الأقصى.. والحرب الإستيطانية
د. لطفي زغلول

www.lutfi-zaghlul.com

طلع علينا قبل أيام المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية "يهودا فاينشتاين" بتصريح خطير للغاية مفاده: "أن الأقصى جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل، ينطبق عليه القانون الإسرائيلي"، وفي هذا التصريح ما فيه من ضوء أخضر للجمعيات الإستيطانية بغية استهدافه.
إن هذا يؤكد أن أذرع المؤسسة الإسرائيلية التشريعية والتنفيذية والقضائية يحركها نفس الدافع التهويدي للقدس ومقدساتها الإسلامية. في ذات الشأن يصرح رئيس بلدية احتلال القدس أنها عاصمة إسرائيل إلى الأبد، ويلقى تأييدا من المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية السناتور رومني. لكن الأخطر ما جاء على لسان عضو الكنيست "أرييه أليداد" الذي طالب بهدم الأقصى، وإقامة الهيكل على أنقاضه.
لطالما ردد الفلسطينيون الذين شرفهم الله بجوار الأقصى المبارك، والذين طالما بذلوا الغالي والنفيس دفاعا عن عروبته وإسلاميته شعار الأقصى في خطر. وها هم مرة أخرى، ولن تكون الأخيرة يرددون هذا الشعار بعد أن ترجمته عمليات التهويد إلى حقيقة على أرض الواقع. لقد كان من المفترض أن يكون لهذه الصرخة أصداء في العالمين العربي والاسلامي، الا أن شيئا من هذا القبيل لم يحدث لا على مستوى الشارع الجماهيري ولا الرسمي، ولا حتى في آخر مؤتمر قمة إسلامية عقدت مؤخرا في مكة المكرمة.
ها هم الفلسطينيون هذه الايام يصرخون ويتصدون مرة أخرى. ها هي الحفريات جارية على قدم وساق غير آبهة باحتجاجات الفلسطينيين الذين يستقرئون نذر المخاطر جراءها، ولا بمشاعر المسلمين في كافة أرجاء العالم، والأقصى جزء لا يتجزأ من عقيدتهم وتاريخهم المجيد. إنها النوايا المبيتة للمسجد الأقصى تحديدا، سواء من تحت أساساته، حيث الأنفاق المتعددة الإتجاهات والأهداف، أو سواء من حيث ما يحيط به. مثالا لا حصرا واحد وستون كنيسا يهوديا تحاصر الأقصى.
لا تقف هذه الإجراءات العدوانية بحق كل من القدس والأقصى عند هذه الحدود، فإن ما يسمى "أمناء الهيكل" ما زالوا يقفون للأقصى المبارك بالمرصاد، يتربصون به، ويتحينون الفرص للإنقضاض عليه، بغية هدمه وإقامة "الهيكل" المزعوم عليه، وهم الذين قد جهزوا ما أطلقوا عليه حجر الأساس الذي طالما طافوا به في مدينة القدس تحديا وتهديدا وتوعدا وترهيبا.
لا غرابة في ذلك، فإن العالمين العربي والإسلامي غارقان في مشاغلهما الدنيوية من مهرجانات ومؤتمرات واجتماعات ومباريات وبرامج ترفيهية تبثها فضائياتهما، وتآمر على بعضهم. وعلى ما يبدو أن الهجمة الأخيرة على الأقصى، والتي ما زالت آخذة في التوسع، لم تحرك ساكنا في هذين العالمين، وكأن الأمر لا يعنيهما. أما الأقصى الذي دخل مرحلة الخطر الفعلي بالهجوم عليه، فعلى ما يبدو لم يبق له إلا شعبه الفلسطيني الذي ما زال يفديه بدماء أبنائه، ولم يتوان لحظةعن الدفاع عنه بكل ما أوتي من قوة وعزيمة.
فلسطينيا.. المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ليس مجرد مسجد يصلي فيه المسلمون كبقية المساجد رغم أنها جميعا بيوت الله. علاوة على أنه أحد بيوت الله، إلا أن له خصوصية وتميزا، فالفلسطينيون وكل المؤمنين ينظرون إليه عبر بعدين. أولهما أنه قبلة المسلمين الأولى في صلاتهم، وهو الحرم المقدسي في القدس الشريف ثالث الحرمين الشريفين – حرم بيت الله الحرام في مكة المكرمة، والحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة – وهي اقدس مقدسات المسلمين.
