د. عبد الله الغذامى: لماذا يحابى المرأة، ويشمت بالرجال؟
بقلم د.إبراهيم عوض

يتعرض هذا الفصل لآراء د. عبد الله الغَذَّامى فى العلاقة التى ينبغى أن تكون بين الرجل والمرأةـ والتى دائما ما يهاجم صاحبها جنس الرجال يوهم قراءه أنه، بهذه الطريقة، إنما يدافع عن المرأة وحقوقها ويساعدها على التخلص من أغلالها التى كبلها بها الرجل وأحال حياتها إلى جحيم. وقد اخترت كتابه: "المرأة واللغة" لتكون مناقشتى لهذه الآراء من خلاله. وفى ذلك الكتاب يعمل د. الغذامى بكل سبيل على النيل من الرجال والتظاهر بالوقوف إلى جانب النساء والتفانى فى إزالة الظلم الواقع عليهن من قِبَلهم. وهو يشتط فى هذا اشتطاطا غير مفهوم ولا مقبول حتى إنه ليتهكم بالرجال ويتهمهم بما ليس فيهم وينسب إليهم الاستبداد بالنساء وتحقيرهن وتصيير حياتهن جحيما لايطاق عاطلا مع باطل كأن الرجال كلهم، وبالذات العرب والمسلمون، ظَلَمَةٌ للمرأة مجحفون بحقوقها مستبدون بها لا يعرفون للرحمة ولا للهوادة فى معاملتها أى معنى. وفى أثناء هذا كله نراه يقع فى تناقضات شنيعة لا يقبلها منطق، ويزعم المزاعم التى لا تدخل عقل أحد، ويقفز من مقدمات إلى نتائج لا تتأتى عنها، ويتمسك ببعض النصوص التى لا أدرى من دَلَّه عليها فيرفعها فى وجه القارئ موهما إياه أنها كل شىء وأنها لا تعنى إلا شيئا واحدا هو ما يريد إيهام القارئ به، فى حين يوجد أضعافها من النصوص التى تنسف نصوصه تلك وتذروها فى الهواء، بيد أنه يعتم عليها ويجتهد بكل طاقته لصرف الأنظار عنها. وهو لا يفتأ، فى كل مناسبة وبغير أية مناسبة، يكرر أن الرجل يقمع المرأة وينتهك حقوقها، وأن المرأة أذكى منه وأعظم إبداعا، ويسخر مما يسميه: "ثقافة الفحل"، تلك الكلمة التى يذهب فيبدئ فيها ويعيد فى تهوس مسئم، شامتا بالرجال أجمعين كأنه ليس منهم، وهو ما يحتاج إلى دراسة نفسية للأمر تضع كل شىء فى نصابه، وتشرح لنا كيف ينقلب على الرجال هذا الانقلابَ الموتورَ المستفزَّ واحدٌ منهم.
ومن الأفكار التى يحاول د. الغذامى فى هذا الكتاب أن يسوّقها، رغم أنه ليس ابن بجدتها بل مجرد ناقل وناشر لها، الفكرة القائلة بأن اللغة ذات طابع ذكورى، فهى تظلم المرأة وتنحاز للرجل. إلا أنه لم يقدم ما يدل على هذه الذكورية اللغوية: ذلك أن هناك مثلا ضمائر وأسماء وصيغا للتأنيث مثلما هناك ضمائر وأسماء وصيغ للتذكير. بل كثيرا ما تستخدم صيغ مذكرة للنساء، وصيغ تأنيثية للرجال، مثل حائض وطالق من جهة، وهُمَزة وضُحْكَة وعلاّمة ومعاوية وحمزة وحمامات من جهة أخرى، بالإضافة إلى أن هناك أسماء أعلام تطلق على الرجال والنساء على السواء، مثل نجاح ورجاء وجهاد وسناء وعفت وعصمت وشمس وقمر ونور وندى ورضا وأمل وجمعة وأسماء. بل إن بعض الشعراء قد يستخدم فى مخاطبة حبيبته صيغة التذكير فيقول: "حبيبى"، وهو يقصد "حبيبتى"، أو يخاطبها بضمير الجمع الذكورى كما يفعل عند مخاطبة الملوك، فيقول كما قال جميل مثلا لبثينة:
أَلا لَيتَ رَيْعانَ الشَبابِ جَديدُ * وَدَهرًا تَوَلّى يا بُثَيْنَ يَعودُ
فَنَبقى كَما كُنّا نَكونُ وَأَنتُمُو * قَريبٌ، وَإِذْ ما تَبْذُلينَ زَهيدُ
...
وَقَدْ كانَ حُبّيكُم طَريفًا وَتالِدًا * وَما الحُبُّ إلا طارِفٌ وَتَلِيدُ
وكما قال العباس بن الأحنف:
كَتَبَ المُحِبُّ إِلى الحَبيبِ رِسالَةً * وَالعَيْنُ مِنهُ ما تَجِفُّ مِنَ البُكا
وَالجِسْمُ مِنهُ قَد أَضَرَّ بِهِ البِلى * وَالقَلبُ مِنْهُ ما يُطاوِعُ مَنْ نَهَى
قَد صارَ مِثلَ الخَيْطِ مِن ذِكراكُمُو * وَالسَّمْعُ مِنهُ لَيْسَ يَسْمَعُ مَن دَعا
هَذا كِتابٌ نَحْوَكُم أَرسَلتُهُ * يَبْكي السَّمِيعُ لَهُ وَيَبْكي مَن قَرا
...
