المسرح الملحمى عند بريخت

اعداد صادق ابراهيم صادق

ن أهم الفروق الجوهرية بين مقومات المسرح الدرامى والمسرح الملحمى التى وضع لها بريخيت جدولا خاص بها، ليبيبن ويحدد سمات كل منها ، يمكن ايجازها فى عدة نقاطكما يلى:
1- يقوم المسرح الدرامى على تجميد الأحداث ، وبناء بعضها على بعض ، وتشتمل هذه الآحداث على بداية ووسط ونهاية ، فى حين أن المسرح الملحمى يقوم على القص وسرد الآحداث ، فهو لايهتم بأن تسير فى خط منتظم ، لانه لايسعى الى ذروة يتبعها تطهير .
الى جانب أن المسرح الملحمى يرد الآحداث الى الماضى لحتوليها الى أحداث نتهت ، تسردها علينا لمسرحية " فهو يلزم بالتاريخ اذ يذكر جمهوره دائما بأن مايقدم له ليس الا رواية لأحداث تمت فى الماضى " لكى يشعر المتفرج بأنه مايراه ليس هو حاضره ، تمت فى الماضى لكى يشعر المتفرج بان مايراه ليس هوه حاضره ، وبالتالى يبعده عن مجرى الواقع اليومى ، فيستطيع أن ينظر اليه كما لو كان شيئا غربيا ، فيفكر فيما يقدم له بهدوء وتعقل ليصل الى ما يهدف اليه من مسرحه ، وهو ايقاظ فكر وعقل المتفرج ، لاصدار الحكم على مايراه أذ أن بريخت " ينشد أن يثير مسرحة عند المشاهد عملية نقد الحدث الذى يقدم على المسرح .

2- المسرح الدرامى يصور الانسان كماهو : كائن ثابت غير قابل للتغيير ، متجمد فى أبعاد ثابتة لايستطيع أن يتخطاها ، بينما نجد الانسان فى المسرح الملحمى قابلا للتغير ، متحكما فى مصيره المتغير دائما " فالسرحية الملحمية ترفض مبدأ الحتمية فى سلوك الشخصيات ، وتطور المواقف ، وترى فى سلوك الانسان موفقا اجتماعيا ينطوى على كل مينطوى عليه الموقف الاجتماعى من عناصر قابلة للتعديل أو التغيير ، لهذا يستعيض المسرح الملحمى عن دراسة الطبيعة البشرية بدراسة العلاقات الانسانية فى صورة قضية من الماضى تورى أمام لمشاهدين " كما فى مسرحيات مثل " دائرة الطباشير القوقازية " و " الاستثناء والقاعدة " محاكمة لوكولوس " فهذه المسرحيات تقوم على دراسة العلاقات الانسانية فى المجتمعات الانسانية وتحت ظروف مختلفة عن طريق رواية الحادثة أمام الجمهور على أنها وقعت فى الزمن الماضى لاناس آخرين .
3- ان البطل يحتل المكانه الأولى فى المسرحية الدرامية بخيت تنشغل جميع الشخصيات المسرحية وتتحرك جميعا من أجل هذا البطل .

كما يتضح فىشخصيات " أوديب ، أنتيجون " ، و " هاملت ، بل انت نجد أن الحوادث كلها تدور حول شخصية عظيمة نطغى على كل الشخصيات الاخرى فى المسرحية ، على عكس هذا نجد أن البطل فى المسرح الملحمى ليس له مكانه بارزة بصفته الفردية ، وانما هو رمز المصير الجماعى " فالانسان فى مسرحه لم يعد هو نقطة الاتكاز كشخص مستقل بذاته ، بل انه يشغل هذا المكان من خلال تعامله مع الواقع الموضوعى " وان كانت هناك مسرحيات لبريخت تشتمل على أسماء بعينها " كجاليليو " مثلا ، او مثلا ، أو" السيد بونتلا " أو " لوكوس " الان أن مصير هذه الشخصيات ليس هوه الاساس الذى يقوم عليه العمل المسرحى ، وانما يطرح السؤال هذا البطل مشكلة اجتماعية تعنى المجتمع ككل ومن ثم يفقد البطل الفردى مكانته فى مسرح بريخت .


