القـــدس والعرائــش
مقارنة بين موقفين من ضياع مدينتين


جاء في رواية مسيحية قديمة جرت أحداثها قبل الهجرة، وصف دقيق للاحتلال الفارسي الساساني للقدس. فقد وصف الراهب أنبا أسطراط من المقيمين في دير القديس مارسابا. "خراب القدس وأخذ الصليب وسيبي الرعية" على يد الفرس "الأعداء الذين سلطهم الله على المسيحيين" حدث ذلك في السنة الرابعة من حكم هرقل. ثم بعد عشرين يوما "دخلوا المدينة فلما دخلوا كل من كانوا يلقونه كانوا يقتلوه" ووصف الراهب فرح اليهود الشديد بما حدث لأنهم كانوا باغضين للنصارى ومرتبة اليهود كانت عظيمة عند الفرس وأبناء النصارى اختاروا أن يهلكوا ولا يكون لهم مع اليهود نصيب ولا معاش واليهود كانوا يشترون النصارى في البركة بالدراهم ويذبحونهم قتل الخراف". وبعد ستة عشر سنة من خراب القدس وبعد عشرين سنة من ولاية هرقل أعيد الصليب إلى القدس بعد انتصار بيزنطه على الفرس.

بقيت القدس ساسانية من عام 614م إلى عام 8 هـ/629م، أي من العام الرابع للبعثة إلى العام الثامن للهجرة. ويتبين أن البيزنطيين لم يكونوا جيرانا للعرب والمسلمين خلال هذه الفترة الطويلة إلى أشهر قليلة قبل فتح مكة. يثير هذا التساؤل حول هوية خصوم العرب في مؤته. وبعد أربعة أعوام فقط من جلاء الفرس وعودة البيزنطيين وإعادة الصليب إلى القدس كانت جيوش العر المسلمين تجوب بلاد الشام محررة القدس ودمشق. أي أن الحكم البيزنطي لم يستقر في بلاد الشام منذ بداية حكم هرقل أو منذ السنة الرابعة للبعثة. وأصبحت القدس عربية مسلمة عام 17 هـ/638م ولم يضطهد أحد ولم يقتل إنسان.

وبعد استقرار الحكم الإسلامي في بلاد الشام بسبعين سنة كان المسلمون قد مدوا سلطانهم غربا إلى المحيط الأطلسي وامتدوا شرقا إلى الصين والهند. وقطعوا بحر الزقاق، مضيق جبل طارق، إلى إسبانيا وتوغلوا في فرنسا ووصلوا ما يعرف الآن بسويسرا وإيطاليا. ولكن عدوهم التقليدي بقي مرابطا على بعد خمسمائة كيلومتر إلى الشمال من عاصمة الأمويين دمشق. وبقيت مدن الشمال مهددة رغم إفامة الثغور ثم العواصم.

وينبغي الإشارة إلى ظاهرتين مهمتين للتوسع الإسرمي. إذ لم يقض المسلمون في أي بلد دخلوها على دولة وطنية باستثناء الدولة الساسانية. وفي كل بلد عربي كانوا محررين من مستعمر. وأخرجوا الغوط الجرمان. أما الظاهرة الثانية فهي الأهم. فقد استمر وجود المسيحيين واليهود في البلاد المفتوحة على حاله ولم يغادر رجال الدين المسيحي البلاد فرار كما فعلواو زمن الاحتلال الساساني ولم يقاس أحد من اضطهاد أو سوء معاملة. وخير دليل على ذلك هو استمرار وجودهم في البلاد. وجاز للمسيحيين في بلادنا وحدها أن يفتخروا بأنهم أتباع الديانة الوحيدين الذين استمر وجودهم رغم انتشار دين جديد. وقد أبيد أتباع الديانات الأقدم في البلاد التي انتشر فيها دين جديد غير الإسلام. وإذا افتخر المسيحيون العرب بذلك فإن للمسلمين العرب أن يفتخروا بهذا البرهان القوي على عدالتهم. وإذا ادعى أحد المسيحيين شاكيا بأنه كان مواطنا من الدرجة الثانية فكلنا نشكو شكوى مماثلة وكلنا كنا مواطنين من الدرجة الثانية.

