خمسة كتب فى السيرة النبوية: تحليل وتقويم


(1)
محمد أسد بك
يهودى روسى يتظاهر بالإسلام
ويكتب سيرة تسىء إلى النبى عليه السلام

د. إبراهيم عوض

فى مكتبتى الخاصة كتاب مترجم إلى الفرنسية فى نحو ثلاثمائة صفحة صادر عن دار "Payot" بباريس عام 1948م يتناول سيرة النبى محمد عليه الصلاة والسلام عنوانه: "Mahmet" لمؤلف اسمه: "Mohammed Essad Bey". ويفهم للوهلة الأولى أن صاحب هذا الاسم رجل عربى مسلم. لكنه، فى الواقع، يهودى روسى اسمه الأصلى: "Lew Abramowitsch Nussimboum "، وكان يتخفى تحت اسم "محمد أسد بك" أحيانا، و"قربان سعيد" أحيانا أخرى. ويصفه من كتبوا عنه بأنه رجل حالم يتغيا التقريب بين الشرق والغرب، وأنه اعتنق الإسلام عام1920م فى الخامسة عشرة من عمره. وكان يعيش مطاردا من البلاشفة الروس والنازيين الألمان، وتنقل بين مدن أوربية كثيرة، ومات بإيطاليا عن سبع وثلاثين عاما. وله كتب فى تراجم الحكام والمستبدين والزعماء الدينيين مثل موسولينى ولينين وستالين والنبى محمد عليه السلام، إلى جانب رواية اسمها: "على ونينو" تشبه قصة روميو وجولييت. وبالمناسبة فهو شخص آخر غير محمد أسد (Muhammad Assad) صاحب "الطريق إلى مكة" ومترجم القرآن وصحيح البخارى إلى الإنجليزية.
والمدهش أن السيرة التى كتبها هذا "المتحول إلى الإسلام" تحتوى على إساءات بالغة إلى ذلك الدين المجيد، ولم يترك مؤلفها مثلبة دون أن ينسبها إلى الرسول وصحابته: فهو قد تعلم على أيدى الأحبار والرهبان والحنفاء، وكان شهوانيا يغازل النساء ويداعبهن ويأخذهن بالأحضان، وحاكما مستبدا نشر الرعب فى دولة المدينة، وظلم اليهود المسالمين ونقض عهد الصحيفة، فضلا عن أنه هو مؤلف القرآن وصاحب التشريعات التى يشتمل عليها... وهكذا. وعمر مثلا كان يشتغل بتهريب البضائع فى الجاهلية، ثم دخل الإسلام رغبة فى إحداث دوى لنفسه بعد فشله فى كل مشروعاته السابقة وعدم إحرازه أى مجد أو ثروة، وكان يضرب زوجات النبى بالعصا. وهذا الكلام، بطبيعة الحال، هو مجرد تدليس سخيف لم يستمده المؤلف إلا من ضميره الملتوى وخياله السقيم.
ومن تخاريفه قوله إن الصلاة فى الإسلام تسقط أثناء السفر، وإن الشيطان فى نظر النبى هو إنسان يمشى متلصصا دون أن يبدو عليه أنه يبغضك، لكنه إذا نظر إليك بغتة أصابك بالمرض، وإن الشياطين تسكن الكهوف المظلمة وقمم التلال الملتهبة حيث تعيش، منذ أيام سليمان، ساحرات يهوديات شمطاوات يسيطرن على مملكة الشياطين ويُسَيِّرْنها وفق هواهن. كما يزعم أيضا أن النبى كان يعرف، وهو لا يزال فى مكة، أن اليهود موحدون مثله. يريد أن يقول إنه صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة واصطدم بهم، لتمسكهم بدينهم ورفضهم لما أتاهم به، قدغير رأيه فيهم، وكأن المسألة أحقاد شخصية، مع أن النصوص القرآنية المكية قدتحدثت مرارا عن انحراف بنى إسرائيل عن عقيدة التوحيد ووقوعهم فى الشرك والوثنية منذ أيام موسى نفسه، ولم يكن الاصطدام قد وقع بعد بين اليهود والمسلمين فى المدينة. وفوق ذلك يخترع المؤلف قصة غريبة جدا مفادها أنه عليه السلام قد عطش فى الطريق إلى يثرب عند الهجرة فلم يجد من يطفئ ظمأه سوى يهودى اسمه نورز، مما كانت نتيجته أن صار المسلمون يحتفلون كل عام بعيد يسمى باسم ذلك الرجل تخليدا لذكراه... إلى آخر تلفيقاته وتخريفاته.
وإن الإنسان ليتساءل: أى تفاهم بين الشرق والغرب أراد ذلك المدلس أن ينشئه؟ أبالكذب والتضليل والاتهامات الباطلة للنبى محمد ودينه وصحابته الكرام يمكن أن يقوم مثل ذلك التفاهم؟ وهل هذا قصارى ما يقوله رجل ترك اليهودية واعتنق الإسلام؟ فماذا كان يمكن أن يقول لو أنه ظل على دينه؟ وهل دولة المدينة كان يسودها الرعب وينتشر فيها الاستبداد؟ لقد كان الرسول واسع الصدر لأصحابه وأعدائه على السواء، وكان يأخذ بالشورى فى كل أموره، ويحترم الصغير قبل الكبير، ويكره أن يعاقب أحدا وله مندوحة عن ذلك العقاب. وكان طويل الأناة حتى مع المنافقين. ولم يُخْرِج اليهودَ من المدينة إلا بعد أن تكررت خياناتهم وأضحى بقاؤهم فيها مجلبة للكوارث. ومع هذا لم يعاملهم بشريعتهم، التى تأمر باستئصال الأعداء فى مثل تلك الأحوال. أما فى غزوة بنى قريظة فقد ارتكبوا جريمة الخيانة العظمى، وكانوا يخططون لإبادة الإسلام والمسلمين كما هو معروف. ثم من أين أتى المؤلف بخرافته المتعلقة بالصلاة وسقوطها خلال السفر؟ ومن أى واد من أودية الوهم والضلال استقى ما قاله عن الشياطين؟ إن القرآن الكريم والحديث الشريف موجودان بأيدينا، وليس فيهما شىء من تلك الخرافات والتنطعات.كذلك يتجاوز ذلك اليهودى الخبيث كل الحدود حين يتهمه صلى الله عليه وسلم بما اتهمه به من ناحية الشهوة والنساء، إذ كان النبى مثال العفة والطهارة من قبل أن يختاره الله نبيا رسولا.