لا لا وَلا مِثلي المُرَقِّشُ إِذ هَوي * أَسْماءَ لِلحَيْنِ المُحَتَّمِ وَالقَضا
هاتي يَدَيْكِ فَصالِحيني مَرَّةً * لِنَسُبَّ مَن بِالصّرْمِ يا نَفْسي بَدا
رُدّي جَوابَ رِسالَتي وَاِستَيْقِني * أَنَّ الرِسالَةَ مِنْكُمُ عِندي شِفا
مِنّي السَلامُ عَلَيكُمُو يا مُنيَتي * عَدَدَ النُجومِ وَكُلِّ طَيرٍ في السَما
وكما قال ابن زيدون فى مخاطبته لولادة بنت المستكفى:
بنتم وبِنَّا فما ابتلَّتْ جوانحنا * شوقا إليكم ولا جَفَّتْ مآقينا
و كما قال بهاء الدين زهير:
إِلى عَدْلِكُم أُنْهي حَديثي وَأَنْتَهي * فَجُودُوا بِإِقْبالٍ عَلَيَّ وَإِصغاءِ
عَتَبتُكُمُو عَتْبَ المُحِبِّ حَبيبَهُ * وَقُلتُ بِإِذلالٍ، فَقولوا بِإِصفاءِ
لَعَلَّكُمُو قَد صَدَّكُم عَن زِيارَتي * مَخافَةُ أَمْواهٍ لِدَمْعي وَأَنْواءِ
فَلَو صَدَقَ الحُبُّ الَّذي تَدَّعونَهُ * وَأَخلَصتُمُو فيهِ مَشَيْتُم عَلى الماءِ
وَإِن تَكُ أنفاسي خَشِيتُم لَهيبَها * وَهالَتْكُمُو نيرانُ وَجْدٍ بِأَحْشائي
فَكونوا رِفاعِيِّينَ في الحُبِّ مَرَّةً * وَخُوضوا لَظَى نارٍ لِشَوْقِيَ حَرّاءِ
حُرِمْتُ رِضَاكُم إِن رَضيتُ بِغَيْرِكُم * أَوِ اعْتَضْتُ عَنكُم في الجِنانِ بِحَوْراءِ
وإذا كان د. الغذامى قد كرر، بطول الكتاب وعرضه وعلى نحو مقيت، السخرية من استعمال القدماء للفظ "الفحل" و"الفحولة" فى إشارتهم إلى قوة الإبداع، متخذا من هذا الفظ دليلا على تحيز العرب للرجال ضد النساء، لأن الفحولة من صفات الذكر لا الأنثى، فإن القدماء أيضا قد استعملوا ألفاظا أنثوية للتعبير عن إعجابهم البالغ بإبداع المبدعين. فلماذا لم يذكر للقراء هذا الذى كان ينبغى أن يقلل من غُلَوائه فى اتهام العرب بما اتهمهم به؟ يقول أبو نواس مثلا:
إلَيْكَ بَعَثْتُ أَبْكَارَ المَعَانيِ * يَلِيهَا سَائِقٌ عَجِلٌ وَحَادِي
ويقول أبو تمام:
أمَّا المعاني فَهْيَ أَبْكارٌ إِذَا * نُصَّتْ، وَلَكنَّ الْقَوَافِيَ عُونُ
ويقول ابن الرومى:
ها إنها خطبةٌ قام الخطيب بها * بِكْرٌ، ولكنها في حزمها نَصَفُ
ويقول أيضا:
مِدَحٌ من بناتِ فكريَ أبكا * رٌ حِسانٌ كواعبٌ أترابُ
ويقول صفى الدين الحلى:
فَكَمْ بِكرِ مَعْنًى حَوَى طِرْسُها * وَإِن كانَ في جِسْمِ لَفظٍ عَوانِ
ويقول ابن كمونة:
بيتَ الرسالة، هاكُمُو مرثيةً * طورًا تنوح لكم، وطورًا تندبُ
بِكْرٌ من النظم الرقيق يزفُّها * عبد لكم، وإلى وَلاَكُمْ يُنْسَبُ
ويقول أبو حيان الأندلسى:
فَكَم بِكْر مَعْنًى عَزَّ مِنها اِفْتِراعُها * لَها ذِهْنُهُ الوقّادُ أَصبَحَ فاتِقا
ويقول أبو تمام فى مدح الحسن بن رجاء:
أَغْلَى عَذَارَى الشِّعْر، إِنَّ مُهُورَهَا * عِنْدَ الكِرَامِ إِذَا رَخُصْنَ غَوَالِي
تَرِدُ الظُّنُونَ بِهِ عَلَى تَصْدِيِقَها * وَيُحَكِّمُ الآمَالَ في الأمْوَال
ِويقول البحترى:
قَد تَلَقَّيْتَ بِالقَبُولِ مَديحي * وَكذا يَفْعَلُ الرَئيسُ الجَليلُ
هِيَ بِكْرٌ زُفَّت إِلَيكَ عَرُوسًا * وَلَها عِنْدَكَ الصَداقُ الجَزيلُ
ويقول البحترى أيضا:
هَذي القَوافي قَد زَفَفْتُ صِباحَها * تُهْدَى إِلَيكَ كَأَنَّهُنَّ عَرائِسُ
وَلَكَ السَّلامَةُ وَالسَّلامُ، فَإِنَّني * غادٍ، وَهُنَّ عَلى عُلاكَ حَبائِسُ
ويقول السَّرِىّ الرَّفَّاء:
وكم من يَدٍ للحُرِّ عنديَ ثَيِّبٍ * كشفْتُ مُحَيَّاها بقافيةٍ بِكْرِ
ويقول ابن أبى حصينة:
فَكَمْ بِكْرٍ زَفَفتُ إِلَيكَ مِنهُ * فَكانَ نَدَى يَدَيكَ لَها صَدَاقا
ويقول ابن الخياط:
إِلَيْكَ زَفَفْتُ أَبْكارَ الْقَوافِي * وُحَادًا كَالْفَرائِدِ أَوْ زواجا
ويقول ابن الزقاق البلنسى:
إليكَ أبا حفصٍ رفعتُ من النُّهَى * عرائسَ تُجْلَى في حُلِيِّ غرائبِ
ويقول ابن قيم الجوزية:
هَذِي حِسَانُ عَرَائِسٍ زُفَّت لَكُم * وَلَدَى المُعَطِّلِ هُنَّ غَيْرُ حِسَانِ
ويقول أبو الفتح البستى:
زُفَّتْ إليكَ لَنا عرائِسُ أربَعٌ * فَفَضَضْتَها بالسَّمْعِ، وهْيَ قَصائدُ
فابعَثْ إليَّ مُهورَهُنَّ بأسرِها * إنَّ النِّكاحَ بِغَيْرِ مَهْرٍ فاسِدُ
ويقول شرف الدين الحلبى فى ممدوح له:
تلق القوافي الشاردات كأنَّها * قلائد درّ فوق أعناق خُرَّد
...
تسوء مُعادِيكم حِسَانُ شواردي * ويُرْضي معاليكم مغيبي ومشهدي
ويقول صلاح الدين الصفدى:
وما شاهدتْ عيني سواها رسالةً * يغازلني منها حسانٌ سواحرُ
ويقول ابن حجر العسقلانى:
زَفَفتُ إِلى عُلاَك عَرُوسَ فكري * وَصيَّرْتُ البَديعَ لَها جَهازا
ومن كلام الثعالبى فى كتابه: "أبو الطيب المتنبى: ما له وما عليه" عن شعر المتنبى: "وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعُونِه، وتفرقوا فرقا في مدحه والقدح فيه والنضح عنه، وتفرده عن أهل زمانه بملك رقاب القوافي ورِقّ المعاني". ولابن الجوزى فى "المدهش": "ادخل دار الخلوة لمن تناجي، وأحضر قلبك لفهم ما تتلو، ففي خلوات التلاوة تُزَفّ أبكار المعاني". وبالمثل يقول ابن عرشاه فى "فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء": "وأخرج له غواص الفكر من بحر المعاني والبيان فرائد أفكار لم تظفر بها أصداف الآذان، وخرائد أبكار لم تفترعها فحول الأذهان". ويقول صلاح الدين الصفدى فى"أعيان العصر وأعوان النصر": "لها من ميم مِسْك قصيدته الميميّة ختام، ومن مخبآت شرح اللامية عرائسُ تُجْلَى على الأفهام". وفى "الكشكول" لبهاء الدين العاملى: "اكتحلتْ عين الفكر من سواد أرقامهم، وانفتحت حدقة النظر على عرائس نتايج أفهامهم". وللوزير المغربى فى "أدب الخواصّ": "وهذا الشعر من حِسَان أبيات المعانى". ولعبد القاهر الجرجانى فى الحديث عن الاستعارة المفيدة: "اعلم أنّ الاستعارة في الحقيقة هي هذا الضرب دون الأول. وهي... أَسْحَرُ سِحْرًا، وأملأ بكل ما يملأ صَدْرًا، ويُمْتِع عقلاً، ويُؤْنِس نفسًا، ويوفر أُنْسًا، وأَهْدَى إلى أن تُهْدِي إليك أبدًا عَذَارَى قد تُخُيِّرَ لها الجمال، وعُنِيَ بها الكمال"... إلخ.