وتعرض البيزنطي لتهديد عربي شديد في عهد المعتصم، كان أقله أهمية احتلال المعتصم لعمورية. فقد عادت عمورية بيزنطية بعد عامين من احتلال المعتصم لها بينما استمر الوجود العربي في صقيلية وكريت. وقلقت بيونطة من انتصارات العرب في صقيلية وجنوب إيطاليا واحتلالهم كريت أكثر من قلقها من قوة الخلافة في بغداد.

وانتقل البيزنطيون إلى الهجوم والتوسع في بلاد الشام خلال النصف الثاني من
القرن العاشر ميلادي (4 هـ) فقد انتصروا على سيف الدولة واحتلوا عاصمته حلب،
كما احتلوا جزيرة كريت بعد أن استمر الوجود العربي الإسلامي منها قرنا وثلث
(282-961) واحتل البيزنطيون أنطاكيه في 28/10/996 أي زمن وصول

الفاطميين إلى بلاد الشام في عهد المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي. ولم تنجح محاولات الفاطميين لحماية البلاد من البيزنطيين الذين أرقوا حمص وأخذوا بعلبك وأخضعوا بيروت وصيدا وعكا. ودخل الإمبراطور البيزنطي طبريا ووقف على جبل طابور وهدد القدس.

تغيرت الصورة بعد قرن. فقد هدد النورمان الدول القائمة في الغرب على نطاق واسع واحتلوا مناطق كانت خاضعة للعرب والبيزنطيين في جنوب إيطاليا وصقيلية ومواقع على الساحل الإفريقي الشمالي. أقدم جيش نورماني بقيادة وليم الفاتح على احتلال إنجلترا عام 1066م. واستخدم البيزنطيون مرتزقة نورمان في جيوشهم لمحاربة المسلمين ولكن السلاجقة والمرابطين قلبوا الموازين. فقد انتصر ألب أرسلان السلجوقي التركي على جيش بيزنطة من مرتزقة نورمان وفرنجة وأتراك. واستعاد السلاجقة مدن أنطاكية واللاذقية بعد أن كانت خاضعة لبيزنطة أكثر من قرن، كذلك عمل جيش مسلم تألف من بربر على إنقاذ المسلمين في الأندلس في معركة الزلاقة عام 469/1086 ووحد المسلمين تحت راية السلطان المرابط أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي أسس مدينة مراكش عاصمة له ومدينة تمبكتو في مالي عام 493/1100 على نهر النيجر "التي لم تدنسها عبادة الأوثان قط ولا سجد على أديمها لغير الرحمن".

وساءت الأحوال أثناء ذلك في المشرق العربي. فقد وصل الإفرنج الصليبيون
إلى بلاد الشام في صيف 490/1097 واحتلوا أنطاكية في الثالث من حزيران
1098 بعد حصار طويل استمر أكثر من نصف عام، ثم واصل الإفرنج تقديمهم
جنوبا على الطريق الساحلي إلى القدس ولكن عجزوا عن أخذ طرابلس ووصلت
الحملة إلى القدس في السابع من حزيران 491/1099 وأخذوها بعد حصار استمر
أربعين يوما ضحى الجمعة 22/23 شعبان 492/ منتصف تموز 1099. ودافع
الجند السوداني ببسالة عن المدينة. واستمر القتال في الشوارع أسبوعا"، فلما سمع
أهل بغداد هذا الأمر الفظيع هالهم وتباكوا. ونظم أبو يعد الهروي كلاما قرئ في
الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس ..." وعلق الناس فقالوا "واختلف السلاطين
فتمكن الإفرنج من البلاد" وفشلت محاولات الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي
لاستعادة القدس، وكان يوسف بن تاشفين أثناء ذلك يقوم بعبوره الرابع إلى الأندلس

ليعود بعدها وينشغل ببناء تمبكتو بعد عام من ضياع القدس، أي أن النكسات الكبرى في المشرق قابلتها انتصارات في المغرب رغم أن العدو واحد.

