البحث العلمي

بقـلم الـدكتور عبدالرزاق مـحـمـد جـعـفـر
أسـتاذ جـامـعات بـغـداد والفاتح وصـفاقـس /سـابقاً
باحث متقدم بجامعة الجنوب /باتون روج/لويزيانه/أمـريكا

بنيت حضـارة العالم المتقدم تقنياً بالبحث المتواصـل , ولقد كانت الجامعات وما زالت الطليعة في هذا المضمار ,حتى بات مقياس التقدم لأية جامعة تعتمد على ما تقدمه من بحوث أصلية وقيًمة لخدمة البشرية, ولذا فأن عمل التدريسي لا يقتصر على سرد المحاضرات, بل يتعداه لبناء الفكر والشخصية للطالب ولحل المسائل المستعصية في مختلف العلوم.
لقد دأبت معظم الجامعات بالوطن العربي على تغييرات عديدة في مناهج الدراسات العليا,وثبتت قواعد أساسية لربط الطلبة بقضايا الأمة العربية ومسايرة خطط التنمية في اقطارها, فهيأت جميع الوسائل اللازمة لأنجاز البحوث في جميع الأختصاصات, ولقد بزغ العديد من ابناء الأمة العربية في مختلف الجامعات الأوربية,.... وتشهد على ذلك بحوثهم الأصيلة المنشورة في كافة الأختصاصات.
ان التطرق لموضوع البحث الحقيقي يجرنا للتنويه عن " نوم أهل البحث ", الذين افنوا شبابهم في ابحاث قيمة في شتى مجالات العلوم ثم استكانوا وخفت نشاطهم, ومن ثم ظهرت بعض الأبحاث الهزيلة أنجزها ما يسمى بـ " الباحث السيار ",.. الذي يزاول البحث بطريقة صحيحة ولكنها غير شرعية, كالزواج السري المسمى بـ " المسيار " !
مثال ذلك, حشر الباحث "المسيار" اسمه بين باحثين آخرين, مستغلاً علاقته الشخصية, اومركزه الأداري, من اجل هدف يعود عليه بمنافع مادية وشهرة فارغة اوقل مزيفة!
الجامعات العربية تعج بحملة الشهادات العليا, ومنهم من استمر بأبحاثه ومنهم من اهملها واكتفوا بالتطبيل لما نشروه من ابحاث اثناء وجودهم بالخارج, فراقت لهم حياة الكسل عند العودة الى الوطن, ودخلوا دور السبات الطويل, ومرًت الأيام, ودار الزمن
دورته, وسمعوا منادياً ينادي في ارجاء مؤسسات الدولة, بتقديم بعض المزايا لكل من ينجز بحثاً,.. حتى فاق " أهل البحث" من سباتهم !
" ونحسبهم أيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط
ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعبا "
وجدوا " اهل البحث" انفسهم بعيدين كل البعد عن المواضيع العلمية القديمة التي مارسوها اثناء دراستهم العليا قبل سنوات عديدة, ومن اجل اللحاق بالركب الذي فاتهم, ولذا لجأ البعض منهم الى ابحاث " اللهو", ليخدع بها نفسه قبل غيره, فنصب الأجهزة الحديثة, وحضر المحاليل الملونة, وقدم طلبات لأستيراد الأجهزة لأنجاز بحثه المتعثر!
وما ان تحقق له ما اراد, حتى راح يعمل مع من هم تحت أمرته من الباحثين او طلبة الماجستير بطريقة اكل الدهر عليها وشرب, والويل لمن يلقى اي نقد لبحثه !
قد نجد من يساند مثل هذا الباحث, لسبب او آخر, فتتاح له الفرصة في تمرير بحوثه الهزيلة وارسالها لمقوم من معارفه, ويسلك اساليباً ملتوية لأقناع المسؤلين بأساليب ملتوية لا يستطيع كشفها اكثر الأداريين حنكة, ويتم نشر بحثه وترقيته لدرجة اخرى!
ان الظاهرة التي تحدثت عنها, تختلف وفق ظروف المعهد او الجامعة او القطر العربي, وقد تكون ضئيلة اذا ما قورنت بالأبحاث القيمة لأساتذة افاضل نالوا لقبهم العلمي بجدارة, .. الا ان الخوف هومن تفشي تلك الظاهرة, ..لأسباب لاتخفى على اي مطلع غيور على تقدم جامعاتنا العربية, وازالة كل ما يعتري تقدمها العلمي من اي معوق, ولذا وجب تعرية مثل تلك الأصناف,..فالكثير منا سمع عن عصابات "المافيا",
في بعض الدول, والتي تقدم ابحاثاً جاهزة لنيل الدكتوراه, او تزود آخرين بشهادات اختصاص مختلفة!
والظاهرة الأكثر رواجاً منذ سنين, هي تحول بعض المقيمين العرب في بعض العواصم الأوربية الى سماسرة ابحاث وكتاب اطروحات الدكتوراه, وخاصة في العلوم الأنسانية! لا بـدً من الأشادة بنوع آخر من التدريسيين العصاميين الذين انشغلوا بالأدارة والبناء, ولم تتاح لهم فرص البحث, وابت شهامتهم اللجوء للطرق الملتوية واستغلال منصبهم الأداري او السياسي, ولم يرتضوا ان "يلصق", اسمهم ضمن باحثين اجانب كانوا على أتـم الأستعداد لوضع أسم المسؤول الأداري على ابحاثهم من اجل تجديد عقودهم!
الحياة غربال واسع المسامات, يسقط منه الصغار بسهولة ويبقى الكبار, الا ان عوامل التعرية متعددة, وقد يأتي يوماً, يصير فيه الكبير صغيراً ويسقط من "الغربال" !
ليكن معيار الترقية مستنداً قبل كل شيئ على السيرة الشخصية الموشحة بالنزاهة والصدق, ثم مستواه العلمي ومسيرته العلميةفي جميع مراحل دراسته وتدريسه,..وما نوع التطور الذي احرزه في ابحاثه؟
اما اذا اذا استندت الترقية الى الكم من الأبحاث الهزيلة او قل غير النافعة,.. فهذا امـر مفعم بالمخاطر, وقد يستغل سارق البحث هذا النهج وينال المنزلة التي لا يستحقها , وقد قيل:
" قطرة الـسم تفسـد برميلاً من العـسل!".