أما ما يقوله الغذامى (ص20- 21) عن استعمال صيغة المذكر للسيدات اللاتى يشغلن منصب المدير فى مؤسسة ما أو الأستاذ فى إحدى الجامعات أو الرئيس فى هيئة من الهيئات وانتقاده ذلك الاتجاه فليس له الحق فيه، إذ قد لاحظتُ أن النساء اللاتى يشغلن منصبا من هذه المناصب يحرصن على استخدام صيغة المذكر حرصا غريبا، تصورا منهن أنهن بهذه الطريقة يناطحن الرجال ويسامتنهم رأسا برأس، وهو ما كان ولا يزال يثير دهشتى وضيقى لأنه لا يوجد فى استعمال صيغة التذكير للمرأة ما يبعث على الفخار. وإذا كانت بعض النصوص العربية القديمة التى استشهد بها المجمع اللغوى بالقاهرة وعض بنواجذه عليها د. الغذامى تصنع شيئا من هذا فالواقع أنها إنما تمثل الشذوذ على القاعدة. وكنت أحسب هذا الاتجاه العصرى فى كتاباتنا راجعا إلى تشبهنا بالإنجليز، الذين لا تعرف لغتهم فى كثير من الأحيان صيغة تأنيثية للمهن والوظائف على عكس الفرنسية، التى أعرف أنها تفرق بين الجنسين فى هذا المجال، وكنت أقول: لماذا نتنكر لطبيعة لغتنا الدقيقة ونجرى وراء لغة جون بُلْ المفتقرة إلى الدقة؟ وها هو ذا د. الغذامى يمسح هذا الاتجاه فى ذقن جنس الرجال على عادته فى تشويه صورتهم على الدوام وكأنه ليس واحدا منهم، مع أن الرجل يستطيع أن يناصر المرأة إذا كانت مظلومة دون أن يتنكر لبنى جنسه على هذا النحو المقيت. ونحن، بحمد الله، نعطف على المرأة ونحب لها كل الخير ونريد لها التقدم دائما والرفعة. أليست المرأة هى أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وجداتنا وخالاتنا وعماتنا وزميلاتنا وجاراتنا وزميلاتنا وأستاذاتنا؟ أليست المرأة هى التى ربتنا وأسبغت علينا العطف وتحملتنا ونحن صغار، وأسعدتنا حبيبةً وخطيبةً وزوجةً حين كبرنا، وأثارت حناننا ورحمتنا بنتًا وأختًا؟
والعجيب أن بعض من يرددون مثل كلام الغذامى كشريف الشوباشى ود. عبد المنعم تليمة ينادون بضرورة الاستغناء عن ضمائر وصيغ التأنيث فى العربية مع أن هذا الاقتراح من شأنه أن يمحو أى طابع أنثوى فى اللغة. أى أنهم ينادون بالشىء ويعملون بعكسه. وقد سجلتُ هذا بالتفصيل وأبديت فيه رأيى وبينت ما فيه من عوار وتهالك فى كتابى: "لتحيا اللغة العربية يعيش سيبويه"، ردا على كتاب الشوباشى: "لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، الذى عضد ما فيه د. تليمة فى مواجهة تلفازية بين العبد الفقير ود. عبد الله التطاوى وبينهما منذ نحو اثنتى عشرة سنة. ثم إنه لا يوجد أى عائق من أى نوع يمنع النساء من استخدام اللغة كلاما أو كتابة أو تفكيرا: لا فى الماضى ولا فى الحاضر ولا حتى فى السمتقبل. وفوق هذا فاللغة لا تقصّر فيما يتعلق بالمرأة من معانٍ ومشاعرَ ومفاهيمَ وأوضاعٍ وأحوالٍ. كما أن هناك أشعارا وخطبا وأمثالا كثيرة قالتها المرأة...
يقول الغذامى ما نصه: "تظهر اللغة تاريخيا وواقعيا على أنها مؤسسة ذكورية، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة. وهذا يعنى حرمان المرأة ومنعها من دخول هذه المؤسسة الخاصة بالرجل، مما جعل المرأة فى موضع هامشى بالنسبة لعلاقتها مع صناعة اللغة وإنتاجها. جرى ذلك حسب القانون التاريخى الذى يمنع المرأة من تعلم الكتابة، وهو القانون الذى صاغه خير الدين نعمان بن أبى الثناء فى كتابه الموسوم بـ"الإصابة فى منع النساء من الكتابة"، وفيه يوصى قائلا: أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى شيئا أضر منه بهن. فإنهن لما كن مجبولات على الغدر كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشر والفساد. وأما الكتابة فأول ما تقدر المراة على تأليف الكلام بها فإنه يكون رسالة إلى زيد، ورقعة إلى عمرو، وبيتا من الشعر إلى عزب، وشيئا آخر إلى رجل آخر. فمَثَل النساء والكتب والكتابة كمَثَل شرير سفيه تهدى إليه سيفا، أو سِكِّير تعطيه زجاجة خمر. فاللبيب من الرجال مَنْ ترك زوجته فى حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع" (ص111- 112).
وهو زعم لا معنى له لأن اللغة مؤسسة (إن قلنا برطانته) إنسانية يشترك فيها الجميع بما فيهم الطفل الرضيع الذى يصدر أصواتا فى حالتى الفرح والغضب فيسجلها اللغويون بوصفها لغة أطفال. وكثيرا ما نراهم يقولون فى المعاجم الإنجليزية مثلا إن هذا اللفظ من لغة الأطفال كلفظى "وِي وِى" و"كا كا" مثلا للبول والبراز. ثم إنه يتحدث عن نفى المرأة من مؤسسة اللغة وحرمانها من إنتاجها وكأن الرجل يضع على فمها شريطا لاصقا يمنعها من التلفظ، أو كأن اللغة دار يملكها الرجل، فقام بطرد المرأة منها وحلف ألا يرى وجهها فيها إلى أبد الآبدين. لقد اخْتُرِعت اللغة قبل اختراع الكتابة بدهور لا يعلمها إلا الله، وقامت لغات وانهارت لغات، والمرأة تشارك الرجل فى ذلك الاختراع رأسا برأس. فكيف يقول الغذامى ما يقول؟ أم ترى آدم كان يحمل فى يده شاكوشا كلما عَنَّ لحواء أن تتكلم دَقَّها فوق رأسها به فأسكتها؟ إن خلط الغذامى بين اللغة والكتابة خلط لا يليق ويدل على قصور فى التفكير، فاللغة نطق وكلام قبل أن تكون كتابة. والكتابة لا تشكل نسبة تذكر فى اللغة كما هو معلوم، فمعظم البشر قلما يكتبون، وإذا كتبوا فكلامهم الملفوظ أضعاف أضعاف كلامهم المكتوب. وحتى هذا المكتوب يمر فى غالب الأمر بمرحلة الكلام حين تتم مناقشته فى البداية شفويا بين الكاتب وزملائه ومعارفه وتلاميذه وحوارييه قبل أن يفكر فى تسجيله بعد ذلك على الورق.
ترى ألم تكن هناك لغة قبل الكتابة، أى قبل أن يكتب الرجل وتكتفى المرأة بالحكى كما يقول الغذامى؟ وبعد اختراع الكتابة هل كان هناك مجتمع نساؤه كلهن لا يعرفن القراءة والكتابة، ورجاله كلهم يعرفونها؟ ولقد تنبه هو أخيرا (ص 26- 27) إلى هذا المعنى فغير كلامه إلى أن اللغة استذكرت، أى صارت ذكورية، ولكن بعد اختراع الكتابة. وأيا ما يكن الحال فلماذا استطاع الرجل أن يمنع المرأة من تعلم الكتابة والقراءة؟ ولماذا استسلمت هى له؟ وهذا لو كان هو الذى منعها ولم تَسْتَحْلِ هى الأمر. وإذا كانت المجتمعات البشرية أمومية فى بدء أمرها كما يقول (ص28) فما الذى قلب الوضع؟ ثم لماذا كل هذا الأسى على المرأة ما دامت قد أخذت نصيبها مبكرا من قيادة الأسرة، وتحول الميزان لصالح الرجل بعد أن ذاق الظلم زمنا؟ وكيف يمكن القول عند ذاك بأن اللغة ذكورية، مع أن المرأة كانت لها السيادة فى المجتمع، ومن ثم السيطرة على اللغة و"إنتاجها" حسب رطانته؟ ولدينا فى العربية طائفة من الكتب عن الإبداعات الأدبية للمرأة كتبها رجال، منها كتاب المزبانى عن "أشعار النساء" مثلا، وكتاب "الإماء الشواعر" لأبى الفرج الأصفهانى، وكتاب ابن طيفور عن "بلاغات النساء"، وما كتبه لسان الدين بن الخطيب عن أديبات الأندلس فى "الإحاطة فى أخبار غرناطة"، وما كتبه الإبشيهى فى "باب فى ذكر النساء وصفاتهن" من كتابه: "المستطرف من كل فن مستظرف"، وهو ما يدل أقوى دلالة على أن الرجل لم يكن يرى فى إبداع المرأة وكتابتها شيئا يضايقه البتة، بل كان يرحب بذلك. وانظر ما يقوله كل من هؤلاء الكتاب فى مقدمة كتابه عن المرأة وإبداعاتها تر مصداق ذلك. فطيفور مثلا يؤكد أنها تتفوق على الأدباء الرجال المحسنين. وقد أورد خطبا لها وأشعارا ومواقف مع زوجها قدرها المجتمع لها أيما تقدير.
