ظر محطة السكة الحديد الذي فجّر مواهبه على الخشبة
جورج أبيض رائد "تمصير" المسرح آ

ا




يعد عملاق المسرح، جورج أبيض، أحد المؤسسين الفعليين لفن المسرح في مصر، رغم أنه بدأ في تكوين “جوق أبيض” كما أطلق على فرقته، ليبدأ في تقديم المسرحيات المترجمة والمؤلفة التي بلغت ما يقرب من 130 مسرحية في 20 عاما، أي بواقع أكثر من 6 مسرحيات في العام، وفي بعض الأعوام أكثر من ذلك .

كان من الطبيعي أن يستعين جورج أبيض في بداية عمله أوائل القرن العشرين في مصر بفنانين أجانب و”متمصرين” .

ولد جورج أبيض في بيروت في الخامس من مايو/ أيار ،1880 في أسرة متدينة يعمل غالبية أفرادها في المجال الديني، ونظراً لكونه الابن الأول تلقى جورج من أبويه إلياس وجوليا مهارات الثقة بالنفس وحب الفن والجمال، فالتحق بمدرسة “الفرير” التي أنهى بها مرحلته الدراسية الأولى، ثم انتقل لمدرسة الحكمة ببيروت التي تعلم فيها اللغة العربية وأحبها حباً جما، الأمر الذي كان له أشد الأثر على براعته في اللغة التي عشق إلقاءها شعراً ونثرا، فلم يلبث أن اجتاز امتحان البكالوريا بنجاح وهو في سن السادسة عشرة، حتى قام بتمثيل أول الأدوار الفعلية في حياته، وذلك في الحفل السنوي للخريجين في مدرسته، الذي أدى فيه دوره ببراعة في مسرحية “القروش الحمراء”، فأقبل عليه مدير المدرسة والممثل الفرنسي جان فريج الذي كان يؤدي الدور نفسه على مسرح باريس ليحييه على براعته وإجادته الدور، وكان لهذا التشجيع أثره في مسامع جورج، وحافز لتحقيق آماله . فبعد أن أكمل دراسته عُين في شركة السكة الحديد ببيروت، ولكن حلم التمثيل ظل يراوده، وطنين صافرات البواخر تعزف في أذنه أنشودة الرحيل، فاستقال من وظيفته وغادر بيروت دون وداع أمه، قاصداً حلمه، والبلد الذي عشق لغته وجماله وسعى لإبراز فنونه الأصيلة . اختار الإسكندرية وطناً ثانياً له، وبدأ في البحث عن عمل، حتى عين ناظراً لمحطة سيدي جابر التي كانت محطة مصيف الخديوي، لكنه لم ينس حلمه، فاستخرج بطاقة عضوية من نادي خريجي كلية سان مارك، وقدم عليها مسرحية “القروش الحمراء” للمرة الثانية وسط حشد من ممثلي السفارات الأجنبية والمثقفين، فتقدم إليه قنصل فرنسا وهنأه على إجادته الدور، وقال له: ليست السكة الحديد بالمكان الذي يناسبك أبدا، وإنما مكانك الحقيقي هناك في كونسرفتوار المسرح بباريس، فأحيت تلك الكلمات الأمل في نفسه، وبزغت باريس في نظره، المنارة الوحيدة التي تقود سفينته إلى أرض الأحلام . وفي غضون تلك الأحلام قام جورج أبيض عام 1902 بتكوين فرقة مسرحية من المثقفين من أعضاء النادي الذين كانوا يشاركونه هواياته، ولم يكتف بذلك بل راح يكتب للخديوي عباس حلمي الثاني رسالة تحمل في طياتها دور المسرح وأهميته في تقدم الشعوب، وحاجة مصر الماسة لمسرح ومدرسة مدعمين من الدولة، غير أن الخديوي لم يرد على رسالته، وانتظر أبيض عامين دون يأس أو استسلام، حتى عام ،1904 فأرسل للخديوي بطاقة يدعوه فيها لحضور رواية “البرج الهائل” على مسرح زيزينيا، فقابل الخديوي الدعوة بترحيب شديد وجعل المسرحية تحت إشرافه، لما لمس في أبيض من موهبة، فبعد انتهاء المسرحية وإعجاب الخديوي بها أرسله في بعثة إلى باريس ليتعلم فن التمثيل وهو في سن العشرين، فتحقق حلمه أخيراً بعد طول انتظار، وهناك في باريس استقبله يعقوب صنّوع رائد التمثيل، وأصبحا صديقين حميمين لما في قليبهما من اشتراك في حب المسرح والوطن .