وإذا كان النبى والإسلام بهذا السوء البشع الذى يزعمه فلماذا ترك دينه واعتنق الإسلام؟ وكيف يقول ذلك الكذاب إنه عليه السلام قد تعلم على أيدى الرهبان، ومعروف أنه لم يقابل إلا بحيرا وحده مرة يتيمة حين كان لا يزال صبيا صغيرا، فضلا عن وقوع ذلك اللقاء العارض فى حضور رجال القافلة القرشية التى اصطحبه فيها عمه أبو طالب حين رآه يتعلق به وهو يستعد للسفر إلى الشام؟ أو كيف يزعم أنه قد تعلم من الحنفاء فى الوقت الذى اعتنق هؤلاء الحنفاء أو أولادهم وقبائلهم الدين الذى أتى به؟ وما حكاية نوروز هذا الذى لا وجود له إلا فى خيال الكاتب السقيم؟
ترى هل بهذه الطريقة الخبيثة تُكْتَب سيرة النبى محمد، الذى غير مسار الحضارة البشرية، وحرر الضمير البشرى من أغلال الوثنيات والخرافات وعبادة البشر، وأسس الحرية الدينية لأول مرة فى التاريخ، وجعل طلب العلم فريضة مفروضة لا مجرد حق يستطيع الإنسان أن يأخذه أو يفرّط فيه طبقا لهواه، وأوجب النظافة والنظام، وعمل على ترقية الذوق، وجعل العمل والإتقان جزءا لا يتجزأ من الدين، وأبغض مد اليد للسؤال، وغرس معانى الكرامة والعزة فى النفوس، وحث على إعمال العقل والاجتهاد دون خوف من النتائج لأن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ما دام قد استفرغ وسعه؟ إن نية الكاتب اليهودى ظاهرة للعيان ظهورا لا تمكن المماراة فيه، ومكان الكتاب الذى ألفه هو صفيحة القمامة حيث يليق كل منهمابالآخر.

(2)

نظمى لوقا وكتابه: "محمد الرسالة والرسول"
أستاذ نصرانى مصرى يعرف للنبى محمد مكانته وعظمته
بقلم د. إبراهيم عوض
مؤلف هذه السيرة النبوية هو د. نظمى لوقا جرجس (1920- 1987م) الأستاذ الجامعى المصرى المعروف. ترك خلفه طائفة من الكتب فى الفلسفة والقصة والشعر والإسلاميات، إلى جانب بعض المترجمات فى ميادين الرواية والفلسفة وعلم النفس. وهذه مؤلفاته الإسلامية: "محمد: الرسالة والرسول"، و"محمد فى حياته الخاصة"، و"وا محمداه"، و"أبو بكر حوارىّ محمد"، و"عمر بن الخطاب البطل والمثل والرجل"، و"عمرو بن العاص"، و"أنا والإسلام"، و"التقاء المسيحية والإسلام". وقد أُطْلِق على الرجل لقب "القبطى الذى أنصف محمدا" جَرَّاء موقفه الكريم من سيد النبيين والمرسلين وما أبدعه من مؤلفات متميزة عرض فيها الإسلام عرضا موضوعيا واضعا إياه فى المكانة السامقة التى بوأه إياها الله سبحانه.
وهو يؤكد أن بواعث كثيرة في صباه قربت بينه وبين الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، معلنا أنه ليس فى نيته أن ينكر هذا الحب أو يتنكر له، بل يَشْرُف به ويحمد له بوادره وعقباه. وفى اعتقاده أن الناس، قبل الإسلام، كانت بحاجة إلى دين جديد يجمع بين القلب والعقل ويتجه إلى الناس كافة لا يفرق بين شعب وآخر، ويرضى أشواق الروح وحاجات الجسد معا، وهذا الدين هو الإسلام. ولذلك سماه: "دين البشر"، أى الدين الذى يفهمه البشر ويتناغمون معه لأنه يلبى مطالبهم ومطامحهم، ويخاطب عقولهم ويشبع عواطفهم.
وفى الكتاب المذكور يعرض د. لوقا تصوُّر الإسلام لله والإنسان والنبوة والمرأة والزواج ونظام الحكم والعلاقات والتعاملات الإنسانية وغير ذلك، مبينا أنها أفضل شىء فى بابها، ومستعينا فى تجليتها بنصوص القرآن الكريم وأحاديث الرسول ووقائع سيرته. ومما قاله عن النبى صلى الله عليه وسلم: "ما كان محمد صلى الله عليه وسلم كآحاد الناس فى خلاله ومزاياه، وهو الذى اجتمعت له آلاء الرسل عليهم السلام وهِمّة البطل، فكان حقا على المنصف أن يُكْرِم فيه الـمَثَل، ويُحَيِّىَ فيه الرجل". "أىُّ الناس أَوْلَى بنَفْى الكيد عن سيرته من أبى القاسم، الذى حوّل الملايين من عبادة الأصنام الموبقة إلى عبادة الله رب العالمين، ومن الضياع والانحلال إلى السموّ والإيمان، ولم يفد من جهاده لشخصه شيئا مما يقتتل عليه طلاب الدنيا من زخارف الحطام؟". "فى آخر خطبة له، وقد تحامل على نفسه وبرز إلى المسجد، قال: "أيها الناس، أَلاَ من كنتُ جلدتُ له ظهرا فهذا ظهرى فَلْيَسْتَقِدْ منه، ومن كنتُ أخذتُ له مالاً فهذا مالى فليأخذ منه. أَلاَ وإن أَحَبَّكم إلىَّ مَنْ أخذ منى حقا إن كان له، أو حَلّلنى فلقيتُ ربى وأنا طيّب النفس". ما أعظم وأروع! فما من مرة تلوتُ تلك الكلمات أو تذكرتُها إلاّ سَرَتْ في جسمى قشعريرة كأنى أنظر من وهدة فى الأرض إلى قمة شاهقة تنخلع الرقاب دون ذراها. أبعد كل ما قَدَّمْتَ يا أبا القاسم لقومك من الهداية والبّر والرحمة والفضل، إذ أخرجتَهم من الظلمات إلى النور، تراك بحاجة إلى هذه المقاصَّة كى تلقى ربك طيب النفس، وقد غفر لك من قبل ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ولكن العدل عندك مبدأ. العدل عندك خلق، وليس وسيلة".
