دكتورعبدالرزاق محمد جعفر
أستاذ جامعة بغداد سابقا
حاليا/ باحث علمي في جامعة الجنوب/لويزيانه/امريكا

عودة الروح لذكريات الماضي !




اليمامة العمياء


رواية واقعية تنقصها الصراحة

2
لم يرغب صابر أن يسبب ألما لأي شخص قد يلمس صدقا في سرد ما عاناه من متاعب عندما سار خلف تلك اليمامة التي حسبها الهناء المنتظر، ولم يشك في حينها أن ما رآه هو السراب بعينه ، فقد كان أعمى البصيرة ، ولذا دفع سنينا من عمره ثمنا باهظا لصيد تلك اليمامة او قل" الوهم" الموشح بالهناء.. يوم سار وراء عواطفه المطمورة من سيئ إلى أسوء ، متصورا أنه سيكسبها إذا ما بذخ عليها المال والهدايا بسخاء و على نار هادئة ،... فخسر المال والوقت لأنها امرأة ذات خبرة معمقة وليس كما تصور بأ نها:
لسه في الحب بتتعلم جديد !!
اي انها عذراء وترفض أي علاقة جنسيه غير شرعية, ولم تسمح لأي مخلوق أن يمسها قبل موافقتها على الزواج منه. ..وهكذا كبرت تلك اليمامة في عينه
وراح بين مصدق ومكذب لما يسمع منها وترك برهان ذلك للزمن ،... وخسر الرهان وكسب الذكريات ليدونها كعظة لمن يتعض بأخطاء الآخرين قبل فوات الأوان، طالبا من كل فاشل في الحياة أن يتعامل مع الواقع مهما كانت قسوته. فالأخطاء الجسيمة في حياة كل منا قد تكلفه سعادته أو قل حياته..... فالمرأة في مجتمعنا الشرقي ،.... ومهما بلغت درجة ثقافتها أو تعلمها غير صريحة وترغب با لهيمنة على الرجل إن شعرت بحبه لها ، وتبدأ الللعب بعواطفه والتلذذ بشوائها،... وكلما زاد سعيرها، ازدادت نشوة لترضي غرائزها!! وإن لم تجد من يحميك ويخلصك من شكوكها فسوف تســتمرإلى ما شاء الله,... أو لحين استلامها ورقة الطلاق , بالرغم من قساوة الحل ،... حيث أبغض الحلال عند الله الطلاق. الكثير منا لا يعير أي اهتمام لأي نوع من الأمراض الاِجتماعية لجهله بخطورتها أو الضعف في قدراته لمواجهتها، ويدفع الثمن غاليا ويندم في وقت لا ينفع فيه الندم ... ونتيجة لتدهور العادات الحميدة، صار من الضروري الاِستشارة والتروي في أخذ القرار، لحين القناعة بنجاعة الحل ومن دون أي تردد، فأ ثر التردد مدمر وقد تكون عواقبه أسوأ بكثير من الفشل في تنفيذ غاية ما من دون استشارة ، فالخوف من الفشل اشد وطأة من الفشل ذاته!!
لم يتردد صابر في قراراته ، وقد أطلق أحد الزملاء عليه لقب "أبو سريع" ، أي الذي يتخذ قرارته بأقصى سرعة أو قل,... صار متهورا في رد الفعل، ... فبعد اليأ س من وجود انسانة تقدره لشخصه لا لمركزه العلمي أو الاِجتماعي ، وعلى اية حال, وضع القدر أمامه تلك (اليمامة) وأعجب بها وتبعها (كالمسعور) ، وطوقها بكل جرأة، وألقى عليها التحية، ونظرت نحوي بتعجب ولم ترد التحية، إلا أنها ابتسمت له وسألته "شكون انت ؟" أي من أين أهو؟... لأنها ميزت لهجته الغريبة والمختلفة عن لهجة بلدها ،... فأجا بها "عراقي" فسرت وعلا وجهها ابتسامة مكللة بالأستغراب المشبع بالرضا، فارتعش لتلك النتيجة وهو غير مصدق على قدرته أو قل, علي ترويضه لتلك"اليمامة المتوحشة ",... التي بانت له للوهلة الأولى كأنها " لبوة " أو امرأة حديدية "متمردة " ... فهدأ قليلا وسار بجانبها كالأطرش في الزفة !! ... فقادتهالى أقرب مقهى لكي يكملا حديثهما،... وبدأ الحوار بينهما بكل أدب وحشمة ، وأسمعها عبارات عاطفية مكتومة في صدره ، ...فشكرته, وقالت: "يعيشك !!"
3
راحت تطرح عليه وابلا من الأسئلة وبدأ يجيبها من عقله الباطني ،.. حيث فقد في تلك اللحظة كل سيطرة ذهنية ،.... وعاد صبيا في مقتبل العمر. ....وتم التعارف المبدئي , وأخذ عنوانها ، ولم توافق أن تعلمه أي شييء عن حياتها ، سوى أنها موظفة في شركة، وأنها خرجت لأنجاز بعض المهام الخاصة بالشركة التي تعمل فيها.
ها هو يجلس قبالتها غير مصدق إن كان في علم أم في حلم ,..ثم أهداها بعض مقالاته الأدبية وتصفحها بدقة, عندئذ عرفته بعض الشيء عن سيرتها ،... وقالت إنها ليسانس آداب, فسرلمستواها الأدبي ، وأمطرها بعبارات الإطراء ،... وبالمثل ثمنت مكانته العلمية العالية ومركزه الاِجتماعي ... ثم ناقشته ببعض ما ورد في تلك المقالات من أفكار، وتطور الحديث حول سيرة حياته... ، ولم يخفي عنها أي شيء ،.... وأخبرها بأطناب عن عائلته وعمله وأسباب هجرته، أما هي ، فقد أعلمته بأنها مازالت عزباء, ولم يمسسها أي بشر, وأنها فشلت في أول خطوبة لها وهي في سن الثامنة عشر من عمرها, ثم أعيدت خطبتها بعد عدة سنوات من زميل دراستها في الكلية ،... إلا أن تلك الخطوبة لم يكتب لها النجاح ، حيث كبست الخطيب متلبسا بالخيانة العظمى !!
أكدت أنها تمقت مثل هذا السلوك وممارسة الجنس قبل الزواج ... كما أنها تَمقت الخديعة ولهذا السبب لم تعثر على الشخص المناسب ليكون بعلاً لها ،... وإن فشلها مع شخصين جعلها تفقد الثقة في أي رجل مهما كان مستوى ثقافته.
على كل حال, ...فقد لمست من أسلوب حديثها أنها تخطط لصيد زوج مغفل يعوضها ما فاتها من سنين عمرها، فهي الآن في منتصف العقد الثالث ،... إلا أنه وبشكل غير مباشر، أفهمها استحالة زواجه منها لأن عمره كان ضعف عمرها في حينه!!
شعر صابر برغبتها بتكوين علاقة ما معه ، طالما أنه غريب وليس له خبرة بالسلوك الاِجتماعي لبلدها، أو قل بعلائقها الخاصة ، حيث ليس من المعقول أن امرأة في عنفوان شبابها وخريجة جامعة وفاشلة في زواجها أو قل حتى خطبتها مرتان ، أن تكون من دون علائق حميمة !!
استمرت علاقته بهذه المرأة,... بهناء تشو به الشكوك فهي تأتي الى داره وقتما تشاء وتطلب أنواعاً من الأكلات العراقية وفق مزاجها ، وتأخذ حريتها، وكثيرا ما كانت تستحم و تنام بيته, بمفردها, عندما يكون في العمل لعدة ساعات, (وقت القيلولة).
كانت تصرفاتها ملفته للنظر, ... فهي لا تثبت بمكان معين ، تلوج بالشقة و تعبث بكتبه وأوراقه,... وهو فرح بها على أمل ترويضها وتكون له "عشيقة",... يعوض بها ما فاته من سنين الكفاح والتي نسى فيها أنه "رجل" فقد كانت تأتي أياما متتالية ثم تختفي أسابيع ، وفي كل مرة يكتشف فيها شيئا جديدًا ، بالرغم من الغموض الذي يكتنفها ، .....فقد بدت العلائق تتعدى اللمس والهمس إلى ما هو أعمق ، إلا أنها كانت تمهد لذلك ثم تمتنع فيزداد ثورة ثم تلاطفه وتعده بيوم آخر ، وكان يصدقها ، .... فأغدق عليها المال من دون حساب وكلما رغبت بمقدار معين يضيف لها مقدارا آخراً, وهو غير مهتم لذلك, وطالما كان يبادر بدفع مبالغ معينة لمجرد أن تلمح له بحاجتة لذلك !!