اكتسب جورج خبرة واسعة في فنون المسارح بباريس وحصل على أعلى الشهادات وعاد إلى مصر عام 1910 ليجد والدته التي باعت كل ممتلكاتها في بيروت لتستقر معه بالإسكندرية، وما إن ذاع صيته حتى طلب منه الزعيم الوطني سعد زغلول “تمصير” المسرح وإحلال اللغة العربية محل اللغة الفرنسية، وتوعية الشارع المصري، الأمر الذي لاقى قبولاً شديداً لدى جورج، فقد كان ذلك حلماً بداخله شجعه سعد زغلول في بزوغه للنور، فحل جورج فرقته الفرنسية وأحل مكانها فرقة مصرية، وقدم أول مسرحية شعرية عربية من تأليف شاعر النيل حافظ إبراهيم، التي كانت بعنوان “جريح بيروت” . وتعد تلك هي أولى الخطوات التي نهضت بالمسرح، ففتحت أبواب الأوبرا للفرق المصرية، ونظم جورج أبيض العمل المسرحي فأنشأ أوركسترا، وجعل للممثلين رواتب ثابتة، فولدت الرواية المصرية على يد أبيض بثوب جديد يعالج عيوب المجتمع في الصميم، غير مبالٍ بما يتحمله من تكاليف مالية، فما تقاضاه من ميراثه أشرك أخاه سليم للإشراف عليه من الناحية المالية والإدارية، وبفضل تعضيد سعد زغلول وعبد الرازق عنايت، أحد الأثرياء مادياً ومعنويا، استطاع أبيض الدخول إلي المسرح بخطى قوية ثابتة . وفي عام 1914 داهمت المسرح أزمة عالمية بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، التي على أثرها اندمجت فرقة سلامة حجازي مع جورج أبيض رغم فارق العمر بينهما، حيث كان جورج أربعة وثلاثين عاما، وسلامة حجازي اثنين وستين عاما، غير أنهما اضطرا للانفصال بسبب ما اعترض الفرقة من عقبات، ثم اندلعت ثورة 1919 وتوقفت جميع المسارح عن التمثيل مشاركة في الثورة الوطنية . وفي أوائل العشرينات ذهب جورج مع فرقته إلى تونس، فطلبت منه جمعية الأدباء بتونس أن ينشئ لها مسرحاً تونسيا، ويشرف عليه مدة عام ونصف العام، فعادت الفرقة إلى القاهرة، واستمر جورج بتونس مدة عام ونصف العام، أنشأ خلالها أول معهد لفن المسرح بتونس .