"لا تأليه ولا شبهة تأليه فى معنى النبوة الإسلامية. وقد دَرَجَتْ شعوب الأرض على تأليه الملوك والأبطال والأجداد، فكان الرسل أيضًا معرضين لمثل ذلك الربط بينهم وبين الألوهية بسبب من الأسباب. فما أقرب الناس، لو تُرِكوا لأنفسهم، أن يعتقدوا في الرسول أو النبى أنه ليس بشرًا كسائر البشر، وأن له صفة من صفات الألوهية على نحو من الأنحاء. ولذا نجد توكيد هذا التنبيه متواترًا مكررًا فى آيات القرآن، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ" (الكهف/ 110). وفي تخير كلمة "مِثْلُكم" معنى مقصود به التسوية المطلقة، والحيلولة دون الارتفاع بفكرة النبوة أو الرسالة فوق مستوى البشرية بحال من الأحوال. بل نجد ما هو أصرح من هذا المعنى فيما جاء بسورة "الشورى": "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ" (الشورى/ 48). وظاهرٌ فى هذه الآية تعمُّد تنبيه الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة مهمته، وحدود رسالته التي كُلِّف بها، وليس له أن يعدوها. كما أنه ليس للناس أن يرفعوه فوقها".
ويرى نظمى لوقا أن المعجزات المادية مهما تكن خارقة ليست لها قوة المعجزات المعنوية، إذ لا حجية لها فى الواقع إلا لمن شهدها شهود العيان، أما الأجيال التالية فكيف تستند فى إيمانها إلى تلك المعجزات، وهى لم تشاهد منها شيئا؟ لكن، كما يقول، هناك الآية الكبرى التى لا يثبت بغيرها صدق، ولا يغنى عن غيابها ألف دليل مغاير مهما بلغت درجته من الإعجاز. وهذه الآية الكبرى هى صدق الكلمة من حيث هى. فإن الحقيقة، حسبما يؤكد، هى آية نفسها، إذ تحمل برهانها فى مضمونها، فيطمئن إليها العقل، ويبدو ما يباينها هزيلا واضح البطلان. وهو يؤكد أن محمدا عليه الصلاة والسلام يحتل فى هذا السلم أعلى الدرجات، إذ كان صادقا مخلصا يؤمن بكل كيانه بالرسالة التى اختاره الله لها، وتحمَّل كل ما استتبعه إعلان تلك الرسالة والدعوة لها من أذى ومؤامرات وتنكيل، وظل يُضَحِّى ويتحمل ما تنوء به كواهل البشر حتى النهاية حين ذهب للقاء ربه راضيا مرضيا ناصع الصحيفة، ضاربا بخلقه وسلوكه الطاهر الزكى الكريم المثال الأعلى للإنسانية فى كل زمان ومكان.
وتبهر شريعة الزكاة فى الإسلام د. نظمى لوقا، فيتأمل مَلِيًّا عبارة "على حبه" فى قوله تعالى: "ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مسْكِينًا ويَتِيمًا وأسِيرًا"، "وآتَى المَالَ على حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى واليَتَامَى والمساكين..." مؤكدا أن "ذلك مغزى الخلق الإسلامى وخاصته المميزة. فليست هذه الفروض من الأمور التنظيمية للمجتمع فحسب، وليست من الأعمال التى يُبْتَغَى بها وجه المصلحة الاجتماعية ورقىّ المعيشة فى الأمة وصلاح الأحوال بموجب عقلى، بل هو عمل خلقى فى المقام الأول يُبْتَغَى به وجه العاطفة الخلقية، وجه الواجب. والفرق بين فعلٍ عقلىٍّ وفعلٍ خلقىٍّ فى هذا المقام هو الفرق بين ما هو بوحىٍ من العقيدة وما هو بوحىٍ من المصلحة، ضاق مداها أو اتسع. فإننا نرى اليوم أمما بلغ عندها الفهم العقلى والتنظيم الاجتماعى المادى غاية مداه، ورفرف اليُسْر على أعضاء الجماعة، ولكنهم لا يحسون سعادة نفسية بذلك الرخاء".
ومما تريث عنده نظمى لوقا من حياة الرسول ما يثيره بعض الفارغين من اتهامه صلى الله عليه وسلم بالانكباب على النساء بسبب تعديده لزوجاته فى المدينة المنورة، فقال إن العبرة ليست بالعدد، ولكن بالظروف التى أفضت إلى الجمع بين أولئك الزوجات: ومنها ظروف اجتماعية ترجع إلى الأحداث التى كان هو محورها ولا يملك أن يعفى نفسه من المسؤولية والالتزام ببعض ثمارها، ومنها ظروف نفسية مرجعها إلى عواطفه ومراميه. وهنا نراه يقف عند السنوات المقاربة للثلاثين التى مضت قبل تعديده فى المدينة، وهى فترة الشباب العارم والرجولة الفتية التى اقتصر فيها على زوجة واحدة هى خديجة رضى الله عنها، ولم تتعدد زوجاته إلا بعد وفاتها، وظل يحبها ويغار عليها إلى خِتَام أيامه، مؤكدا لعائشة الصغيرة البِكْر أن الله لم يبدله بخديجة خيرا منها قط.
