هل خلق الله شرًّا من إبليس؟!



د. عبد الرحمن البر

بقلم: أ. د/ عبد الرحمن البر
عجبت كثيرًا وأنا أقرأ هذه القصة التي ذكرها أبو بكر بن المرزبان عن أبي محمد عبد الله بن هلال الكوفي المجذوم (أحد أولياء الشيطان) وخبر جاره، لمّا سأله أن يكتب له كتابًا إلى صديقه إبليس لعنهُ الله (يعني يتوسط له عند إبليس) في حاجة له (وإن كان العقل يدفع ذلك الخبر فهو مثل حسن يعرف مثله في الناس) فكتب إليه الكتابَ، وأكَّده غاية التأكيد، ومضى وأوصل الكتاب إلى إبليس، فقرأه وقبَّله ووضعه على عينيه، وقال: السمع والطاعة لأبي محمد، فما حاجتك؟ قال: لي جار مُكرِمٌ شديد الميْل إليَّ، شفوقٌ عليَّ وعلى أولادي، إن كانت لي حاجةٌ قضاها، أو احتجتُ إلى قرضٍ أقرضني وأسعفني، وإن غِبْتُ خَلَفني في أهلي وولدي، يبرُّهم بكلِّ ما يجدُ إليه السبيل، وإبليسُ كلّما سمع منه شيئًا يقول: هذا حسن وهذا جميل.



فلما فرغ من وصفه قال إبليس: فما تحب أن أفعل به؟ قال: أريد أن تُزيلَ نعمتَه، وتُفقرَه، فقد أغاظني أمرُه وكثرةُ ماله وبقاؤُه وطولُ سلامته!.

فصرخ إبليسُ صرخةً لم يُسمَع مثلُها منه قطُّ، فاجتمع إليه عفاريتُه وجندُه وقالوا: ما الخبر يا سيدهم ومولاهم؟ فقال لهم: هل تعلمون أن الله عز وجل خلقَ خلقًا هم شرٌّ مني؟!


ولو فتشت في واقعنا الراهن في مصر لوجدت مثل صاحب الكتاب كثيرًا ممن يعيش بيننا، كلما ازددتَ سعيًا في مصلحته ازداد قلبه حقدًا عليك، وكلما قدمتَ له حسنة اجتهد في ردها بعشرات السيئات، وكلما اجتهدتَ في صيانة عرضه بالغ في انتهاك عرضك، وكلما مددتَ له يدَ الصلح والصفح مدَّ لك يد الخيانة والغدر، وكلما أظهرتَ له وجه السماحة والصفاء أضمر لك الغشَّ والبغضاء، أشبه شيء بقول الله تعالى ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ (آل عمران).

إنه داء الحسد الذي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصيبنا منه ما أصاب الأمم السابقة؛ إذ قال فيما أخرجه الترمذي: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ".

وأمتنا المصرية محسودة من قِبل أعدائها قديمًا وحديثًا؛ بسبب ما ميَّز الله به أبناءها من رجحان في العقل وكرم في الطبع، وقد زاد من حدة هذا الحسد ما أودعه الله من ثروات في أرضها أسالت لعاب الطامعين، لكن الذي يثير العجب في هذه الأيام أن يحسدَ الأمةَ بعضُ أبنائها، وأن يسعى في الكيد لها بعضُ الذين يتغنَّوْن بحبها، وأن يجتهدَ في عضِّها من كثُرت استفادتُه من إحسانها! وما ذلك إلا لأنها اختارت أن تنحازَ لهويتها، وأن تتجاوبَ مع فطرتها، وأن تختارَ لقياتها الأعفَّ يدًا والأصدقَ رغبةً في النهوض بها والأكثرَ تقديمًا للتضحيات في سبيلها.

