنجد الشعب المصري بالعلماء من فرض الضرائب وجمعها بالقوة، فهبّ شيوخ الأزهر لمساعدتهم، وكان فيهم السيد عمر مكرم، وبعد مفاوضات عدة مع العلماء رضخ إبراهيم ومراد بك، وقاما برفع الضرائب عن الشعب، ومن ذلك اليوم بدأ اسم عمر مكرم في البزوغ.
وتميزت حياة السيد عمر مكرم بالجهاد المستمر ضد الاحتلال الأجنبي، وكذلك النضال ضد الملوك الظالمين في الداخل؛ ففي إطار الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي، نجد أنه عندما اقترب الفرنسيون من القاهرة سنة 1798م، قام السيد عمر مكرم بتعبئة الجماهير للمشاركة في القتال إلى جانب جيش إبراهيم باشا، حيث صعد إلى القلعة فأنزل منها بيرقًا كبيرًا أسمته العامة "البيرق النبوي"، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه ألوف من العامة لجمع الأموال للجيش، وحث الشعب على التطوع لقتال الفرنسيين. ولكن نظرًا لغياب القائد المحنك وتفكير إبراهيم بك في النجاة بنفسه لحاقًا بأخيه مراد بك، سقطت القاهرة بأيدي الفرنسيين، ففضّل عمر مكرم وقتها السفر خارج مصر؛ حتى لا يظل تحت وطأة الاحتلال.

ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى القاهرة ليشارك في ثورتها الثانية ضد الاحتلال الفرنسي عام 1800م، تلك الثورة التي كان لها أكبر الأثر -بالرغم من نجاح الجيش الفرنسي في إخمادها وقتها- في رحيل الفرنسيين عن مصر بعدها بعام واحد. وبالطبع نما إلى علم قادة الاحتلال الدور الرئيسي للشيخ عمر مكرم في هذه الثورة، فقاموا بمطاردته إلى خارج البلاد، ومصادرة أملاكه، لكن غيبته عن مصر لم تطل، فلقد عاد مباشرة بعد رحيل المحتل الفرنسي عام 1801م.

عمر مكرم .. الثائر للحق:

ولم يكتفِ عمر مكرم بعد عودته بما كان، ولكنه مارس هوايته في مقاومة الاستبداد والمظالم، ولكن هذه المرة داخليًّا، حيث تذكر المراجع التاريخية أنه قاد النضال الشعبي ضد مظالم الأمراء المماليك عام 1804م، وكذلك ضد سيطرة الوالي خورشيد باشا سنة 1805م؛ ففي الأول من مايو سنة 1805م عمت الاعتراضات جميع ربوع مصر احتجاجًا على الضرائب الباهظة والتمييز المستمر ضد المصريين من قبل الوالي خورشيد باشا، فاجتمع العلماء بالأزهر ودعوا إلى عصيان مدني عام، حيث توقفت المحال التجارية عن العمل، وتوقف العلماء عن إلقاء الخطب والمواعظ بالمساجد، واحتشدت الجماهير في الشوارع، وبدأت المفاوضات مع الوالي للرجوع عن تصرفاته..

ولكنها باءت بالفشل؛ لإصرار خورشيد باشا على موقفه، فطالبت الجماهير بخلع الوالي، وقام السيد عمر مكرم وعدد من زعماء الشعب برفع الأمر إلى المحكمة الكبرى، وسلم الزعماء صورة من مظالمهم إلى المحكمة وهي ألاّ تفرض ضريبة على المدينة إلا إذا أقرها العلماء والأعيان، وأن يتم جلاء جنود الوالي المقربين عن القاهرة، وألا يسمح بدخول أي جندي إلى المدينة حاملاً سلاحه.
وفي يوم 13 مايو قرر الزعماء في دار الحكمة عزل خورشيد باشا وتعيين محمد علي بدلاً منه، بعد أن أخذوا عليه شرطًا: "بأن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم، وألاّ يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه".
وتعليقًا على ذلك يروي عبد الرحمن الرافعي عن دور عمر مكرم في تلك الثورة الشعبية فيقول: "كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون في تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يعرف للسيد عمر مكرم فضله في هذه الحركة، فقد كان بلا جدال روحها وعمادها".

وقبل أن يهنأ الشعب بثورته على حكم الوالي الظالم اصطدمت البلاد مرة أخرى بحملة فريزر الإنجليزية في عام 1807م، وقتها كان محمد علي منشغلاً بمحاربة المماليك بالصعيد، فقام السيد عمر مكرم بتنظيم المقاومة الشعبية والتصدي للجيش الإنجليزي الغازي متسلحًا بدعم كل فئات الشعب، إلى أن نجح في هزيمة الإنجليز في رشيد، الأمر الذي تسبب مباشرة في عودة الحملة الإنجليزية خالية الوفاض إلى أوربا. وبذلك يكون عمر مكرم قد شارك الشعب المصري في هزيمة أكبر قوتين غازيتين وقتها، في أقل من عشر سنوات هما الحملة الفرنسية (1798م- 1801م)، وحملة فريزر الإنجليزية 1807م، وكذلك في دعم الثورة على الطغيان في الداخل بعزل الوالي خورشيد باشا.
الموت في المنفى

ولما استقرت الأمور لمحمد علي، كان نصيب العلماء والمفكرين هو النفي والسجن، حيث قرر التخلص من كل زعماء الشعب، وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، فحدد إقامته بمدينة دمياط سنة 1809م، ثم مدينة طنطا سنة 1822م حيث توفي بها مؤثرًا الصمت عسى أن ينصفه التاريخ، وهو ما كان.

المصدر: شبكة رسالة الإسلام.

عن موقع قصة الإسلام