هذا هو نظمى لوقا، وهذا هو كتابه عن سيد البشر، ذلك الكتاب الذى قال فى مقدمته تلك الكلمة العجيبة التى ينبغى أن تنقش على حبات القلوب: "من يغلق عينيه دون النور يضير عينيه ولا يضير النور. ومن يغلق عقله وضميره دون الحق يضير عقله وضميره ولا يضير الحق. فالنور منفعة للرائى لا للمصباح، والحق منفعة وإحسان إلى المهتدى به لا إلى الهادى إليه".

(3)

"فى خُطَى محمد" لنصرى سلهب
سيرة نبوية معطرة أبدعها نصرانىٌّ لبنانىٌّ مفتونٌ بعظمة الرسول
بقلم د. إبراهيم عوض

نصرى سلهب لبنانى نصرانى تولى عدة مناصب إدارية وسفارية هامة لبلاده، وتُوُفِّىَ منذ خمس سنوات تاركا وراءه عدة مؤلفاتٍ جِدِّ قيمةٍ منها: "فى خُطَى محمد" و"فى خُطَى علىّ" و"فى خُطَى المسيح" و"لقاء المسيحية والإسلام" و"الإسلام، كما عرفته، دين الرحمة والسلام"... إلخ. وكان كتابه: "فى خطى محمد" قد وقع لى فى بداية سبعينات القرن الماضى، فوجدت الرجل لا يؤلف كلمات وجملا كما يصنع سائر الكُتَّاب، بل ينتقى أجمل الورود وينسق منها باقات لا أروع منها ولا أبدع، ثم لا يكتفى بهذا بل يرش عليها مزيدا من العطر، فإذا بك، وأنت تطالع الكتاب، تشعر وكأنك فى جنة وارفة الظلال يهب عليك الشذى الفواح أَنَّى يَمَّمْتَ وجهك، فتسحرك القراءة وتدهش من أين للرجل بكل هذا الحب والتبجيل والافتتان بالنبى محمد رغم نصرانيته وتمسكه بهذه النصرانية.
والواقع أننى، رغم قراءتى من السير النبوية الكثير للمسلمين وغير المسلمين من عرب وغير عرب بلغة الضاد وغيرها، لا أذكر أنى طالعت كتابا فى السيرة ينضح بكل هذا العطر والجمال. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد رأيت ذات يوم صورة للرجل فى إحدى المجلات، فألفيته وسيما أنيقا يشع وجهه جمالا ورضا، فقلت: سبحان الله! إن مثل تلك السيرة المحمدية الجميلة لا يمكن أن تصدر إلا عن صاحب هذا الوجه المطمئن الوسيم.
لقد ندب الرجل نفسه فى هذا الكتاب للدفاع عن الإسلام ونبيه وكتابه وتاريخه وإنجازاته الحضارية بقلم يفيض محبة ونبلا، واقتناعا تاما بنبوة سيدنا محمد، وانبهارا بعظمة الدين الذى أتى به، ورغبة عارمة فى أن يقتنع الناس جميعا أن محمدا رسول من رب العالمين. وهو يؤكد أن الإسلام لا يُفْهَم من غير المسلمين حق فهمه، ويدعو بكل قوة وإخلاص إلى احترام النبى الكريم واحترام الرسالة العظيمة التى اصطفته السماء لحمل عبئها فحملها وأداها على أتم ما يكون.
ومما قاله فى حقه صلى الله عليه وسلم: "في مكة أبصر النور طفل لم يمرّ ببال أمه ساعةَ ولادته أنه سيكون أحد أعظم الرجال فى العالم بل فى التاريخ، ولربما أعظمهم إطلاقًا"، "هنا عظمة محمد. لقد استطاع، خلال تلك الحقبة القصيرة من الزمن، أن يحدث شريعة خلقية وروحية واجتماعية لم يستطعها أحد فى التاريخ بمثل تلك السرعة المذهلة"، "هذا الرجل الذى ما عرف الهدوء ولا الراحة ولا الاستقرار استطاع، وسط ذلك الخضم الهائج، أن يرسى قواعد دولة، وأن يشرّع قوانين ويسنّ أنظمة، ويجود بالتفسير والاجتهادات. ولم ينس أنه أب وجد لأولاد وأحفاد، فلم يحرمهم عطفه وحنانه. فكان بشخصيته الفذة الغنية بالقيم والمعطيات والمؤهلات، المتعددة الأبعاد والجوانب، الفريدة بما أسبغ الله عليها من نعم وصفات وبما حباها من إمكانات، كان بذلك كله عالَمًا قائمًا بنفسه"، "تراثك يا ابن عبد الله ينبغى أن يُحْيَا، لا فى النفوس والقلوب فحسب، بل فى واقع الحياة فيما يعانى البشر من أزمات وما يعترضهم من عقبات. تراثك مدرسة يُلْقَى على منابرها كل يوم عظةٌ ودرسٌ. كل سؤال له عندك جواب. كل مشكلة مهما استعصت وتعقدت نجد لها فى آثارك حلاًّ". وفى تعقيبه على إحدى خطبه صلى الله عليه وسلم يناديه قائلا: "يا خير نبى ورسول، إن أنت لم تلق ربك طيب النفس، فمن من الناس يلقاه؟". وهو كثيرا ما يصلى على النبى ويسلم كما يصنع المسلمون الأتقياء.
