كانت تمشي بجانبي في مسيرة رام الله، في البداية لم أعرفها، في البداية لم تعرفني، في لحظة ما التقت عيوننا فأدركنا أننا الآن في مصيدة زمن محب ومحبوب، لا يتركنا في حالنا أبدا، هو يستضيفنا الآن على طبق من حلم وشهداء،، الاربعينية الحميلة جدا، التي جنّنت جتود حرس الحدود في أواخر الثمانينات، لم تعد عشرينية، الأم الحامل التي دوخت عقل الاحتلال وقلوب شباب الانتفاضة الأولى، لم تعد بنتا، أشارت لي بعينيها الى وسط المسيرة، كأنها قالت: انظر ابنتي، انها هناك تهتف، أشرت لها بعينيّ الى منتصف المسيرة: كأني قلت لها: أنظري طلابي انهم هناك يهتفون، لم نقل كلمة واحدة، لم نبتسم حتى، كل شيء قاله لقاء الزمنين المرتبك في بؤرة خرجة.
منذ أكثر من عشرين عاما، كنت معا وفيها وخلفها وأمامها نتراكض في شوارع رام الله، هربا من رصاص المحتل، نرفع جريحا الى سيارة اسعاف، او نحذر شبابا من جنود متربصين، في شارع فرعي أو نوزع البصل حماية من أثر القنابل المسيلة للدموع، أو نحرّض أصحاب المحلات على إغلاق محلاتهم، كنت أتخين الفرصة لأقول لها في لحظة موت او جرح او اعتقال: أني احبك، وأحب فلسطين، وعرفت فيما بعد أن الشباب الذي صاروا كهولا الآن ويمشون في نفس المسيرة، كانوا يريدون قول هذه الكلمة، كنا نخجل ونؤجلها، وكلما هجم الجنود وقتلوا او اعتقلوا أو جرحوا صديقا لنا، كنا نقول في سرّنا : بعد أن تهدأ أسطورة دمنا سنتفرغ للحب، لكن الأسطورة استمرت، ولم نقل الكلمة حتى الآن.
في البداية لم تعرفني، في البداية لم أعرفها. في نهاية المسيرة والناس يتفرقون، التقت أعيننا في لحظة قصيرة جدا، لكنها مليئة باعتراف مبتسم و شهي: أحببتكم جميعا، تشهد على ذلك هذه الشجرة، في هذا الشارع،- شارع الارسال.
بقلم المبدع زياد خداش