وبالمناسبة فالنعمان بن أبى الثناء، الذى أشار إليه الغذامى هو واحد من علماء أسرة الآلوسى العراقية الشهيرة. وقد أشار د.على الوردى فى كتابه: "دراسة فى طبيعة المجتمع العراقى" إلى كتاب الآلوسى وما احتواه من دعوة إلى منع المرأة من تعلم القراءة والكتابة. وكتاب الآلوسى لم يطبع. وقد أشار الوردى فى كتاب له آخر عنوانه: "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق" إلى ما كان سائدا فى المجتمع العراقى من تحريم أشياء صرنا الآن نستعملها أو نفعلها ببساطة تامة دون أن نجد فيها أى شىء يدعو إلى تحريمها، بل دون أن يطوف بأذهاننا شىء من هذا البتة، إذ كان فى العراق مثلا ناس يحرمون قراءة الجريدة ودخول المدرسة وتعلم اللغة الإنجليزية ولبس القبعة وحلق اللحية واستعمال الملعقة في الأكل. وفي عام 1924م صدر في النجف كتاب للشيخ عبد الله المامقاني بعنوان "السيف البتار في الرد على من يقول إن الغيم من البخار"! بل إن خمسة كتب صدرت في العراق فى تلك الفترة تحرم حلق اللحية، ومنها كتاب هبة الدين الشهرستاني: "التفتيش في حلق الريش"!
فهل نقول إن تحريم حلق اللحية هو قانون تاريخى بنفس الطريقة التى وصف بها الغذامى كلام الآلوسى النعمان بن أبى الثناء؟ ترى أين هذه الفتاوى المضحكة الآن؟ لقد ذهبت مع الريح مثلما ذهب مع الريح كلام الآلوسى، الذى يكذّب ما قاله الغذامى بشأنه أنه كانت بمصر ولبنان وغيرهما من الدول العربية مدارس للفتيات تعلمهن لا القراءة والكتابة وحدها بل طائفة من العلوم والفنون مثل الفتيان سواء بسواء . ودعنا من أنه ما من بنت الآن فى أى بد عربى تقريبا إلا وتذهب للمدرسة وتتعلم القراءة والكتابة، بما يفيد أن أحدا لم ينصت إلى ما كتبه الآلوسى ولا أخذ به، على عكس ما يريدنا د. الغذامى أن نتوهم، وكأن ما كتبه الآلوسى هو قانون من القوانين الكونية لا مَعْدَى عنه ولا فرصة للإفلات منه. إن طبيعة الغذامى ككاتب تتلخص فى أنه يرمى بالكلام على عواهنه دون أن يقدِّر لرجله قبل الخطو موضعها، وهو مشهور بالاستعمال الفضفاض للغة حيث تفتنه الكلمات فينطلق مستعملا لها دون أن يحقق معناها أو يضبط اتجاهها. إنه يكتفى بالإمساك بالقلم والخط به على الورق دون أن يُعَنِّىَ نفسه أبدا بالتدقيق فيما يكتب. والحمد لله أن النساء، وكذلك الرجال، لا يتبعون خطاه فى الكتابة، وإلا لأفتى العبد لله الذى هو أنا أن الكتابة حرام حرام حرام، لا لأنها سبيل إلى كتابة الرسائل الغرامية، بل لأنها تنتهى بالقارئ إلى أن يفقد عقله، والعياذ بالله، كما يوشك أن يحدث لى الآن بسبب كتابات د. الغذامى.
ترى ما حكاية القانون التاريخى ذلك الذى يتحدث عنه د. الغذامى؟ إن القانون التاريخى هو جزء من القوانين الكونية، أى الأوضاع التى تجرى عليها الأشياء والكائنات ولا يمكنها أن تخرج عنها، وإلا لعُدَّ هذا معجزة، وهو ما لا يقع إلا للأنبياء. بل إن القرآن، حينما كان الكفار يتحدَّوْن سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام أن يأيتهم بآية، أى أن يصنع لهم معجزة، كان يرد عليهم بكلام المولى سبحانه: "وما منعَنا أن نرسل بالآيات إلا أن كَذَّب بها الأولون...". وهذه القوانين هى النظام الذى يسير الكون عليه منذ خلقه الله سبحانه وتعالى. فلو كان الكلام كما يقول د. الغذامى لكان معناه أن تحريم الكتابة والقراءة على الفتيات والنساء قانون أبدى لا مفر منه مهما حاول المحاولون الخروج عليه وتعليم النساء أن يقرأوا ويكتبوا. فهل الأمر كذلك؟ لقد قلنا إنه، فى الوقت الذى صدر فيه كتاب الآلوسى، كانت الفتيات فى مصر ولبنان وغيرهما من بلاد العرب يتعلمن فى المدارس العلوم والفنون المختلفة، لا القراءة والكتابة فحسب، فضلا عن التعليم الخاص الذى كانت توفره الأسر الغنية لبناتها فى البيوت على يد معلمين ومعلمات خصوصيين وخصوصيات. ثم ها هى ذى مدارس البنات قد انتشرت فى جميع أرجاء العالم العربى والإسلامى بحيث لم تعد هناك بنت لا تتعلم. وقبل ذلك كان النساء العربيات يتعلمن القراءة والكتابة وينظمن الشعر ويجلسن للتعليم، تعليم الرجال قبل النساء: فقيهات ومحدثات، ولا يكتفين بتحبير الرسائل الغرامية كما يخشى كارهو تعليمهن. ألم تكن عائشة وحفصة مثلا تعرفان القراءة والكتابة، وهما زوجتا رسولنا الأمى الذى لم يكن يستطيع قراءة ولا كتابة؟ وهذا فى عالمنا نحن العرب والمسلمين وحده، وهو ما لا يمثل من العالم كله إلا كسرا صغيرا. ولقد قرأت فى بعض المنتديات أن كتاب الآلوسى لا يزال مخطوطا لم يحقق أو ينشر. فهو إذن بلا قيمة. بل لقد قرأت فى ترجمة الآلوسى بموسوعة "دهشة" المشباكية ما قاله العلامة العراقى محمد بهجة الأثري المعاصر له من أن الآلوسى قد ألّف هذا الكتاب فى وقت كان لا يزال عنده بعض التأثر بمحيطه الجامد. فغالب الظن إذن أنه لم يثبت على ما سجله فى ذلك الكتاب عن تعليم المرأة. فكيف يقال إن تحريم القراءة والكتابة على النساء هو قانون تاريخى؟ كذلك قد فات الغذامى، الذى يفوته الكثير والكثير، أن القانون، تاريخيا كان أو غير تاريخى، لا يُفْرَض على الحياة فرضا بل يستنبط منها، بمعنى أنه ليس من المعقول أن يكتب أحدهم مثلا بأنه متى ألْقِىَ حجرٌ من نافذة فيجب ألا يسقط إلى أسفل بل عليه أن يرتفع إلى الأعلى حتى لا يصيب رأس أحد فيهشمه أو يجرحه. إننا فى مجال القوانين الكونية لا نفرض ما نريد، بل ينحصر دورنا فى استنباط ما نلاحظ. والقانون التاريخى يمثل جانبا من القوانين الكونية. والآلوسى، عندما كتب ما كتب، لم يكن يستنبط شيئا، بل كان يحاول أن يفرض رؤيته على المجتمع. بيد أن الغذامى لا يبالى بما يخطه قلمه كما قلت، بل يخبط عباراته كيفما اتفق. كما أن الآلوسى، حتى لو افترضنا أن ما يكتبه هو قانون تاريخى طبقا لما يريد الغذامى، لم يكن كاتبا عالميا يخاطب الناس فى كل أرجاء المعمورة، بل كاتبا عربيا كان يعيش فى فترة تاريخية معينة، وهى فترة كان العرب والمسلمون فيها متخلفين أشد التخلف على ما هو معروف. فكيف نتهم اللغة، اللغة بمعناها المطلق، اللغة عند كل الأمم، اللغة فى كل العصور، بأنها ذكورية بناء على كلمتين قالهما الرجل لا راحتا ولا جاءتا ولا اهتم أحد بهما ولا أثرتا فى أوضاع بلادنا تأثيرا يذكر أو لا يذكر؟ فانظر، أيها القارئ، يا هداك الله وهدانى معك وهدى أخانا د. الغذامى، كيف ينطلق د. الغذامى حين يكتب غير مبالٍ بمنطق أو عقل أو علم. لقد لاحظتُ هذا فيما يكتب منذ أول كتاب قرأته له وأنا بالطائف المأنوس فى بدايات تسعينات القرن الماضى حين سمعت بعض من حولى أول قدومى إلى السعودية يذكر الرجل بتبجيل ومهابة باعتبار أنه مفكر سعودى خطير الشأن، وهو ما دفعنى إلى البحث عن كتبه، وقرأت بعضها، وكان أولها كتابه: "الخطيئة والتفكير"، الذى كتبت عنه وعن غيره من كتب الرجل فصلا طويلا سجلت فيه خيبة أملى فيه ورصدت ما لاحظته على كتاباته من مآخذ قاتلة، وأهمها الثرثرة دون ضابط ولا رابط ودون اعتبار لما اصطلح عليه الناس فى نظام لغتهم. إنه قطار منطلق دون كوابح، قطار مؤهل لارتكاب المصائب فى كل لحظة. و أخيرا لماذا يعد كتاب الآلوسى قانونا تاريخيا، ولا يعد كتاب الأصفهانى: "الإماء الشواعر"، أو كتاب ابن طيفور: "بلاغات النساء"، أو كتاب السيوطى: "نزهة الجلساء فى أشعار النساء"، أو كتاب ابن القيم: "حكم تعليم النساء"، أو كتاب "المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين" لرفاعة الطهطاوى، أو كتاب "الإصابة في استحباب تعليم النساء الكتابة" للشيخ محمد العسافي التميمى، أو كتاب "عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان" لأبى الطيب محمد شمس الحق آبادى، أو كتاب قاسم أمين: "تحرير المرأة" مثلا، هو القانون التاريخى، وبخاصة أن هذه الكتب تمشى فى نفس اتجاه ديننا العظيم، وتمثل وضع المرأة فى الحضارة الإسلامية؟ بل لماذا لم يَعُدّ الغذامى قبل ذلك كله حديث الرسول: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" أو حديثه الآخر: "أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" أو سروره بتعليم الشفاء بنت عبد الله السيدة حفصة القراءة والكتابة هو ذلك القانون التاريخى؟ مجرد سؤال!
وقد وقعت على مقال مشباكى هام بموقع "alislah.org" عنوانه: "باحث مسلم يكتشف ثمانية آلاف عالمة بالحديث النبوى" يحسن إيراده هنا حتى يعرف القارئ كَمّ التدليس الذى يمارسه عليه د. الغذامى لغرض فى نفس يعقوب. يقول المقال: "وضع محمد أكرم ندوي الباحث المسلم في مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية في بريطانيا قاموسا بيوغرافيا للمحدِّثات المسلمات جاء في 40 مجلدا. ويرى الباحث أنه كان يعتقد، حين بدأ إعداد بحث عن عالمات الحديث النبوي الشريف في العالم الإسلامي، أنه لن يهتدي إلى أكثر من 20 أو 30 منهن. بيد أن رحلة البحث قادته إلى اكتشاف 8 آلاف محدِّثة. وبدلاً من كتاب واحد يحوي سِيَرَهُنَّ وجد أن قاموسه البيوغرافي للمحدِّثات المسلمات استغرق 40 مجلدًا. بدأ ندوي (43 عاما) بحثه قبل ثماني سنوات بالعكوف على تأليف قاموس للسير الذاتية للعالمات بالحديث النبوي الشريف. وقاده الغوصُ والتنقيبُ في معاجم العلماء والكتب التاريخية ووثائق الكتاتيب ورسائل شيوخها وفقهائها إلى فقيهة ولدت في بغداد في القرن العاشر جالت على سورية ومصر لتعليم النساء. وأفضى به بحثه إلى محدِّثة مصرية في القرن الثاني عشر أذهلت طلبتها من الرجال بحفظها نصوصا تعادل حِمْل جمل! وعثر أيضا على سيرة محدِّثة برعت في تدريس علم الحديث في المدينة المنورة في القرن الخامس عشر. بل اهتدى إلى عالمة في المدينة المنورة بلغت مرتبة الفقيهة في القرن السابع، وكانت تفتي في شؤون الحج والتجارة. ويطوف معجم المحدّثات الذي ألفه ندوي على عالمة عاشت في مدينة حلب السورية في العصور الوسطى لم تكن بارعة في الإفتاء فحسب، بل كانت تقدم المشورة لزوجها الأكثر شهرة منها في كيفية إصدار فتاواه. ووصفت صحيفة أميركية المعجم بأنه مذهل، وذلك بعدما أشارت إلى أن الإسلام عرف تعليم النساء منذ نشأته، خصوصا الأحاديث النبوية التي روتها أم المؤمنين السيدة عائشة. وتقديرات المستشرق جولدتسيهر أن نحو 15 في المائة من علماء الحديث النبوي المسلمين في العصور الوسطى كنَّ من النساء. وتشير الصحيفة إلى العالمة السورية أم الدرداء، التي نبغت في تدريس علوم الحديث في دمشق خلال القرن السابع، وكان خليفة الدولة الأموية من بين طلبتها. ويقول ندوي إنه يأمل بأن يقود صدور معجمه إلى إحياء سنة تعليم البنات شؤون دينهن. ويضيف أن النساء العالمات اللاتي درّسن الرجال هن جزء من تاريخنا". والآن ألا يحق لنا أن نتساءل وكلنا دهشة وغضب: كيف يا ترى ينقضّ الغذامى على مثال الآلوسى ويقبض عليه بأسنانه وأظافره، ويترك كل ما عداه؟
ومن مقال آخر نشره حسن المسعود على المشباك بعنوان "المرأة والخط" نقتطف السطور التالية التى تدلنا بما لا مجال فيه للمماحكة على أن كثيرا من النساء المسلمات، وهن اللاتى يُهْمِمْننا هنا، كن يكتبن لا بخط عادى فقط بل بخط جميل أيضا، إذ كان هناك خطاطات بارعات عربيات ومسلمات حفظ التاريخ لنا أسماءهن، وهو ما يدحض دعوى د. الغذامى التى لا تنهض على أى أساس سوى الادعاء والتحذلق: "في بداية الاسلام يذكر لنا التاريخ أسماء بعض النساء يمارسن الخط، ومن بينهن حفصة، الشفاء القرشية، عائشة، كريمة بنت المقداد، هند زوجة أبي سفيان، أم كلثوم بنت عقبة. وفي العصر العباسي في بغداد، كما في كل مكان كتبت به الألفباء العربية، كان هنالك العشرات من الخطاطات يعملن في المكتبات لنسخ الكتب. كذلك في الأندلس. وربما يبالغ بعض المؤرخين بالقول إن في جامع غرناطة وحده كانت تعمل بشكل يومي ألف امرأة لنسخ الكتب.