أما البعد الثاني فكونه يحتل مساحة شاسعة من تاريخ الإسلام ويضيء فضاء رحبا من فضاءاته التاريخية. لقد كان المسجد الأقصى المبارك على مدى التاريخ محط اهتمام الخلفاء والقادة والحكام المسلمين، فتركوا بصماتهم الحضارية على رحابه وفي جنباته احتراما لمكانته المقدسة الفريدة.
يوم احتل الصليبيون القدس وصالت وجالت خيول الغزاة في رحابه الطاهرة، شكل ذلك كابوسا أرق المسلمين ليل نهار الى أن حرره الناصر صلاح الدين الأيوبي، وحمل معه المنبر الذي أعده السلطان نورالدين زنكي الذي عزم على تحريره، الا أنه وافته المنية قبل أن يبر بوعده الذي تشرف به الناصر صلاح الدين.
إن المكانة التي تحظى بها القدس لدى المسلمين جميعا ، كونها تشرفت بحضانتها للمسجد الأقصى وللصخرة المشرفة، فأصبح تاريخ القدس من تاريخهما والحديث عن القدس يعني في الدرجة الأولى الحديث عن الأقصى المبارك، والصخرة المشرفة. إن القدس دون أقصى ليست قدسا مهما كبرت مساحتها وازدهر عمرانها. ويكفيها أنه منحها لقب القدس الشريف التي شكلت ولا تزال عاصمة روحية لملايين المسلمين في شتى أنحاء المعمورة.
في التاريخ العربي المعاصر سقطت القدس مرتين في أيد غير إسلامية. كان السقوط الأول لها في العام 1918 على أيدي القوات البريطانية بقيادة الجنرال " ألنبي" الذي احتلها بعد معركة دامية شرسة استمات العثمانيون آنذاك في الدفاع عنها. منذ العام 1918 وهو بداية تاريخ الإنتداب البريطاني على فلسطين وحتى العام 1948 وهو عام نهايته، لم يتعرض المسجد الاقصى ولا مسجد الصخرة المشرفة إلى أي أذى أو اعتداء.
إلا أن السقوط الأخطر للقدس كان قبل أربعة عقود من الزمان، وتحديدا في السادس من حزيران 1967 على أيدي القوات الإسرائيلية التي احتلتها منذ ذلك الوقت وأعلنت ضمها "بقانون" أصدرته آنذاك. إن الحديث عن التغييرات التي أحدثها الإحتلال الإسرائيلي للمدينة المقدسة واسع جدا. إلا أن ما يعنينا هنا هو ما تعرض له المسجد الأقصى من اعتداءات وانتهاكات ومحاولات اقتحام متكررة في ظل هذا الإحتلال.
إنها وإن كان هدفها واحدا لا يمكن تجزئته ويتمثل في الإستيلاء على المسجد الأقصى لإقامة الهيكل الثالث المزعوم على أنقاضه، إلا أنه يمكن تصنيف هذه الإعتداءت والإنتهاكات . ففي الحادي والعشرين من شهر آب من العام 1969 تعرض المسجد الاقصى إلى حريق متعمد أسفر عن احتراق منبر صلاح الدين التاريخي ولحاق تلف كبير في أثاثه. وقد تكررت محاولات الإحراق إلا أنها جميعا باءت بالفشل. كما أن المسجد الأقصى تعرض إلى مؤامرات حاكتها جهات إسرائيلية متطرفة لها أهداف في تدميره.
إلا أن الخطر الأكبر الذي يتهدد المسجد الأقصى هو تلك الحفريات المنظمة في أساساته وتلك "الإجراءات" التي تمارس تحت الأرض، والتي أثارت شكوكا حقيقية في طبيعة النوايا والدوافع التي تقف وراء مثل هذه الإجراءات التي يرى المسلمون فيها أنها قد تحدث خلخلة في أساساته يمكن أن تؤدي لا سمح الله إلى تصدعه وانهياره.