ثم إنه لم يترك سانحة إلا وعبر فيها بكل قوة عن إعجابه العظيم بالكتاب الكريم الذى نزل على النبى من لدن ربه. يقول: "الواقع إن هذا الكتاب لَسِحْرٌ حلالٌ. بل إنه دنيا من سحر. و إنه لمن المستحيل على غير العربى أو على غير الملم باللغة العربية أن يدرك ما فيه من جمال. تلك اللغة التى أرادها الله قمة اللغات كان القرآن قمتها، فهو قمة القمم. وليس القرآن بلاغة كلمة وجمال لغة فحسب. إنما هو لحن أزلى بأنشودة خالدة فيها من الموسيقى ما يُطْرِب و يُدْنِى من السماء، فهو ليس فى حاجة إلى أن يصاغ فى لحن ليُنْشَد ويُرَتَّل.، فلحنه فى صُلْبه، فى تقاطيع صُوَره وهدهدة كلماته ورائع سجعه. وإذا قُدِّر له صوت شجىّ جميل يتلو بعضا من آياته فلا أعتقد عربيا مهما بلغ من الوقار بوسعه أن يتمالك عن إطلاق تعابير الإعجاب عالية معبرا بها عن طربه بل عن نشوته. وهذه الناحية من عظمة القرآن لَيَعْجِز غيرُ العربى أو غيرُ مالك ناصية العربية عن تقديرها واستيعابها"، "لم يكن النبى رسولاً وحَسْب يهدى الناس إلى الإيمان. إنما كان زعيمًا وقائد شعب، فعزم على أن يجعل من ذلك الشعب خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، وكان له ما أراد".
ويمضى الرجل الكريم فى دفاعه عن الإسلام مفندا ما يقوله أعداء ذلك الدين من أنه قد انتشر بالسيف، قائلا إن معاملة الإسلام لمخالفيه قد بلغت الذروة فى العدل والرحمة والإنصاف، ومذكرا بما فعله الصليبيون بالمسلمين من قتل وترويع، بل ما فعله بعض النصارى ضد بعض فى تاريخهم الطويل لمجرد الاختلاف فى المذهب، وهو ما أكد أن الإسلام لم يتورط فى شىء منه. كما يقف عند الجزية مؤكدا أنها أخف كثيرا جدا مما تفرضه الدول المنتصرة على الدول التى غلبتها، مع التنبيه إلى أن هذه الجزية ليست ضريبة الهزيمة، بل هى المقابل للخدمات التى تؤديها الدولة الإسلامية لرعاياها من غير المسلمين، كما أنها بديل عن الزكاة التى يدفعها المسلمون. كذلك نراه يؤكد، عن حق، أن الإسلام لم يشرع الرق بل وجده فعمل على إزالته إزالة تدريجية عن طريق التشريعات المختلفة التى تنتهز أى خطإ يقع فيه المسلم مهما كان بسيطا فتلزمه بعتق رقبة. أى أن الإسلام لم يشرع الرق بل شرع العتق، على خلاف ما يردد أعداؤه الحاقدون.
وفى موضع من الكتاب نسمع يقول بصوت المحبة والحكمة والوداد: "سيأتى يوم، ونرجوه قريبا، يردد فيه المسيحى العربى للمسلم العربى قول النبى: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، ونمضى جميعا فى طريق النصر، ولا يبقى فى الأمة العربية إلا بشر مؤمنون أكرمهم عند الله أتقاهم، يعملون بوصايا الله، الذى جعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا. والإسلام دين الأزمنة جميعا. وهو قد أُعِدّ لجميع الشعوب، فهو ليس للمسلمين فَحَسْب، ولا لعرب الجزيرة الذين عايشوا النبى وعاصروه فَحَسْب. وليس النبى نفسه، صلعم، نبى العرب والمسلمين فَحَسْب، بل هو نبى كل مؤمن بالله واليوم الآخر والنبيين والكتب المنزلة". وأخيرا لعله من المفيد أن أنقل هنا الكلمة النبيلة التى صدر بها الأستاذ سلهب كتابه البديع. قال: "هذا الكتاب أردتُه شمعة تضىء هيكل المحبة والقلوب. فنُورها، ولو شحيحا، خير من الظلام. عزائى، يوم أغيب، أنى فى هيكل المحبة والقلوب تركتُ أثرا".

(4)
"فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين"
سيرة وقحة تفترى على الرسول الكذب
بقلم د. إبراهيم عوض
هذا الكتاب يحمل على غلافه اسم خليل عبد الكريم، وهو محامٍ ظل إلى أوائل ثمانينات القرن الماضى مجهولا لا يعرفه أحد خارج دائرة الأقارب والمعارف والموكِّلين ومن إليهم، ثم شرعت بعض الصحف اليسارية تنشر له المقالات والأحاديث التى تلمز الإسلام من طَرْفٍ خَفِىٍّ، وإن زعم أنه يدافع فيها عن دين الله ويجلو وجهه الصحيح. ثم تطور الأمر فرأيناه يصدر الكتب التى تتناول الرسول والإسلام والصحابة تباعا بأسلوب كله حذلقة ماسخة وغرور وطنطنة، أسلوب يعتمد على اصطياد المفردات المعجمية التى لا يستعملها أحد حتى فى القديم، مع التفاصح بكثرة الجمل المترادفة التى لا تضيف جديدا من القول. ولست أعرف للرجل قبل ذلك أى إسهام فى دنيا الكتابة والتأليف.