ما إن عاد إلى مصر حتى اعترضته موجة من الحزن والاكتئاب لوفاة أصدقائه محمود تيمور وفرح أنطوان وملكة المسرح سارة برنار، واشتد حزنه لفراق صديقه سيد درويش الذي لحن له أول أوبريت مصري “فيروز شاه”، غير أن تلك الأحزان جعلته يفكر في حياته الخاصة والزواج وهو في سن الثالثة والأربعين، فتزوج من زميلته في المسرح دولت أبيض، وما إن وافقت حتى هرب الاثنان من المشاكل العائلية الخاصة، واتفقا على إتمام مراسم الزواج في سرية تامة خارج مصر في بيروت، وتمكنا بصعوبة من الزواج إذ إن الكنيسة المارونية التابعة للفاتيكان لا تعترف بالطلاق الذي حصلت عليه دولت من زوجها السابق من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، غير أنهما تزوجا ببيروت وباركهما مطران الروم الأرثوذكس، وفي عام 1926 رزقا بابنتهما سعاد . وما إن تزوجا حتى انضمت دولت لفرقة أبيض التي كانت مؤلفة من حسين رياض وعباس فارس، والعمالقة روز اليوسف التي أظهرت مواهبها في مسرحية “الممثل كين” إخراج عزيز عيد، وارتفعت فيها روز إلى مصاف ملكات المسرح . ولم تستمر فرحة جورج بالاستقرار والزواج طويلا حتى داهمه المرض ولكنه لم يعبأ به بل راح يعمل بحماس وإصرار على أداء رسالته، ففي عام 1930 جاء لزيارته زكي طليمات الذي أعاد لذهنه فكرة إنشاء معهد للتمثيل، فتحمس جورج وتقدم بطلب لوزير المعارف الذي وافق على إنشائه وعّين طليمات مديراً له بتعضيد من جورج، وبزغت منه الفرقة المصرية الحكومية عام 1935 التي تقرر إعانتها سنوياً بعد كفاح ومثابرة داما ثلاثة وعشرين عاما، منذ تكوينه الفرقة العربية في 1912 .

هكذا آمن جورج بالفن الرفيع قائلاً دوما: إن المسرح هو جماعة الشعب، الجماعة التي ترفع مستوى المتفرجين ولا تتملقهم، وفي عام 1943 تأسست نقابة ممثلي المسرح والسينما بالقاهرة، وانتخب جورج أبيض أول نقيب لها بإجمالي الأصوات، والريحاني وكيلاً أول، وحسين رياض وكيلاً ثانياً . ونظراً لجهوده المتوالية في النهوض بالعمل المسرحي وكتابة المسرحيات باللغة العربية الفصحى وتحاشي الألفاظ الركيكة والكلمات المبتذلة والنكات الفاضحة، وارتفاعه بالتراجيديا الكلاسيكية إلى القمة، كرّمه الملك في الاحتفال باليوبيل الماسي لدار الأوبرا عام ،1945 حيث استدعاه بمقصورته بالإضافة إلى يوسف وهبي وسليمان نجيب، ومنح أبيض رتبة البكوية من الدرجة الأولى ويوسف وهبي وسليمان نجيب رتبة البكوية من الدرجة الثانية، وفي عام 1948 احتفل جورج أبيض مع زوجته دولت بزفاف ابنتهما سعاد على عبد الحميد فؤاد، مفتش المباحث الجنائية بوزارة الداخلية، وذلك بعد أن أشهروا جميعاً إسلامهم . وفي عام 1952 عين جورج أبيض مديراً للفرقة المصرية، لكنه لم يستمر في منصبه طويلاً وذلك بأمر من الأطباء بعد أن تدهورت حالته الصحية، فرشح يوسف وهبي خلفاً له . واستمرت حالته تتدهور، ولكنه لم يبال بهذا، لما في قلبه من عشق للمسرح والفنون، فظل حتى النفس الأخير يقوم بمهامه في التدريس بنشاط ملحوظ وإن كان المرض يمزق جسده ألما، حتى رحل بجسده وإن ظل فنه حياً في قلوب عاشقيه، فحزنت مصر من أجل رحيل رائدها المسرحي، واشتركت الدول والفنانون والجماهير في توديعه، وكرّمته الدولة بأن أقامت له تمثالاً نصفياً في المعهد العالي للفنون المسرحية، وتمثالاً آخر في المسرح القومي، وفي عام 1972 قامت وزارة الثقافة بتسمية مسرح الأزبكية بمسرح جورج أبيض ضمن تكريم الدولة أسماء روادها .




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



أ