فلماذا هذا التراجع الكبير في بلاد الشام رغم الانتصارات في الأندلس وقد يقال إن الأندلس والمغرب بعيدان عن بلاد الشام لذا يصعب إرسال المدد من مراكش إلى القدس، ولكن المسافة لم تكن سببا معقولا، فإن عددا من أمراء الإفرنج الذين برزوا في حرب المسلمين في بلاد الشام كانوا قد برزوا في حرب الأندلس فقد قاومت طرابلس الشام عشر سنوات محاولات صنجيل كونت تولوز الذي في حروبه الأندلسية. كذلك ساهم في الحربين دوق اللورين وشقيقه بلدوين، واشترك في الحرب عدد من نبلاء النورمان بينهم زوج ابنة وليم الفاتح ووالد ستتيفن ملك الإنجليز وبو همند ابن روبرت ملك صقلية النورماندي وشقيق روجر مصطحبا ابن أخيه طنكري، وروبرت كونت بروفسال ومعه محاربو القوط والجاكسون، أي أنهم جميعا تركوا قتال العرب في الأندلس وصقلية وجاؤوا لحربهم في فلسطين قاطعين مسافات لا تقل عن المسافة من المغرب إلى فلسطين.

وظهر في المشرق مفهوم جديد للقوة العسكرية، فقد اعتمد حكام أغراب على قوة عسكرية أفرادها غرباء مرتزقة أو مماليك وكاد أن ينتهي عهد الجنود الوطنيين والقبليين، وازدادت الهوة بين الحاكم والمحكوم اتساعا، ولم يعد غريبا أن يجهل الحاكم وجنده وأركان دولته لغة المواطنين الذين أطلقوا أحيانا على الجند اسم الخرس لأن كلامهم غير مفهوم. ودفع المواطنون الضرائب مكرهين بعد أن حملهم الحاكم على الاقتناع بأنهم رعية. ولم يبال الرعايا بمصير الحاكم ولم تقلقهم هزائمه أو انتصراته. ولم تعد قوة الحاكم مرتبطة بمساحة البلد أو عدد ساكنه بل على مقدار ما يجبيه الحاكم وينفقه على شراء الجنود والمماليك. لذا صمدت طرابلس وهي دولة مدينة عشر سنوات بينما سقطت المدن التابعة للفاطميين بسهولة، واستطاع حاكم صغير مثل المملوك طغتكين أن يحمي دمشق ورجاه الفاطمي أن يحمي صور، وشاهد الرعايا ما يحدث فاكتفوا بالمشاهدة والدعاء والهجرة.

وبقيت القدس بيد الإفرنج تسعين سنة (15/7/1099-2/10/1187، 22 شعبان 492/27 رجب 583) أي حوالي 91 سنة قمرية أو 23200 يوما. وهب أكثر حكام المشرق لمساعدة صلاح الدين رغم مشاعر العداء والشك في نفوسهم ومخاوفهم من أطماعه، ولكن الواجب الديني علا على كل المشاعر، وحرم صلاح الدين نفسه من مساعدة سلطان المغرب القوي يعقوب المنصور الموحدي (1184-1199) لأن عامل صلاح الدين في طرابلس الغرب قراقوش الأرمني أيد ثورة ابن غانية. وانتصر الموحدي على ابن غانية وقراقوش عام معركة حطين، لذا لم يجد سفير صلاح الدين أذنا مصغية لاستغاثاته في مراكش وكل ما ناله "جنود من دعاء" من شيوخ الموحدين.