ومن مئات أو آلاف الخطاطات ذكر لنا التاريخ بعض الاسماء على فترة زمنية تقارب الألف سنة. وعلى الرغم من كون بعضهن كنّ يمارسن هوايات ومهنا أخرى، لكن التاريخ يسجل لهن دورا حقيقيا في حيوية فن الخط العربي واستمراره. وهنا نذكر بعضهن: الخطاطة فضل من القيروان تركت مصحفا بخطها 907م- الخطاطة الشاعرة لبنى عبد المولى، عالمة بالنجوم والحساب والعروض، كانت كاتبة للخليفة المستنصر بالله. توفيت عام 984م- الخطاطة القرطبية عائشة بنت أحمد، التي قيل عنها: لم يكن في زمانها من حرائر الاندلس من يعادلها علما وفهما وأدبا وشعرا، وكان لها مكتبة كبيرة. توفيت عام 1009م- الخطاطة درة من المشهورات في نسخ الكتب. تركت مصحفا بخطها. توفيت عام 1019م- الخطاطة فاطمة البغدادية اختيرت عام 1087م لخط معاهدة الصلح بين خليفة بغداد القائم بالله وبين ملك الروم في بيزنطة. ويقال عنها إنها كانت من أحسن الناس خطا على طريقة ابن البوّاب- الخطاطة زمرد بنت جاولي أخت الملك الدقاق صاحب دمشق. استنـسخت عدة كتب وشـيدت المدرسة الخاتونية. توفيت عام 1161م- العالمة الخطاطة شهدة بنت الإبري (1089- 1178م). كانت تعلم عددا كبيرا من هواة الخط. وقد تعلمت الخط من أحد تلاميذ ابن مقلة، وتعلم منها الخط ياقوت الحموي- الخطاطة سيدة الغـتبدي. ولدت في تونس. نسخت بيدها عدة كتب، وعلمت ابنـتيها اللتـين واصلتا الخط بعدها. توفيت عام 1249م- الخطاطة عائشة بنت عمارة، شاعرة مغربية في القرن الرابع عشر خطت بيدها "يتيمة الدهر" للثعالبي في ثمانية عشر جزءا- الخطاطة عائشة الباعونية، شاعرة أديبة وفقيهة لها مؤلفات كثيرة خطتها بيدها محفوظة في دار الكتب بالقاهرة. توفيت عام 1516م. وقد أقـيمت ندوة عن أعمالها الأدبية في الأردن عام 2007م- الخطاطة فاطمة الحلبية. ولدت عام 1473م. اشتهرت بحسن خطها، وتركت كتبا مخطوطة-الخطاطة مريم بنت مصطفى. استـنسخت بعض الكتب منها "مختار الصحاح" للرازي 1551م- الخطاطة زينب الشافعي، عالمة أديبة وشاعرة ولدت في دمشق عام 1510م، وتركت كتبا مخطوطة بيدها- الخطاطة أسماء عبرت. ولدت عام 1780م تركت لوحة حلية محفوظة في قصر طوب كبير، إسطنبول، تركيا- الخطاطة رابعة بنت ملا نازك (القرن الثامن عشر). تركت كتاب "شرح المواقف"، وكتبت النص بأسلوب النسخ وبحروف سوداء، والعناوين باللون الاحمر- الخطاطة فاطمة بنت ابراهيم (القرن الثامن عشر). كانت عالمة تجيد أساليب خط النسخ والثلث والجلي ديواني- الخطاطة زاهدة بنت عالى باشا. بعض خطوطها في مساجد وتكايا الأستانة 1873م- الخطاطة حافظة خاتون. كانت تجيد أساليب النسخ والثلث، وتركت رقعا خطية وآيات قرآنية. توفيت في بغداد عام 1928م- الخطاطة صالحة خاتون. ولدت في بغداد، ودرست الخط على يد سفيان الوهبي، وكتبت مصحفا محلى بالذهب بقلم النسخ والثلث على قاعدة ياقوت المستعصمي- فضة البلاغي. ولدت في النجف، وتوفيت عام 1818م. خطت كتاب "كشف الغطاء" بحوالي 350 صفحة.
وفي زمننا الحالي تواصل العديد من الخطاطات في العالم العربي- الاسلامي الخط. وكما ذكرت أعلاه فإن هذه الأسماء تغطي أكثر من ألف سنة للتأكيد على حضور الخطاطات باستمرار في الزمن الماضي. ولكن هنالك روايات عديدة تقول بوجود قاعات لنسخ الكتب فيها العشرات من النساء. ويذكر المؤرخون مثلا أنه كان في مكتبة قرطبة مائة وسبعون امرأة ينسخن المصاحف. كما توجد أخبار مشابهة لمكتبات أخرى عديدة في العالم العربي- الإسلامي. ومما يروى عن الخط سابقا هذه القصة الطريفة التي حدثت في زمن الكامل أبي الفتح عام 1226م: فقد أُحْضِرَت امرأة اسمها خداوري من الإسكندرية وُلِدَتْ من غير يدين، فجيء بها بين يدي الوزير رضوان، فعرَّفته أنها تخط برجليها، فأحضر لها دواة، فـتناولت برجلها اليسرى قلما، فلم ترض شيئا من الأقلام المبرية التي أحضروها، فأخذت السكين وبرت لنفسها قلما وشَقَّـْته وقَطَّتْه، وأخذت ورقة فأمسكتها برجلها اليسرى، وكتبت باليمنى أحسن مما تـكتبه النساء بأيديهن. وعند ضعف بصر الخليفة الناصر لدين الله في أواخر أيامه استحضر خطاطة تدعى: ست نديم البغدادية، كانت تكتب خطا قريبا من خطه، فجعلها بين يديه تكتب الأجوبة والرقاع.
الأجواء الحضارية كانت تشجع الحضور للمرأة في مجال الفن. فعندما أسـس الخليفة المأمون دار الحكمة، وأراد ترجمة كل كتاب معروف في العالم إلى اللغة العربية، شجع ذلك مهنة الخط للرجال والنساء. وفي أحد الايام، وهو يتجول في مكتـبته الكبيرة، ينظر الخليفة إلى أصابع شابة خطاطة اسمها منصف، فتملي عليه قريحته هذه الابيات:
أرَاني مَنَحْتُ الـحـُبَّ من ليس يعرفُ * فما أنصَفتْني في الـمَحَبّةِ مُنْصِفُ
سريعة جَرْي الخط تنظم لؤلؤا * وينثر دُرًّا لفظُها المترشف
وَزادت لدينا حُظْوةً ثم أَعْرَضَتْ * وفي إصبعَيْها أسمرُ اللون ِ أهيفُ
أصمُّ، سميعٌ، ساكنٌ، متحركٌ * ينالُ جَسِيمات العُلَى وهو أعجفُ
... ويعجب أحمد بن صالح بشابة خطاطة "كأن خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أناملها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها سيف لحظها، وكأن مقطها قلب عاشقها"... ومن تعليق لأبى الفرج الاصبهاني حول عريب، وهي امرأة مشهورة في زمن المأمون تمارس الخط أيضا: "كانت مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة وجودة الضرب وإتقان الصنعة، والمعرفة بالنغم والاوتار، والرواية للشعر والأدب".