فهل تكرر فى حقه ما يقوله العرب عن بعض الشعراء الذين نبغوا فجأة بعدما كبروا كالنابغة الذبيانى والنابغة الجعدى والنابغة الشيبانى، فصاروا ينظمون الشعر الرائع مرة واحدة دون أى تمهيد؟ لقد دفعنى هذا إلى الشك فى أن يكون هو صاحب هذه المؤلفات رغم ما حاوله، فى مقال له نشره منذ حوالى عشرة أعوام فى مجلة "أدب ونقد"، من إقناعى بأنه هو مؤلفها. خذ مثلا كلمة "هِنْدَوْز"، التى استعملها مرارا لخديجة رضى الله عنها دون أن يعرف وزنها، إذ يقيسها على كلمتى "نَشُور" و"فَرُوج" رغم أنهما على وزن "فَعُول" لا "فِعْلَوْل" كما ضبطت أنا الكلمة لا هو. وخذ أيضا عبارة "رهافة مِذْرَب محمد"، التى يوهم بها القراء أنه يثنى على فصاحته صلى الله عليه وسلم مع أن معظم اشتقاقات مادة "ذرب" تدل على سلاطة اللسان والبذاءة وما أشبه.
والكتاب، فضلا عن ذلك، يفيض بالغل ضد رسول الله عليه السلام، وإن طنطن صاحبه أنه "يقدم رؤية جديدة تزعم أنها غير مسبوقة لحل هذا اللغز الذى ملأ الدنيا وشغل الناس". يقصد بـ"هذا اللغز" نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذى يصفه فى صباه بـ"الولد المبروك"، ويقول عنه فى شبابه إن خديجة قد "التقطته" وقامت "بنشله ونكاحه" بعد أن "أرَّقها وطيَّر النوم من عينيها الاثنتين"، وإنه وافق على نكاحها بعدما "عصلج" فى البداية حتى "جف ريقها وحفيت قدماها وداخت السبع دوخات"، مما كانت نتيجته أنْ "رفع الراية البيضاء وسلَّم لها بطلبها ورضى أخيرا بنكاحها إياه"، كما يصفه فى نبوته بأنه "آكل الشعير" بنص عباراته الشديدة التهذيب!
والعجيب أنه يدور من ناحية أخرى فيقول إنه قد "صار لها عاشقا" لأنها "ألبسته الحرير، وأطعمته الخمير"، و"نقلته نقلة لم يحلم بها مجرد حلم من عَسِيف (أى أجير) يكدح من مكة إلى حباشة، ومن مدينة القداسة إلى الشام لقاء بَكْرٍ أو بَكْرَيْن، إلى واحد من السادة الغطاريف الذين يلبسون أغلى الثياب وأَرَقَّها، ويتلذذون بأشهى الأطعمة وأحلى الأشربة، ووكظته (أى دفعته) إلى التجربة (أى ثقفته ودربته كى تصنّع منه نبيا) ليرتع فيها على مهل ويمرح على ريث".
وهو يزعم أنها قد استعانت بورقة بن نوفل قريبها فى إعداده صلى الله عليه وسلم للدور الذى أرادا منه القيام به، فالتقطاه لـ"يصنفراه ويقلوظاه ويلمّعاه" لتصنيعه نبيا، طبقا للغة الكتاب المحترمة. وهو يدعى كذبا أن ورقة كان قسا لكنيسة مكة وما يجاروها حيث كانت هناك "أبرشية" كما يقول، وأن خديجة كانت نصرانية مثلما كان عدد كبير من قبيلتها أيضا نصارى، وأن ابن نوفل هو الذى عقد قرانها على محمد وألقى خطبة النكاح بوصفه كاهنا يمارس طقوس الزواج النصرانية، وأنه اشترط على محمد ألا يتزوج عليها لأن النصرانية لا تحل تعدد الزوجات ... إلى آخر ما قاله كذبا وتدليسا مما امتلخه من كتاب "قس ونبى" لرجل دين لبنانى اتخذ لنفسه لقبا يتخفى تحته هو "أبو موسى الحريرى"، إضافة إلى زعمه أن فتح عمرو بن العاص لبلادنا المحروسة هو استعمار عربى استيطانى أتت فى ركابه قبائل كثيرة دهست الصعيد.
والمقصود بتثقيف ورقة وخديجة لمحمد وإعدادهما إياه للنبوة فى الخمسة عشر عاما التى تفصل ما بين اقترانه بخديجة وبدء الدعوة الإسلامية هو قراءة التوراة والإنجيل عليه وشرحهما له، فهل تحتاج قراءة الكتاب المقدس وشرحه كل هاتيك الأعوام، وبخاصة إذا كان المتلقى هو محمدا، الذى يشبّههه الكتاب بالكمبيوتر فى الحفظ والاستيعاب والقابلية للبرمجة؟ ثم إن المؤلف يزعم أن خديجة، التى صنَّعت محمدا نبيا، كانت نصرانية. فلماذا يا ترى لم تَدَّعِ هى النبوة فتختصر الطريق والجهود والنفقات ما دام أهل الكتاب، كما نعرف، يؤمنون بوجود نساء نبيات مثل سارة زوجة إبراهيم، ومريم أخت هارون وموسى، وحنة أم يحيى؟ بل لماذا لم يقم ورقة نفسه بادعاء النبوة ما دام ادعاؤها سهلا إلى هذا الحد؟
ثم أين كانت كنيسة مكة يا ترى؟ الواقع أن أحدا قبل ذلك أو بعده لم يقل بمثل هذا السخف. بل إن مكة ذاتها، التى يزعم صاحب الكتاب أنها كانت تعج بالنصارى، لم يكن فيها منهم سوى حفنة ضئيلة (une infirme poignée) كما يقول المستشرق المتعصب هنرى لامنس ذاته فى كتابه: "L'Islam: Croyances et Institutions". أما الخطبة التى ألقاها ورقة عند عقد قران محمد وخديجة حسب الرواية التى اعتمد عليها ملفق الكتاب فها هى ذى، والكلام فيها موجه إلى أهل محمد: "قد رغبنا فى حبلكم وشرفكم، فاشهدوا علىَّ يا معشر قريش بأنى زوجت خديجة من محمد"، وهو ما رد عليه أبو طالب قائلا: "قد أحببتُ أن يَشْرَكَك عمها". فهل هذه خطبة طقوسية نصرانية؟ وهل يتم زواج كنسى دون إكليل؟ فأين ذلك الإكليل يا ترى؟ وهذا إن كان ورقة هو الذى ألقى خطبة عقد القران، إذ الروايات الأخرى تقول إن أباها أو أخاها أو عمها هو الذى ألقاها. كما كان لكل من والد خديجة وأخيها وجدها وأعمامها أكثر من زوجة، فكيف يوفق ملفق الكتاب بين هذا وبين زعمه بأن عددا كبيرا من أفراد قبيلتها كانوا نصارى؟