وتعرضت القدس للتهديد والاحتلال طوال الخمسين سنة التالية لتحريرها، فقد هددها الإفرنج في عهد صلاح الدين واقترب منها الملك النورماني ريكاردوس ملك إنجلترا ولكن أمكن صده، وتعرضت للخطر ثانية عام 618/1219 عندما احتل الإفرنج دمياط، وبذل المسلمون "بيت المقدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتحه صلاح الدين من الساحل ما عدا الكرك والشوبك ليسلموا دمياط ويرحلوا عن الديار المصرية، فلم يرضوا وطلبوا .. واضطر المسلمون إلى قتالهم لما يريده الله تعالى من النصرة عليهم وسلامة القدس والبلاد الساحلية منهم " وخاف صاحب دمشق الملك المعظم بن العادل على القدس فأمر بخراب أسوارها عام 616، وتم للمسلمين تحرير دمياط في 19 رجب 618 لعد احتلال دام ثلاثة سنين وشهورا.

وتعرضت القدس للخطر بعد ست سنوات من تحرير دمياط. وذكر ابن واصل أنه لما "تأكدت الوحشة بين الملك المعظم وأخويه أرسل الأمير فخر الدين بن صدر الدين شيخ الشيوخ إلى الإمبراطور فردريك صاحب ألمانيا وصقلية يطلب منه القدوم إلى عكا ووعده أن يعطيه البيت المقدس وبعض الفتوح الناصرية، وقصد بذلك إشغال أخيه الملك المعظم". وقدوم فردريك إلى عكا في صيف 625/1228.

وفردريك الثاني هو إمبراطور ألمانيا وملك صقلية. وهو ابن الإمبراطور هنري السادس وأمه ابنة روجر الثاني النورماندي ملك صقلية. تولى بعد وفاة الإمبراطور أوتو الرابع السكوني ابن أخت يكاردوس قلب الأسد، أي أن النسب مترابط يشدهم إلى غزو فلسطين ودار الإسلام. وتزوج فرديريك ابنة يوحنا الذي قاد حملة دمياط. ومع ذلك يردد المؤرخون العرب أنه كان محبا للإسلام والمسلمين وأن البابا قال عنه إنه قرصان محمدي. وليس فارسا صليبيا رغم أنه جاء إلى فلسطين إيفاء لنذر صليبي.

ورافق فردريك قوة فرسان صغيرة أكثرها ألماني. وينتمي كثير منهم إلى قوة
فرسان التيوتون التي أسسها فرديريك لتغزو الأقطار السلاقية لاسيما بروسيا التي
حولوها من سلافي بروسي إلى ألماني وجعلوا كلمة بروسيا رمزا للعنجهية الألمانية. ووفى الكامل بعهده وسلمه القدس وممرا إلى عكا. ودخل الإمبرطور القدس يوم السبت 17 آذار 1229.

وشرع الفرنج في عمارة صيدا. وكانت مناصقة وسورها خرابا فعمرها واستولوا عليها وأزالوا عنها حكم المسلمين كما يروي ابن واصل الذي رافق الأحداث. وكان هذا خرقا للاتفاق السابق وحدث قبيل توقيع الاتفاق الجديد. واشترط الكامل أن يبقى سور القدس خرابا لا يجدد "وأن لا يكون للفرنج شيء من ظاهره البتة بل يكون كل قراياه للمسلمين ... عليها وال مقامه بالبيرة وأن الحرم بما حواه يكون بأيدي المسلمين وشعار المسلمين فيه ظاهر ويتولاه قوام المسلمين ..."

ونادى منادي السلطان بخروج المسلمين من القدس. ووقع في أهل القدس "الضجيج البكاء وعظم ذلك على المسلمين وخزنوا الخروج القدس من أيديهم وأنكروا على الكامل هذا الفعل واستشنعوه، إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفار أعظم مآثر عمه". وهجر المدينة المسلمون والمسيحيون الشرقيون فغدت شبه مهجورة. وشاهد بعض الفضوليون فردريك وهو يضع التاج على رأسه في كنيسة القيامة بغياب كامل للقساوسة وقدروا ثمنه لو كان عبدا يباع في سوق الرقيق بمائتي درهم.