4
ظل صابرعاشقاً لها, و لم يشك بها في تلك الفترة,...... لأنه ما زال موشحا بالغباء !!
حمد صابر الله كثيرا على هبته له هذه اليمامة !!
وجد صابر بكنفها متعة مفعمة بمرارة لم يحس بمثلها منذ أيام الشباب وبتكرار اللقاء كان يكتشف في كل مرة شيئا جديدا فيها بالرغم من الغموض الذي يكتنفها ، .... وتمكنت بذكائها وحدسها الذي ليس له نظير ،.... أن تهيمن على عواطفه ، وتدفعه لكي يتعلق بها بشكل جنوني أو قل يهيم بها عشقا ،.... وكان يحمد ربه على هذه الحالة ، حتى يخفف من وطأة الغربة والحنان لعائلته فقد وجد نفسه مغمورًا بسراب الهناء, بعد أن طمرت عواطفه! كانت تنقطع بدون سبب ، وتغيب لأسابيع ، ويفقد الأمل بعودتها,... لانه لا يعرف عنوان سكنها أو عملها ، ... وهكذا عملتها معه مرات عديدة بالرغم من تنبيهها بعدم التكرار وتعد بذلك, إلا أنها لا تنفذ ،... إنها انسانة غريبة الأطوار بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.... إنها "طلسم" أتعبته كثيرا ولكن ليس له القدرة على طردها أو هجرها ولا يمكن التكهن في مدى إخلاصها ، فهي كما قال الشاعر المتنبي :

ومن نكد الدهر على الحر أن يرى عدوا من صداقته بد

ومرت الأيام وهو يزداد ثقة بفشله مع تلك الصبية الغريبة الأطوار، حيث لم يجد شبيها لها ، فهي غامضة في كل تصرفاتها، ولذا شعر بملل من هذه العلاقة الزائفة أو قل "حب" من طرف واحد ، حيث لم يلمس منها أية مشاعر عاطفية حتى بحدود المجاملة كأصدقاء ، ... وسارت الأمور من سيئ إلى أسوء !!
من المعلوم ان الشك هو اول بذرة يغرسها العاشقان في حقل حبهما, فأ ذا نمت هذه الحبة وصارت شجرة, فسوف تدمرالهيكل على من فيه , طال الزمن أم قصرويردد كلا م ما تغنت به ســيدة الطرب العربي:
ياحبيبي كل شيئ بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنـــــــــا ذات يوم بعدما ما عز
اللقاء
فأذا أنكر خل خلـــــــه وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضــى كل الى غايته لا تقل شئنا فأن الحظ
شــاء

drjaffar32@yahoo.com