وإذا كانت خديجة هى التى صنَّعت محمدا وجعلته نبيا فكيف يفسر لنا صاحب الكتاب تأخر عدد من إخوتها فى الإيمان بنبوته، وموت بعضهم على الكفر؟ بل كيف استمر الوحى بعد موت ورقة فى أول الدعوة، وموت خديجة فى عام الحزن أواخر المرحلة المكية؟ وقبل ذلك كله ما هو السبب يا ترى فى أن يفكر ورقة وخديجة فى تصنيع نبى أصلا؟ الواقع أن الكتاب لا يقدم على هذا السؤال المحورى الخطير أى جواب، وهو ما يدل على أن الأمر كله عبث فى عبث، ومكايدة رخيصة يظن بها بعض الناس أنهم يستطيعون النيل من عظمة رسول الله، الذى صنعه ربه على عينه. ثم هل يصح أن يقال عن النبى الكريم الذى حول مسار الحضارة البشرية هذا التحويل العظيم إنه صناعة بشرية؟
هذا، وبإمكان القراء أن يرجعوا إلى كتابى: "لكن محمدا لا بواكى له"، الذى رد بالتفصيل على كل سخافات الكتاب الذى نحن بصدده، ولم يترك فيه شاردة ولا واردة إلا نسفها فى الجو نسفا. والكتاب متاح على المشباك (النت) لمن يشاء تنزيله مجانا.


(5)
أستاذ مصرى يهدم السيرة النبوبة هدما
وينشئ سيرة جديدة لا علاقة لها بالتاريخ
د. إبراهيم عوض
للدكتور محمود على مراد، الذى كان يعمل أستاذا جامعيا بسويسرا نحو عشرين عاما، ثم تُوُفِّىَ منذ عدة سنوات، دراسة بعنوان "La Biographie du Prophète d'Ibn Ishāq\ Ibn Hishām (Sīra)- Période Mekkoise: Analyse Critique du Texte" (سيرة الرسول لابن إسحاق/ ابن هشام- الفترة المكية: تحليل نقدى للنص) حصل بها على درجة الدكتورية من جامعة السوربون الجديدة (باريس 3) عام 96- 1997م، وتشغل من الصفحات نحو أربعمائة وخمسين. وكان قد أرسل لى من سويسرا نسخة من الرسالة فى ديسمبر 1998م، وأرسل أيضا خطابا ينبئنى فيه بأنه لو نشر هذا الذى كتبه عن السيرة لكان له وقع القنبلة النووية، وهو ما حدا بى إلى أن أدرس الرسالة المذكورة فوجدتها تعجّ بالأخطاء العلمية والفساد المنهجى، وكانت النتيجة أن أصدرتُ كتابا بعد ذلك بوقتٍ جِدِّ قصيرٍ عنوانه: "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية- خطاب مفتوح للدكتور محمود على مراد فى الدفاع عن سيرة ابن إسحاق" بينتُ فيه بالتفصيل ما فى الرسالة من انحراف عن المنهج واضطراب فى الرؤية وتخبط فى النتائج، إذ لم يستند فى أى منها إلى غير أوهامه وتخبطاته، ولم يعتمد لا على الحديث النبوى ولا على كتب السيرة ولا على كتب التاريخ لأنها ليست أهلا للثقة، بل اعتمد على القرآن وحده حسبما يقول دون أن يستعين على التعامل معه إلا بفهمه المباشر، وهو فهم مزعزع أوقعه فى كثير من الأخطاء الفادحة. وللعلم فإن كتابى فى الرد على د. مراد متاح على المشباك (الإنترنت) لمن يريد من القراء.
وتتلخص آراء د. مراد فى أن ابن إسحاق قد خضع، وهو يكتب السيرة، تحت ضغط أهوائه، إذ ألفها بأمر من الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور، فكان حريصا على إرضائه من خلال رسم صورة وردية لبنى هاشم وبنى المطلب، وتشويه خصومهم الأمويين. كما انحاز فيها إلى أهل المدينة، الذين كان واحدا منهم، ضد المكيين الأبالسة، وأساء إلى الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل لأن فتح فارس قد تم فى عهدهم. يريد أن يقول إنه فارسى يتعصب لفارس ويكره الإسلام. أستغفر الله! كذلك زعم د. مراد أنه لا عبد المطلب ولا أبو طالب كانا سيدى قومهما، وأن أبا طالب وبنى هاشم لم يقوموا بحماية النبى عليه السلام بل كانوا إلبا عليه مع الكفار، وأنهم هم المقصودون بـ"أصحاب الأخدود" فى سورة "البروج"، وأن زعيمهم فى ذلك هو عم الرسول الآخر، الذى لُقِّب بـ"أبى لهب" لهذا السبب.
كما نراه ينكر فترة الاستخفاء فى بداية الدعوة لأن الرسول لم يكن بحاجة إلى ذلك، إذ كان الله يحميه فى كل خطوة يخطوها، فكان الكفار يهابونه ويرهبونه لما يحيط به من جلال الوحى والاتصال بالسماء حتى لقد كان يبدو لهم سوبرمانا (Surhumain). وبالمثل يؤكد الدكتور أن المسلمين لم يهاجروا إلى الحبشة، بل نفاهم إليها القرشيون وبنو هاشم وبنو المطلب بعد الاتفاق مع بعض السلطات المحلية فى بلاد النجاشى على أن يوضعوا فى معسكرات اعتقال يسامون فيها صنوف العذاب. أما قصة جعفر بن أبى طالب ومثوله هو وزملائه أمام النجاشى وبطارقته فلا أساس لها من الصحة، بل هى جزء من خطة ابن إسحاق لتبييض صيحفة الهاشميين، الذين كان جعفر واحدا منهم.