وشاعت الأخبار بتسليم القدس والكامل محاصر لابن أخيه الناصر داود صاحب دمشق. فقامت قيامة الناس. ووصل رسول صاحب أربل يشير بأن يسير الكامل "رسولا إلى الخليفة كي ينعي البيت المقدس والعذر عنه ... فجهز فخر الدين بن شيخ الشيوخ رسولا للخليفة"، وفخر الدين هو السقير المحرض للإمبراطور وهو الذي وقع معاهدة التسليم. واشتد البكاء "وعظم الصراخ وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الآذان، فعظم على أهل الإسلام هذا البلاء واشتد الإنكار وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار ... وقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام واشتدت العظايم بحيث أقيمت المآتم".

واستغل صاحب دمشق المحاصر هذه الواقعة لينال عطف الناس وتأييدهم له
ضد عمه. وتقدم الناصر إلى الشيوخ شمس الدين يوسف سبط الشيخ جمال الدين
بن الجوزي الواعظ وكان له قبول عند الناس في الوعظ، في أن يجلس في جامع دمشق

للوعظ ويذكر فضائل القدس وما ورد فيه من الأخبار والآثار وأن يحزن الناس ويذكر ما في تسليمه إلى الكفار من الصغار للمسلمين والعار. وقصد بذلك تغيير الناس من عمه ليناصحوه في قتاله. فجلس شمس الدين للوعظ كما أمره وحضر الناس لاستماع وعظه وكان يوما مشهودا وعلا يومئذ ضجيج الناس وبكاؤهم وعويلهم. وحضرت أنا - ابن واصل- هذا المجلس ومما سمعته يومئذ قصيدة تائية وازن بها قصيدة دعبل الخزاعي :

مدارس آيات خلت من تــــلاوة ومنزل وحي مقفر العرصـــــات

على قبة المعراج والصخرة التي تفاخر ما في الأرض من صخرات

وروى شمس الدين سبط ابن الجوزي الحادثة بشكل مماثل فقال:

"وأشار الملك الناصر دواد بأن أجلس بجامع دمشق وأذكر ما جرى على بيت المقدس فما أمكنني مخالفته. فرأيت من جملة الديانة والحمية للإسلام موافقته. فجلست بجامع دمشق وحضر الناصر دواد على باب مشهد علي وكان يوما مشهودا لم يتخلف من أهل دمشق أحد. وكان من جملة الكلام : انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين يا وحشة المجاورين كم كانت لهم في تلك الأماكن من ركعة. ولو تقطعت قلوبهم أسفا لما شفت. أحسن الله عزاء المؤمنين. يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة، تسكي العبرات لمثلها وتنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات".

وفوجئ الكامل بوفد من مسلمي صقلية يشكو له ما فعله صديقه بهم. فقد قصده الحاج أحمد بن أبي القاسم المعروف بالرمان من مشايخ غلو من جبال صقلية. وذكر له أن الجزيرة كلها بيد الإمبراطور إلا الجبال التي اعتصم بها المسلمون. وقد غدر الإمبراطور بأصحاب الجبال الأحد عشر فنقل مائة وسبعين ألفا إلى البر الكبير "وأخرجهم من أوطانهم وأخذ أموالهم وقتل من الشطار مثلهم" وخلت هذه الجبال من المسلمين. وطلب الحاج أحمد من السلطان الكامل التوسع للسماح لهم بالهجرة إلى مصر أو غيرها بأمان. وتحدث كثيرا عن العذاب الذي أوقعه الإمبراطور بزعمائهم.