4- اذا انتقلنا الى طبيعة المتفرج فى كل من المسرحين ، نجد أن المسرح الدرامى يسعى الى أن يدمج المتفرجين فى الاحداث ، ويجعلهم يتفاعلون معها ، ليثير فى عواظفهم مشاعر الخوف والشفقة فيطهرهم بذلك من الانفعالات الدفنية ليصل بهم الى مارمى اليه اسطو ، وهوالتطهير kaoapoco catharasis الذى لم يكن يقتصر فى الحقيقة على الماساة فقط ، وانما يغطى بعض الموافق الكوميدية كالمفارقات ، والمطبت التى يقع فيها الشخوص .
أما المسرح الملحمى ، فيسعى الى عرض المشكلة على المتفرج دون أن يدمجه فيها بل يريد منه أن يحتفظ بشخصيته ووعية الكامل لما يدور أمامه ليتيح له فرصة التأمل والتفكير بشكل نقدى القضية المطروحة ذلك لأن بريخيت " يرى المتفرج فى مثل هذا الدرما التلقليدية يفقد القدرة على التفكير فيما يجرى أمامه ، ويسلنا القدرة على مواجهة المشاكل الساسية وحلها بشكل فعال يقضى على أصل المشكلة المطروحة ، بعد أن تكون عواطفه قد تطهرت ، لهذا نجده يلجأ الى تغريب الحدث عن طرق السرد لآحداث وقعت فى الماضى ، وذلك لان فى المسرح الملحمى " يجب أن يدرك المشاهدون انهم لايرون وقائع حقيقة تحدث امام أعينهم فى تلك اللحظة التى يرونها فيها ، بلى يجلسون فى قاعة مسرح يصغون أو يستمعون الى حكاية أمور حدثت فى الماضى فى مكان وزمان محددين ولابد من الجلوس فى حالة استرخاء لكى يفكروه فيما يمكن أن تعملهم أحداث الماضى من دروس " .

ولقد فرق بريخت فى كتاباته النظرية بين موقف المتفرج فى المسرح القديم وموقفه فى المسرح الجديد ، فيقول " عندما يتسأءل مشاهد المسرح الدراماتيكى معاناة البطل يقول " نعم لقد عانيت انا أيضا الشئ نفسه ، انثى على شاكلة البطل انه لشى طبيعى وسيكون كذلك دائما ، ان مصيبه هذا الانسان تهزنى ، لانه لايملك مخرجا ، انه فى عظيم كل كل شئ هنا يبدو بديهيا ، اننى أبكى مع الباكين واضحك مع الضاحين "

أما مشاهد المسرح الملحمى فيقول :

" لم يخطر هذا على بالى ، انه لتصرف خاطئ ، انه مدهش أقصى حد ، انه تقربيا مغاير للحقيقة ، يجب أن يوضع حد لكل هذا , ان مصيبة هذا البطل تهزنى ، لآنه يملك ، على أى حال ، مخرجا ، انه فن عظيم ، ليس فيه شئ بديهى . اننى أضحك على اولئك الذين يبكون ، وأبكى على أولئك الذين يضحكون .
5- لهذا سنجد أن طبيعة المتفرج فى المسرح الملحمى ستفرض كذلك طبيعة خاصة على المثل ، فكما أن على المتفرج الايندمج فى الاحداث بل براقبها ليصدر حكمه عليها ، كذلك نجد ان على الممثل ، هو الآخر ، أن يندمج فى دوره ، بلى يظل مدركا انه " يمثل " دورا ولايقدم "حقيقة " على عكس الممثل الدرامى الذى تبرز براعته فى التمثيل قدر تقصمه للشخصية التى يؤديها ، وبقدر تصوره أنه أمام واقع حقيقى .
ويؤكد بريخيت على هذا فى " الاورجانون الصغير للمسرح " حيث نجده يقول فى هذا الصدد:
" ينبغى للمثل مطلقا أن يصل فى أدائه الى التحول الكامل الى الشخصية التى يلعبها ، فالعبارة " المشهورة " لم يكن يمثل لير ، كان لير " يجب أن تكون بمثابة ضربة قاتله له ، كل ما عليه هو أن يرينا الشخصية وهذا لايتطلب أكثر من مجرد " ليس الدور " أو " الدخول تحت جلد الدور " ألا أن هذا لا يعنى أن يظل باردا ، اذا كان يلعب أدوارا تحتاج لعاطفة مشبوبة ، كل ماينبغى عليه ، وذلك حتى لاتصبح عواطف الجمهور فى الاعماق هى الاخرى عواطف الشخصية ، فلا بد ان يترك للجمهور الحرية المطلقى فى هذا المجال "

اى أن بريخيت يريد من الممثل ، المتفرج أن يحتفظ كل منها بشخصيته المستقلة ، لتتاح لهما فرصة التفكير النقدى .
على أننا يجب أن نلاحظ هنا ، أن منهج بريخت يطرح فى الواقع مرة أخرى نظرية " المسرح مسرحا " التى طرحها وتبنها الكثيرون من الرواد ، بالتناقض مع المسرح الواقعى قسطنطين ستانسلافسكى ، ابتداء من مايرهولد وكريج وابيا ، وانتهاء بلويجى بيراندللو ، ولكن بريخيت لايتوقف عند التناقض الفلسفى فى تعريف الظاهرة المسرحية ، بل يتجاوز ذلك الى طرح أهداف أيديولوجية واضحة ، يريد الجماهير أن تنهض لحتقيقها من خلال حوار ديالكتيكى محسوب

.
واذا كان استانسلافسكى يقيم منهجه الواقعى ، الدرامى على لو الساحرة ، التى تتيح لفنان المسرح أن يتمثل الحقيقة كل الحقيقة ، فتضيق المسافات بين الممثل والشخصية ، حتى ليصبح المثل " لير " أو " عطيل " أو " مكيث " فان بريخت يقع على عامل ساحر اخر يححق فى العرض المسرحى النقيض ،ذلك هو عامل "التغريب".. وسنتعرض له في المقال التالى.

صادق إبراهيم