يقودنا هذا إلى الحديث عن نمط آخر من الإعتداءات يتعرض لها المسجد الأقصى وهو بحد ذاته يشكل خطرا مبرمجا تقف وراءه جهات تدعي أن لليهود حقا في الصلاة فيه. وهنا يمكن مثالا لا حصرا التذكير بالزيارة الإستفزازية التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق " شارون " في إيلول من العام 2000، والتي كان لها الدور الرئيس في انتفاضة الأقصى.
إلا أن الحديث عن جماعة "أمناء الهيكل" يصور قمة الخطر الذي يتربص بالمسجد الأقصى. إن هذه الجماعة قد أعدت الخرائط الهيكلية لبناء ما تزعم أنه "الهيكل الثالث". ولكي تعطي انطباعا بالجدية والتصميم فقد أعدت حجرا ضخما أطلقت عليه "حجر الأساس"، حاولت قبل عامين أن تقتحم رحاب المسجد الأقصى لكي ترسيه في باحته وتجعل منه حجر أساس لبناء هذا الهيكل المزعوم. إلا أنها فشلت بذلك، فطافت به على متن شاحنة في شوارع مدينة القدس مدللة بذلك على أنها لن تتراجع عن نواياها ومتحدية كل المشاعر الإسلامية.
إن هذا المسلسل من الإنتهاكات والإعتداءات والنوايا المبيتة لا يقف عند حد. يأتي قرار وزير الأمن الداخلي الاسرائيلي بالسماح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى تطورا خطيرا للغاية في السياسة الإسرائيلية الرسمية المعلنة تجاه الأقصى. وهو قرار من منظومة قرارات، استكمالا لسياسة التحكم والمنع التي تفرضها إسرائيل على زيارة المسجد الأقصى لأداء الصلاة فيه وبخاصة الفئات الشابة. يتساءل المسلمون في هذ الصدد فيما إذا كان هذا القرار مقدمة لفرض سياسة "المقاسمة" التي تتبعها في المسجد الإبراهيمي في مدينة خليل الرحمن.
إن القرار الإسرائيلي وكل القرارات السابقة له، تأتي استفزازا للمشاعر الدينية الإسلامية، ومساسا بحرمة مكان من أقدس الأماكن للمسلمين في العالم. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل إن إسرائيل قد اختارت قرارها هذا مصادفة، أم أنها قصدت بها أن تنزل ضربة أخرى بالعالمين العربي والإسلامي، وبذا يكون هذان العالمان قد أصيبا في مقتلين عقائدي وحضاري تراثي معا؟.
إن ما يحدث الآن على ساحة المسجد الأقصى المبارك، ما كان له أن يحدث البتة لو أن الأمة الإسلامية بعربها وعجمها وبسنتها وشيعتها ومذاهبها الأخرى، كان لها موقف صارم وحازم حيال هذا الإستهداف لمقدساتها والإستخفاف بها، أو أنه كان لأنظمتها السياسية ولو مساحة مهما صغرت تخص القدس ومقدساتها على أجندتها السياسية طوال أربعة عقود ونيف من الإحتلال. لقد أثبت الأيام أن القمم العربية والإسلامية والمؤتمرات بعامة، ولجنة القدس المنبثقة عن المؤتمر الإسلامي بخاصة لم تكن جادة وقراراتها فقاقيع في الهواء، وكانت في واد والقدس ومقدساتها في واد آخر.
وتظل القدس والمسجد الأقصى والصخرة المشرفة أمانة في أعناق الفلسطينيين الذين جادوا على شرفها وشرفهما بدماء فلذات أكبادهم وما زالوا يجودون بكل غال ونفيس. وهم يسألون العلي القدير أن يعود العرب والمسلمون إلى صوابهم، ولم شملهم وحميتهم في الدفـاع عن مقدساتهم. وإزاء هذا الخطر الحقيقي المحدق، وتعاجز الأمتين العربية والإسلامية وتقاعسهما، ولا مبالاتهما، لا نملك إضافة للدماء والتضحيات الفلسطينية إلا أن نرفع أيدينا إلى السماء، نهتف بأعلى صوتنا: لك الله أيها الأقصى، فهو يحميك، وشعب فلسطين يفديـك.