تحت أقدام ماراثون لندن

تباين التصاميم بين شوارع (بلاك هيث) وشوارع طويريج



جريدة المستقبل العراقي / بغداد 8/8/2012



كاظم فنجان الحمامي

لسنا هنا بصدد الحديث عن التنظيم الرائع والاستعدادات العالية في الشوارع اللندنية, التي استقبلت سباق الماراثون للرجال والسيدات, ولا نريد التحدث عن التنسيق الفعّال بين اللجان المرورية واللجان الأمنية واللجان الصحية والرياضية والفنية, التي واكبت السباقات ووفرت لها ما لا يخطر على البال من الرعاية والعناية والمراقبة والمتابعة والاهتمام, ولا نريد التحدث عن اللاعبة الإثيوبية (تيكي جيلانا), التي فازت بذهبية الماراثون لفئة السيدات, ولا عن اللاعب الكيني (إيمانويل موتاي), الذي فاز بذهبية الماراثون لفئة الرجال, ولا نريد التحدث عن النجاحات الباهرة, التي حققتها الهيئات المكلفة بخدمات الماراثون على الرغم من استقالة السيد (ديفيد بيدفورد) المشرف العام على تنظيم هذه التظاهرة الرياضية المرهقة, فما نريد التحدث عنه هنا لا علاقة له بهذا الحدث الرياضي الدولي لا من بعيد ولا من قريب, وإنما أردنا التحدث عن شوارع لندن تحت وطأة الأمطار الثقيلة, التي رافقت السباق منذ بدايته في الساعة التاسعة صباحا لقطع مسافة ستة وعشرين ميلا من منطقة (بلاك هيث) وحتى قصر (بكنغهام), فقد غطت الأمطار الشوارع والأرصفة, لكنها سالت قطرة بعد قطرة بانسيابية مدهشة نحو مستقرها الطبيعي في مجاري لندن, من دون أن تتكدس في البرك والمطبات والحفر و(الطسات), ومن دون أن تتجمع في الساحات والميادين. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
لقد شاهدت وقائع السباق من بدايته إلى نهايته, ولم أكن في حقيقة الأمر أراقب العدائين والمتسابقين, فقد أنصب اهتمامي على ما نقلته لنا العدسات البريطانية من الجو والأرض, ومن فوق سطوح البنايات الشاهقة, ومن الكاميرات المحمولة والثابتة في الشوارع والأزقة اللندنية, وكانت فرصة ثمينة للتمتع بجمال هندسة البناء وروائع التصاميم المعمارية, فلم أجد الحفر والمطبات والطسات والتشققات والمنخفضات والمرتفعات, التي اعتدنا على رؤيتها في شوارعنا العراقية في كربلاء والبصرة والموصل, ولم تتراكم مياه الأمطار عندهم مثلما تتراكم عندنا, ولم تمتزج المياه بالأتربة والمخلفات الأخرى لتتحول إلى أوحال وأطيان يتزحلق عليها كبار السن, فيتساقطون الواحد بعد الآخر في الأسواق والأزقة الغارقة بالمياه الآسنة, التي تطفح بها دائما منظوماتنا التصريفية في مواسم الأمطار. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
انطلق العداءون والعداءات, وواصلوا الجري بأقدامهم المبتلة فوق شوارع جميلة نظيفة ملساء مستوية, بمحاذاة أرصفة مزدانة بالإشارات والعلامات واللوحات الفسفورية الملونة, شوارع مرصوفة بالحجارة منذ أكثر من قرن, ومكسوة بالإسفلت منذ عقود وعقود, من دون أن تتصدع, أو تتشقق كما هو الحال عندنا, ومن دون أن نشاهد الحواجز والمصدات الأسمنتية العملاقة, التي اعتدنا مشاهدتها في شوارعنا وحول مؤسساتنا الحكومية, ومن دون ان نشاهد صور ملكة بريطانيا معلقة في كل مكان, ومكتوب تحتها (بالروح بالدم نفديك يا إليزابيث). .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