وقام بتحرير القدس ثانية ثم تسليمها مرة أخرى الملك الناصر داود. فقد
حاصر الناصر الفرنج في القدس عام 637/1239 وصابر حتى سلمت إليه بالأمان.
فهدم القلعة وبرج داود واستولى على القدس الشريف وطهره من الفرنج
ومضى من كان فيه إلى بلادهم. واتفق عند هذا الفتح وصول رسول الخليفة وصحبته جمال الدين بن مطروح. ونظم جمال الدين قصيدة في مدح الناصر داود ذكر فيها اشتراكه مع عمه صلاح الدين بلقب الناصر.

المسـجــد الأقصـى لــه عـــــادة سارت فصارت مثلا ســــائــدا

إذا غــدا بالكفــر مستوطنـــــا أن يبعـــــث الله لـــه ناصـــــرا

فنــــــــاصر طهـــــــــــره أولا وناصــــر طهـــــــره أخـــــــرا

وما زلنا وأواخر القرن العشرين نأمل ببروز هذا الناصر إنه قادر على كل شيء ولكن ناصر الذي حرر القدس سلمها ثانية للإفرنج بدون قتال عام 641/1243. سلمها "على أن يكون الحرم بما فيه من المزارات لهم، وعلى تسليم طبرية وعسقلان وكوكب ... فيتسلم الإفرنج ذاك كله، وعمروا قلعتي طبرية وعسقلان وحصنوهما ... ودخل الفرنج القدس وتسلموا الصخرة المقدسة والأقصى وما في الحرم الشريف من مزارات". وعدهم الناصر صاحب الكرك والصالح صاحب دمشق والمنصور صاحب حمص بجزء من مصر عندما يتم التغلب على الملك الصالح نجم الدين. ولكن عسكر نجم الدين بمساعدة الخوارزميين هزم الفرنج ومن حالفهم "وأخدت الفرنج سيوف المسلمين فأفنوهم قتلا وسبيا ولم يفلت منهم إلا الشارد والنادر ... ووصل أسرى الفرنج راكبين الجمال والمقدمون على خيولهم" وأبى الخليفة المستعصم، آخر بني العباس في بغداد، أن يؤيد ملوك الأيوبيين في حلفهم مع الإفرنج. وروى المنصور صاحب حمص "أوقع الله في قبي أنا لا ننتصر لا نتصرانا بالكفار على المسلمين".

ووصف ابن واصل تسليم القدس للفرنج عندما مر بها في طريقه إلى مصر فقال"وسافرت في أواخر هذه السنة (651 - ربيع 1244) إلى الديار المصرية. ودخلت بيت المقدس ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة وعليه قناني الخمر برسم القربان. ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرس معلق. وأبطل بالحرم الشريف الآذان والإقامة وأعلن فيه الكفر. وقدم الملك الناصر داود القدس في ذلك اليوم الذي زرت فيه المقدس، ونزل عزيي القدس فلم أجتمع به خفية أن يصدني عن الوصول إلى الديار المصرية". وكان ابن واصل محبا مخلصا للناصر لولا هذا الحادث الرهيب. ولكن الاحتلال الجديد لم يدم أكثر من سنة. إذ اجتاح الخوارزميون القدس وذبحوا الفرنج عن بكرة أبيهم.

هكذا كان الحكام. قال المؤرخون عنهم "ولا يستغرب في حقهم أن يهدموا أساس الشريعة ليبنوا منارة رياستهم. فشراع أفئدتهم تلعب بها رياح الشهوات فتلقي سفينة قلوبهم على بحر القنوط من رحمة الله". وسيتبين أن ما فعله الملوك الأيوبيون في المشرق مماثل لما فعله السادة السعديون في المغرب عندما تخلوا عن مدينة العارئش.