وفى "الإصابة" لابن حجر العسقلانى لما دخل نصر بن حجاج البصرة كان يدخل على مجاشع بن مسعود لكونه من قومه، ولمجاشع امرأة جميلة يقال لها: الخضراء، فكان يتحدث مع مجاشع، فكتب نصر في الأرض: إني أحبك حبا لو كان فوقك لأظلك أو كان تحتك لأقلك. وكانت المرأة تقرأ، ومجاشع لا يقرأ، فرأت المرأة الكتابة فقالت: وأنا. فعلم مجاشع أن هذا الكلام جواب، فدعا بإناء فكبَّه على الكتابة ودعا كاتبا فقرأه، فعلم نصر بذلك فاستحيا وانقطع في منزله، فضَنِىَ حتى صار كالفرخ...". وفى "المطرب من أشعار أهل المغرب" لابن دِحْيَة الكلبى، و"بدائع البدائه" لابن ظافر الأزدى: "قال ابن شرف: واستخلانا المعزُّ (بن باديس) يوما وقال لنا: أُحِبّ أن تصنعا لي شعرا تمدحان فيه الشَّعْر الرقيق الخفيف، الذي يكون في سوق بعض النساء، فإني أستحسنه، وقد عاب بعضُ الضرائر بعضَ من هذا فيه، وكلهن قارئات كاتبات، فأُحِبّ أن أُرِيَهُنّ هذا، وأَدَّعِى لهن أنه قديم لأحتج به على من عابه، وأَسُرّ به مَنْ عِيبَ عليه. فانفرد كل منا وأتممنا الشعرين في الوقت". والشاهد فى الحكاية أن الضرائر اللاتى يشير المعز إليهن كن جميعا قارئات كاتبات.
ولعبد الله عفيفى كتاب بعنوان "المرأة العربية فى جاهليتها وإسلامها" تتبع فيه وضع المرأة العربية طوال تاريخها قبل الإسلام وبعده، وأورد الكثير من الروايات التى تبين المكانة الاجتماعية والعلمية والأدبية التى بلغتها. والكتاب كبير، وسوف أجتزئ منه ببعض الفقرات الدالة على مساهمتها الواسعة فى مجال العلم ومعرفتها للكتابة والقراءة مثل الرجل سواء بسواء، على عكس ما يحاول د. الغذامى إيهام القراء به اعتمادا على نص منزو فى كتاب لا يعرفه إلا الذين يبحثون بمنكاش عن مثله يريدون من وراء النكش شيئا بعينه. قال عفيفى مثلا عن المرأة فى ميدان رواية الحديث: "امتازت العالمة المسلمة بالصدق في العلم والأمانة في الرواية والحيدة عن مواقع التهم ومساقط الظّنَن مما لم يوفق إليه كثيرون من الرجال. ومعاذ الله أن نقول ذلك محاباة أو مشايعة لموضوع كتابنا. فنحن أولاء ضاربون لك مثلا من إقرار عظماء بما نقول: الحافظ الذهبي المتوفَّى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ثقة من ثقات المسلمين وعظيم من عظماء المحدّثين، ألف كتابه: "ميزان الاعتدال" في نقد رجال الحديث خرّج فيه أربعة آلاف متهم من المحدثين، ثم أتبع قوله بتلك الجملة التي كتبها بخطه الواضح وقلمه العريض فقال: "وما علمتُ من النساء من اُّتهِمَتْ ولا من تركوها". ولعل قائلا يقول: وما للنساء ورواية الحديث؟ وهل تركهن الذهبي إلا من قلة أو ذلة؟ ونقول نحن إن حديث رسول الله منذ عهد عائشة أم المؤمنين حتى عهد الذهبي ما حُفِظ ولا رُوِيَ بمثل ما حُفِظ في قلوب النساء ورُوِيَ على ألسنتهن. ذلكم الحافظ ابن عساكر المتوفَّى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة أوثق رواة الحديث عقدة، وأصدقهم حديثًا، حتى لقبوه بـ"حافظ الأمة"، كان له من شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء. فهل سمع الناس في عصر من العصور وأمة من الأمم أن عالمًا واحدًا يتلقى عن بضع وثمانين امرأة علمًا واحدا؟ فكم ترى منهن من لم يلقها أو يأخذ عنها، والرجل لم يجاوز الجزء الشرقي من الدولة الإسلامية، فلم تطأ قدمه أرض مصر ولا بلاد المغرب ولا الأندلس، وهي أحفل ما تكون بذوات العلم والرأي من النساء...
لم تقف بالمرأة العربية قريحتها عند حدّ النبوغ في التشريع الإسلامي والأدب العربي، فقد أخذت بنصيب موفور من النهضة التي استحدثها المسلمون عمَّن سواهم من الأمم ذوات التاريخ الحافل والمجد القديم. وأخص ما عُنِينَ به الطب. فهنّ، فوق ما ورثنه عن أمهاتهن من أَسْو الجراح وجَبْر العظام، بَرَعْنَ
إلى غير حدّ في بقية فروع الطب مما نقلوه عن اليونان والسريان والهند حتى كانت بغداد وقرطبة وما سواهما من مدن العراق والأندلس مسارح للكثيرات منهن ممن خُصِصْنَ بعلاج الأجسام ما ظهر منها وما بطن. ومن هؤلاء أخت الحفيد بن زهر الأندلسي وابنتها، فقد حدّث صاحب "طبقات الأطباء" عن نفوذهن في فروع الطب جميعًا، وفي أمراض النساء خاصة، وكان المنصور بن أبي عامر وارث الخلافة الأموية بالأندلس لا يدعو لنسائه وعامة أهله غيرهما. ومنهن زينب طبيبة بني أود، وكان أخص ما برعت فيه علاج العين بالجراحة أو إجراء العمليات الجراحية للعين. وغير أولئك كثيرات، وسنختصهن ببحث طويل في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ولا يفوتنا أن نختم حديثنا بشيء مما كتبه الكاتب الفيلسوف العظيم جوستاف لوبون في كتابه: "حضارة العرب" عن المرأة المسلمة وأثرها العلمي. قال: "أما نباهة شأن المرأة وسمو مكانها في عصور العرب الواهية فمما ينبئ عنه عدد اللواتي امتزن بنفاذهن في العلوم والآداب من نساء العرب". ولقد نبغ منهن عدد موفور في العهد الأموي بالأندلس، والعباسي ببلاد المشرق. ولنذكر من بين أولئك وَلاَّدَة بنت المستكفي بالله أمير المؤمنين بالأندلس. كتب كوند مجملا عمن كتب من مؤرخي العرب عن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، قال: كان هذا الخليفة وسط ما يحيط به من بدائع "الزهراء" وعجائبها يسره أن يستمع الغناء مما كانت تصوغه جاريته وصاحبة سره مُزْنة من الأناشيد العذبة الرقيقة. ومن أولئك الناهضات النابهات عائشة إحدى بنات السَّراة بقرطبة. وهي التي يقول ابن حيان عنها إنها أجمل وأعقل وأعلم نساء عصرها، وكانت من أفتن النساء بجمالها وأدراهن بفنون الشعر. ومما قال بعض المؤرخين عن الحَكَم بن الناصر: "في ذلك العهد الذي أُوِلعَ فيه أهل الأندلس بالشعر وجَنَوْا قِطَاف الفنون والعلوم كان النساء في عزلتهن يقبلن على الدرس وينصرفن إليه، وأكثرهن قد امتاز بمضاء الذكاء وانفساح مدى العلم. وكان في قصر الخليفة بين نسائه لُبْنَى تلك التي جمعت إلى جمالها الساحر إحاطتها بالنحو والشعر والرياضة وما سوى ذلك من علوم وفنون. وكانت تكتب رسائل الخليفة بأسلوبٍ يملأ النفس روعة، وخَطٍّ يملأ العين جمالا، فهي كاتبة قصره، ومنشئة رسائله. ولم يكن بين نساء القصر من يساميها عقلا وفطنة ورشاقة لفظ وسماحة قافية. وفاطمة، وَمَثَلُها في رجاحة العقل وسماحة القول مَثَلُ لبنى. وكان شعرها كِفَاء نثرها، وفي كليهما أمعنت حتى بلغت غاية لا تنال. وكان العلماء والشعراء يطربون لشعرها وما فيه من ألق وإبداع. ولها مكتبة جمعت أَجَلَّ الكتب وأنفسها. ومنهن خديجة، وهي التي جمعت، إلى عذوبة المنطق وروعة الشعر، رخامة الصوت والذهاب في فنون الغناء. ومريم، التي كانت تغدو على بنات سادات إشبيليه فتعلمهن القريض، وكان لها في التعليم ذكر نابه وشهرة ذائعة. وقد تخرج في مدرستها طائفة عظيمة من شهيرات النساء. وراضية، ويدعونها: "الكوكب الزاهي"، وهي التي وهبها الناصر لابنه الحكم، وكانت آية العصر في الأدب والتاريخ. وقد تنقلت في بلاد المشرق إثر موت الحكم، فكانت موطن الإجلال والإكبار من العلماء جميعًا".