ومما يكذبه د. مراد أيضا رحلة النبى إلى الطائف، إذ لم يكن النبى ليغامر بتعريض نفيه طوال الطريق من مكة إلى هناك لمؤامرات الكفار، الذين كانوا يحاولون اغتياله. وبالمثل لا صحة عنده لما يسمى: بيعتى العقبة، اللتين يرى أن ابن إسحاق قد حاول من خلالهما تمجيد اليثربيين. وإضافةً إلى ذلك نراه يَدَّعِى أن الأنصار ليسوا هم مسلمى المدينة، بل كل من نصروا الإسلام. كذلك يزعم أن يثرب قد شهدت حوادث تعذيب للمسلمين لا تقل عما قاسَوْه فى مكة... إلخ.
والحق أن الرد على كل هذه الترهات سهل غاية السهولة، فلم يتهم أحد من علماء المسلمين ولا من المستشرقين ابن إسحاق فى إسلامه أو أمانته، فكيف يشذ د. مراد عنهم جميعا، ودون أدنى دليل يمكن الاعتماد عليه سوى الاتهام المرسل غير المتبصر؟ كما أن القول بممالأته للعباسيين يكذّبه أنه مثلا قد ذكر أن أبا لهب وأبا طالب الهاشميين قد ماتا كافرين، وكان يستطيع أن يقول بإسلامهما ما دام لا يبالى بحق أوصدق بقدر مبالاته بمنافقة العباسيين. وكذلك نراه يذكر تأخر إسلام العباس إلى فتح مكة، وكان بإمكانه، ما دام لا يبغى الحق بل يمالئ القوم، أن يجعله ممن دخلوا فى الإسلام من أول يوم. وبالإضافة إلى ذلك كان يمكنه ألا يذكر إصهار النبى إلى أبى سفيان الأموى ولا اختياره إياه لتحطيم بعض الأوثان غِبَّ فتح مكة، ولا اتخاذه معاوية ابنه كاتبا للوحى. ثم إن ما قاله ابن إسحاق عن العباسيين والأمويين قد قاله عروة بن الزبير وابن شهاب الزهرى، وكانا يعيشان فى العصر الأموى، أى قبل أن يكون هناك عباسيون أصلا، كما قاله أيضا ابن عبد البر وابن حزم الأندلسيان، وكانت الأندلس تحت سلطان بنى أمية فى ذلك الوقت. فمن غير الممكن الزعم بأن هؤلاء العلماء الأربعة كانوا يمالئون العباسيين كما ادعى د. مراد على ابن إسحاق. وبالنسبة إلى دعواه بأن ابن إسحاق قد عمل على تشويه صورة أبى بكر وعمر وعثمان فيكفى فى تفنيدها أن نرجع إلى ما كتبه ذلك العالم الجليل عنهم، إذ لم يحدث أن أساء إلى أى منهم فى شىء، بل أورد فضائلهم ونوه بإنجازاتهم العظيمة فى موضوعية راقية.
أما القول بأن النبى لم يكن بحاجة إلى حماية أبى طالب وبنى هاشم له بحجة أن الله كان يحميه بنفسه فهو قول ساذج، إذ إن الله سبحانه لا ينزل من السماء ليحمى أحدا حماية مباشرة، بل يهيئ لذلك الأسباب. الحق أن فى كلام د. مراد تكذيبا للتاريخ الصحيح دون أدنى مسوغ. والقرآن مملوء بالكلام عن محاولات الكفار إيذاء النبى طوال الوقت. وفى سورة "الأنفال" حديث واضح عن مكرهم ليحبسوه أو يخرجوه أو يقتلوه. فكيف يزعم زاعم أن المهابة التى كانت تحيط بالنبى بسبب ما ينزل عليه من وحى قد منعت الكفار من التفكير فى أذاه أو قتله؟ ثم كيف يستقيم هذا مع قول د. مراد نفسه إن النبى عليه السلام لم يكن ليفكر فى الذهاب إلى الطائف خشية تعريض حياته للخطر على أيدى الكفار، الذين كانوا يتربصون به ويريدون قتله؟ وعلى نفس المنوال يدير د. مراد ظهره للمعنى الحقيقى للقب "أبى لهب"، وهو أن عم النبى المذكور كان وجهه يتلهب حمرة، فلُقِّب بذلك. وليس من المعقول ولا من القبول أن يأتى واحد الآن فيتوهم الأوهام ثم يريد منا أن نأخذ بها ونترك من أجلها التاريخ الصحيح!
لقد كَذَّب المؤلفُ ابنَ إسحاق ونبذ كتب الحديث والسيرة والتاريخ، ثم استبدل بذلك كله أوهاما واختلاقات ما أنزل الله بها من سلطان. أما بالنسبة لاعتماده على القرآن وحده فمعروف أن كتاب الله ينتهج الإيجاز سبيلا، وبخاصة فى رواية الأحداث التاريخية، حتى إنه قلما يذكر أسماء الأشخاص والمواضع، فضلا عن أنه لا يورد تاريخا لأى شىء، فكيف يمكن الاقتصار على النص القرآنى الكريم فى كتابة سيرة النبى عليه السلام؟ لقد استعان المفسرون، الذين كانوا حديثى عهد بالقرآن، بأسباب النزول، فكيف يجرؤ د. مراد بعد كل هاتيك القرون على القول بأنه ليس فى حاجة إلى شىء من ذلك؟ الواقع أن هذا عبث يحاول اتخاذ السَّمْت العلمى، وما هو من العلم فى قُلٍّ أو كُُثْرٍ.