ربما يقول قائل منكم: لا مجال للمقارنة بين شوارع مدينة لندن وشوارع مدينة بغداد, أو مدينة طويريج, أو مدينة سوق الشيوخ, أو أية مدينة عراقية, فنقول له: إن شوارع لندن توقف تبليطها وانتهى تعبيدها منذ أكثر من قرن, بينما تخضع شوارعنا كل يوم لمشاريع التوسيع والصيانة والتعمير حتى تشققت, وحتى مزقتها المعاول والبلدوزرات, فما يكاد ينتهي مقاول من أعمال الحفر والدفن, إلا ويباشر مقاول آخر بالحفر والتعميق في المكان نفسه, فيهدم ما أنجزه المقاول السابق, ويباشر بتنفيذ مشروع آخر في المكان, الذي انتهى منه للتو المقاول الأول, وربما تتكرر مشاريع التبليط عندنا وتتداخل مرات ومرات, حتى تشوهت الطرق والأزقة المرتبطة بها, وغدت في حالة مزرية. وكأننا نخوض سباقات محمومة لتشويه وتعطيل المزيد من الشوارع. وبصورة تنم عن جهل مطبق بألف باء تخطيط المدن, فالتخطيط عندنا يتم بصورة مزاجية قابلة للمساومة لمراعاة مصالح معينة. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
أغلب الظن إن سباقاتنا التعميرية الماراثونية تجري على قدم وساق في ظل غياب الإشراف الحرفي, وفي ظل عدم الالتزام بتطبيق المعايير الهندسية القياسية الصحيحة, وعدم التقيد بمبادئ وأسس التخطيط العمراني, فبدت شوارعنا المنجزة متخرقة بالثقوب, متلطخة بالأصباغ الفاقعة, مكسوة بالمواد الإنشائية الرخيصة, تشوبها المرتفعات والمنخفضات والأنقاض, وهكذا تحولت شوارع مدننا, التي صرفت عليها الملايين, إلى ميادين مفتوحة لعبث العابثين, وثراء المفسدين, فلا برامج مقننة, ولا جداول زمنية, ولا أسبقيات ولا أولويات ولا هم يحزنون, ووصل الحال إلى أوضاع لا يمكن السكوت عنها لما فيها من انتهاكات صارخة لحرمة المال العام, ولما فيها من تجاوزات سافرة لحقوق سكان المدن. .
تعزى أسباب التشوهات, التي أصابت شوارعنا إلى التشرذم المهني, والابتعاد عن تطبيق ابسط القواعد الهندسية المعتمدة في التخطيط العمراني, وربما أدت حالة التشرذم إلى إشاعة أجواء اللامبالاة, والاقتناع بالأداء الشكلي, وتنفيذ المشاريع على الورق من دون ربطها بالنتائج. .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
من المسلم به انه لا مجال للمفاضلة بين البصرة ولندن، ولا مجال للمفاضلة بينها وبين محافظة الكوت, فقد تسلح اللندنيون بالعلم, الذي هو عماد الحياة وصانع الحضارات ومنقذ الإنسان, وقديما قال أجدادنا: (ذبها براس عالم واطلع منها سالم), وسخروا علومهم كلها في تجميل مدينتهم وإظهارها بالمظهر اللائق. .
ففي القرن الثامن عشر اجتاح لندن وباء الكوليرا, الذي أودى بحياة المئات من سكان المدينة, ولم يفلح الأطباء في التعرف على أسبابه والوقاية منه, وكان في المدينة مهندسا انجليزيا متأثرا بالنتائج المميتة لهذا الوباء, تجول ذلك المهندس بين المناطق المنكوبة, فرأى جثث الضحايا مبعثرة في كل مكان, فقاده تفكيره العلمي إلى التساؤل عن الأسباب والنتائج, فاكتشف إن تفشي وباء الكوليرا مرتبط بمشكلة غياب المجاري الصحية في مدينة لندن, لكنه لم ينجح في إقناع الناس بذلك, فلم ييأس ولم يتراجع, بل تمسك برأيه, وراح يعمل في بيته لتصميم مخططات شاملة ومتقنة لمنظومات الصرف الصحي, ونجح أخيرا في الدفاع عن أفكاره التطويرية لبناء منظومة المجاري العملاقة, وهكذا ولد مشروع مجاري لندن في القرن الثامن عشر, وظل يعمل بانسيابية تامة منذ ذلك الزمن وحتى يومنا هذا. .

فمتى نتوقف عن تنفيذ المشاريع المليونية الفاشلة, ونبني منظومة واحدة للصرف الصحي, منظومة واحدة فقط قادرة على شفط مياه المجاري, ومياه الأمطار, على أن تكون فاعلة ومجدية لعام واحد فقط, ومتى يتحقق الحلم فنسير في شوارعنا من دون أن نسقط في مطباتها وحفرها, ومن دون أن نغرق في بركها الممتلئة بالمياه الآسنة, ومن دون أن نتزحلق فوق أطيانها وأوحالها وتبتلعنا بالوعاتها؟ ؟ ؟. .