فقد أصدر السلطان المولى إسماعيل العلوي مرسوما غريبا موجها إلى أهل تمبكتو في مالي. وتمبكتو مدينة أسسها المرابطون بعد سنة من ضياع القدس الأول. أما المرسوم السلطاني فقد صدر بعد ذلك بستة قرون - في 22 ربيع أول 1103 الموافق الثالث عشر من كانون الأول 1691، وينص على منع "لبس السباط الأسود" ويأمر بلبس السباط الأصفر "ما قيل من أن الناس اتخدوا النعال السود منذ استولى النصارى على العرائش على يد المأمون السعدي" حدادا على المدينة. واستمر الحداد ثمانين عاما.

وكانت العارئش مدينة خربة من 668/1269 - 910/1473، حينما استولى عليها البرتغاليون وعمروها. فأخرجهم المنصور السعدي عام 986/1578 بعد نصره في المخازن. وأقدم ابنه المأمون الشيخ على تسليمها للإسبان في 4 رمضان 1019/20 تشرين الثاني 1610، مثيرا بذلك فتنة وتساؤلات خطيرة. فقد أراد المأمون من الفقهاء أن يفتوا بأن فداء المسلمين لا سيما أولاد أمير المؤمنين من يد العدو الكافر يجيز إعطاء الكافر بلدا من بلاد المسلمين. ورفض الفقهاء بأشكال مختلفة إصدار الفتوى باستثناء محمد بن قاسم بن القاضي. واختفى إمام القرويين وخطيبها المفتي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد المقري (1041/1631) صاحب "نفح الطيب" وهاجر إلى المشرق 28 رمضان 1027. ومات في مصر رجب 1041.

ورفض الشيخ أبو عبد الله بن الشيخ أبي الحسن على الحاج الأغصاوي من بلدة غصاوة، أن يفتي لأمير المؤنين بما أراد. وقال الشيخ الأغصاوي للسلطان "لو حمل أهل الغرب خراجا يدفعونه للنصارى في فكاك المأسورين لكان أهون". فخالفه السلطان بأنه لابد من بيع المدائن المذكورة. فصرح الأغصاوي بأن المأمون "تنقض بيعته بهذا السبب". فأنفذ السلطان إليه قوة أتت به وقتل صبرا وضربا وشهيدا "وقبره شهير بطالعة فاس يزار ويتبرك به". وفر عدد من العلماء إلى البادية واختفى آخرون.

وكان ممن أفتى يجواز تسليم العرائش، الفقيه محمد بن قاسم ابن القاضي واختفى بعد الحادثة خوفا ثم ظهر. وهجم عليه العامة في الجامع "عند العشاء يوم الإثنين 21 حجة 1140/ وقتلوه ضربا. نقموا عليه وحقدوا بسبب تعلقه "بأغراض فاسدة وأمور واهية لم يقبلها أحد".

وبدأ السلطان الشيخ المأمون بن المنصور جولة تعسفية في المناطق الشمالية. واستولى على تطاوين وأخرج منها "كبيرها المقدم المجاهد أبا العباس أحمد النقيس". ولم يزل يجول ويعسف أهلها إلى أن ملته القلوب وتمالا أشياخ على قتله لما رأوا من انحلال عقيدته ورقة ديانته وتمليكه ثغر الإسلام للكفار، ففقتك به المقدم أبو الليف في وسط محلته بموضع يعرف بفج الفرس وبقي صريعا مكشوف العورة أياما حتى خرج جماعة ... "فحملوه مع من قتل من أصحابه وبعض أولاده ودفونهم" ... خامس رجب سنة 1022.