لقد آلم بعضَ أبناء مصر أن تنحاز مصرُ للتيار الإسلامي في الانتخابات البرلمانية، واشتد ألمُهم حين أكد المصريون اختيارهم بانتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسًا يقود قاطرةَ النهوض والتنمية لمصر الجديدة بعد الثورة، ومثلما سعوا في إفشال برلمان الثورة واجتهدوا في معاقبة المصريين؛ فإنهم لا يألون جهدًا في محاولة إفشال الرئاسة ومعاقبة المصريين على اختيارهم الحر الواعي للدكتور مرسي، وينفقون في سبيل ذلك الأموالَ الطائلةَ التي سرقوها من قُوت هذا الشعب، ولا يجدون حرجًا في التعاون مع مخططات الأعداء المتربصين بمصر وبثورتها العظيمة، ومنتهى آمالهم أن تسقطَ مصر في دوامة الفوضى والفتنة حتى يسهل عليهم السيطرة عليها، ولَأَنْ تسقط مصر في أيديهم خربةً مضرَّجةً في دمائها أو مدرجة في أكفانها أحبُّ إليهم من أن تبقى عزيزة قوية ناهضة مستقرة مع الدكتور مرسي والمخلصين من الوطنيين الشرفاء، وما ذلك لسابقةٍ من الشر قدمتْها إليهم مصرُ أو الدكتور مرسي وإخوانُه، بل هو الحسدُ قاتله الله، وهي الغيرةُ العمياء من نجاح المشروع الإسلامي، فهم أشبهُ شيء بصاحب إبليس الذي بالغ جاره في تقديم الذي هو أحسن إليه فلم يألُ هو جهدًا في مقابلته بالتي هي أسوأ، وقد ذكرني حال هؤلاء المساكين في غيظهم من التفاف الشعب حول المشروع الإسلامي ورموزه بحال الكلب الحسود الذي ذكره أمير الشعراء في هذه الحكاية الشعرية:

كان لبعضِ الناسِ ببغاءُ


ما ملَّ يومًا نطقها الإصغاءُ

رفيعةُ القدْرِ لَدَى مولاها


وكلُّ مَنْ في بيتِه يهواها

وكان في المنزل كلبٌ عالي


أرخصتهُ وجودُ هذا الغالي

كذا القليلُ بالكثيرِ ينقصُ


والفضلُ بعضُه لبعضٍ مُرْخِصُ

فجاءَها يومًا على غِرارِ


وقلبُهُ من بُغضِها في نارِ

وقال: يا مليكة َالطُّيورِ


ويا حياة َالأنسِ والسرورِ

بحسنِ نطقكِ الذي قد أَصْبَى


إلا أَرَيْتنِي اللِّسانَ العذْبا

لأَنني قد حِرْتُ في التفكُّر


لمَّا سمعتُ أنه من سكّر!

فأَخْرَجتْ من طيشِها لسانَها


فعضَّهُ بنابِه فشانَها

ثم مضى من فوره يصيحُ


قطعتُه لأنه فصِيحُ!

وما لها عنديَ من ثأْرٍ يُعدّ


غيرَ الذي سمَّوْهُ قِدْماً بالحسدْ!

إنه الحسد، تلك الكبيرة التي هلك بها إبليس، حين حسد آدم على تفضيل الله إياه، وأبى أن يطيع الله ويسجد لآدم، وأعلن العداوة والكيد لآدم من غير أن تسبق من آدم إساءةٌ إليه، وهو الذي حمل إخوة يوسف على أن يفعلوا به ما فعلوه من غير أن يسيء إليهم قط، وهو الذي حمل اليهود على الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوه وتبينوا صدقه، وفي هذا نزل قوله تعالى )بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ( (البقرة).

والسوأة الكبرى لهذا الخلق الرديء والسلوك المشين: أنه لا سبيل إلى الشفاء منه، ولا إلى تجنبه، فالحاسد لا يرضيه إلا أن تزول عن نعمتك أو تزول عنك، وذلك لأن الحسد ناشئ عن خبث النفس وفساد الطوية، ولله دَرُّ معاوية إذ يقول:"كل الناس أَقْدِرُ على رضاه، إلا حاسدَ نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالُها"، وقد قيل:

كلُّ العَداوات قد تُرْجَى إفاقتها إلاَّ عداوةَ مَنْ عاداك من حَسد

ولذلك فلا سبيلَ لنا مع الحاسدين إلا بأن نُقَوِّيَ بالله صلتنا، ونستمد منه عوننا، ونأخذ من مكرهم حِذْرنا، ونُعِدَّ لمواجهة كيدهم خططَنا، ونوحِّد في مقاومة أراجيفهم صفَّنا، ونتعوَّذَ من شرهم بالله ربنا، وأن نمضي قدمًا في تحقيق مشروع نهضتنا، والالتفاف حول رئيسنا الذي اخترناه لقيادة مسيرتنا، بصدق المخلصين وعزيمة الواثقين بأن ﴿اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط﴾ أسأل الله أن يحقق أمنَنا، وأن يكشف ضرنا، وأن يزيد في توفيق رئيسنا، وأن يكبت عدونا، وألا يشمت بنا حسادنا، وألا يجعل للظالمين علينا سبيلاً.