وبقيت العرائش بيد الإسبان إلى أن تم تحريرها في عهد المولى إسماعيل العلوي. واستسلمت الحامية الإسبانية يوم الأربعاء الثامن عشر من المحرم سنة إحدى ومائة وألف. ونشر المولى إسماعيل بيانا وزعه على نطاق واسع للإعلان عن تحرير العرائش. وتلقى التهانى من كثيرين كان من أبرزهم أول شيخ للأزهر "الشيخ الكبير العالم الشهير الفقيه المشارك العلامة ملحق الأحفاد بالأجداد أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي من آل صباح الخير ..."، الذي أهدى السلطان شرحه على صغرى الشيخ السنوسي بعد الفراغ من تأليفه "يتحفه به ويهنئه بفتح العرائش ويذكر له فرحه بذلك - ويمدحه ...". وأجابه السلطان "بمكتوب بديع من إنشاء بعض أدباء دولته" اختتمه بقوله "وأنا أيها الماجد الدار والقطب الذي عليه بين أفاضل وقته المدار منذ ولانا الله تعالى أمور عباده وأقامنا فضلا منه لحياطة دينه وكلاء بلاده، لم نزل نجتهد في جمع الكلمة بحسب الإمكان ونجد في حسم مادة البغي بكل محل من هذه الآفاق الغريبة ونحتفل بطهارة أديم الأرض من ردى الشرك ونبتهل في استئصال شأفة أهل الضلالة".

يستنتج من كل هذا أن الرأي العام في المشرق والمغرب استنكر تسليم المدن.
ولكن طريقة الاستنكار كانت مختلفة. ففي المشرق بكى الناس وأذنوا في غير أوقات
الأذان وألقوا المواعظ دون أن يتهموا الحاكم بكفر أو بخيانة. قبلوا الأمر الواقع محتجين مستنكرين مطيعين. أما في المغرب فقد استنكر الناس وتحركوا بعنف. فقد أفتى

الفقهاء بإسقاط بيعة الحاكم المتخاذل مما اتاح لنا قمين أن يقتلوه بشكل مهين. ورفض المصلون غض الطرف عن فقيه أفتى بما يخالف آراء الناس وقتلوه في الجامع بعد عشر سنوات من جرمه، ولم يواجه قتل الفقيه في الجامع اعتراضا من الفقهاء ولا اعتراض أحد على قتل أمير المؤمنين ضربا بالصخور وتركه ملقى بالعراء. وأثنى الناس على عمل المولى إسماعيل وتحريره العرائش وطنجة وغيرها رغم اعتراضهم على كثير من تصرفاته الأخرى. والأغرب من ذلك أن مؤرخي المغاربة لم يسقطوا كلمة "رحمه الله" عن أي من المقتولين رغم عدم اعتراضهم على القتل. وحمل سلطان المغرب لقب إمام وأمير المؤمنين وأعلن لنفسه نسبا هاشميا حسنيا بينما لم يحمل السلطان المشرقي أيا من هذه الصفات. ومع ذلك أفتى المغاربة بجواز تجاهل الإمام إذا ما تقاعس عن القيام بواجباته وألزموا الناس بما تخلى عنه الإمام على أساس أن الأمة تقوم مقام الإمام. أما في المشرق فلم يصل التحدي إلى هذا المستوى ولم يبخلوا على الحاكم، مهما رأيهم فيه، بالولاء والطاعة والانقياد.

والآن وقد ضاعت القدس للمرة الخامسة منذ تحريرها على يد عمر بن الخطاب، يترتب علينا أن نراجع حساباتنا ونقرر أسلوبا يضمن بقاء مبدأ تحرير القدس حيا في فكر العرب والمسلمين إلى أن يتم التحرير الفعلي. وقد وضع اليهود من قبل دعاء لتذكيرهم بالقدس التي لم تكن لهم. وابتدع العرب في المغرب أسلوبا لطيفا طريفا لتذكيرهم بالعرائش يصلح أن يكون نموذجا لمدينة لها وضع خاص في نفوس الجميع. وقد يكون ارتداء شعار مميز يذكر العرب والمسلمين بالقدس أمرا مفيدا. وأقترح صنع قطعة ذهبية أو فضية أو معدنية لا تصدأ، عليها صورة عرق زيتون وكلمة يا قدس، ويحمله كل عربي ومسلم.

الدكتور عبد الكريم غرايبة

الجامعة الأردنية - كلية الآداب - عمان

مجلة التاريخ العربي