ومن كتاب "تاريخ آداب العرب" لمصطفى صادق الرافعى ننقل بعض أسماء النساء الأديبات الكاتبات فى الأندلس. قال: "سبقت لنا كلمات خفيفة عن الأدب النسائي في الأندلس، وعَدَدْنا أسماء بعض جواري عبد الرحمن الأوسط. وسنعد الآن المشهورات من سائر أولئك الأدبيات: فأُولاهُنَّ وأَوْلاهُنَّ بالتقديم لبنى كاتبة الخليفة الحكم المستنصر بالله، أي ناسخة. كانت تكتب الخط الجيد، نحوية شاعرة عروضية بصيرة بالحساب مشارِكة في العلم لم يكن في مصرهم أنبل منها، وتوفيت سنة 374. وقد عدها السيوطي في "طبقات اللغويين والنحاة". وكانت تعاصرها حسانة التميمية بنت أبي الحسن الشاعر، والشاعرة الغسانية، وحفصة بنت حمدون. واشتهرت بعدهن عائشة القرطبية المتوفاة سنة 400. لم يكن في زمنها من حرائر الأندلس من يَعْدِلها علمًا وفهمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة. تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرف لها من حاجة. ثم اشتهرت في آخر القرن الخامس مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري الشاعرة المشهورة، وهي التي كانت تعلم النساء الأدب. وقد كثرت الأديبات في هذه المائة، فكان فيها أم العلاء بنت يوسف الحجارية، والعروضية مولاة أبي المطرف بن غلبون اللغوي، وقد أخذت عن مولاها النحو واللغة، وفاقته في ذلك، وبرعت في العروض. وكانت تحفظ "الكامل" للمبرد، و"النوادر" للقالي وشرحهما (ص430 ج 2: نفح الطيب)، ويؤخذ عنها الأدب، وتوفيت سنة 450. وولاّدة الأديبة الشهيرة المتوفاة سنة 484، ومهجة القرطبية صاحبتها وتلميذتها، ونزهون الغرناطية البارعة، وحمدونة بنت زياد المؤدب التي يلقبونها بـ"خنساء المغرب" لقوة شعرها وسمو إبداعها، ولها شعر مطرب (ص491 ج2: نفح الطيب). والعبادية والدة المعتمد، واعتماد حَظِيّته، وبثينة بنته، وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، وغاية المنى جاريته، وغيرهن. ثم اشتهر في أوائل القرن السادس الأديبة الشلبية، وأسماء العامرية، وحفصة الركونية، وهي أديبة الأندلس في هذه المائة".
ووجد في التاريخ الإسلامي نوابغ من النساء في كافة الفنون والعلوم. ولم تغفل كتب الطبقات الترجمة للمرأة المسلمة، ففي كتاب "الطبقات الكبرى" لابن سعد مثلا ذكر كثير من الصحابيات والتابعيات الراويات. وخصص ابن الأثير جزءا كاملا للنساء في كتابه: "أُسْد الغابة". وفي "تقريب التقريب" لابن حجر العسقلاني أسماء 824 امرأة ممن اشتهرن بالرواية حتى مطلع القرن الثالث الهجري. وأورد السخاوي في "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" أكثر من 1070 ترجمة لنساء برزن في ذلك القرن معظمهن من المحدثات الفقيهات. فالمرأة المسلمة كانت تتعلم وتعلم، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها، وتصنف الكتب وتفتي. وفي وقت من الأوقات لم تكن العروس تجهَّز إلا ومعها بعض الكتب الشرعية النافعة. ذكر الإمام الذهبي أن البِكْر كان في جهازها عند زفافها نسخة من كتاب "مختصر المزني". وكان في قرطبة وحدها دكان نسخ واحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات لطلاب الكتب النادرة. وقد نقلت هذه الفقرة من مقال بمنتدى "ملتقى أهل الحديث" عنوانه: "المرأة العاملة" كتبته أم أحمد المكية، وأوردت فيه مراجعها التى استندت إليها فى كل ما ذكرته.
ثم إننا نفاجأ، بعد كل ما قاله د. الغذامى عن ذكورية اللغة طوال صفحات الكتاب، أن نسمعه يقول (ص181) إن اللغة كانت فى الأصل أنثوية ثم صارت ذكورية. متى؟ وكيف؟ ومن الذى شاهد ذلك؟ وأين الدليل؟ ثم ما المقصود بأنثوية اللغة وذكوريتها؟ لا جواب لدى الكاتب على هذه الأسئلة للأسف. والواقع أن اللغة ليست ذكورية ولا أنوثية، بل تعبر عن الذكورة والأنوثة جميعا وتتيح لكل من الطرفين أن يقول ما يريد عما يريد. وبالمناسبة فالغذامى فى الواقع لا يقصد اللغة بل التقاليد، إلا أنه يخلط بين هذا وذاك. فاللغة لم تنزل جاهزة على البشر بحيث يصح أن نصنفها على أنها ذكورية أو أنثوية، بل هى انعكاس لأوضاع المجتمع وتقاليده وتفكيره وقيمه ومبادئه... إلخ. إلا أن قطاعا ضخما من مثقفينا يردد ما يصله من الفكر الغربى بعُجَره وبُجَره دون أن يُعْمِل فيه عقله النقدى، بل أحيانا ما تكون مهمته التى يكلَّف بها أن ينشر هذا الفكر ويُسَوِّقه بين الناس حتى لو بان له أنه فكر معطوب أو مدخول.
والمضحك أن د. الغذامى، رغم ذلك كله، يقول (ص57 وما بعدها) إن شهرزاد كانت تمارس على شهريار الرجل سلطة اللغة. أى أن الأنثى كانت تملك اللغة كما يملكها الرجل فى تلك العصور، أى قبل زمن الكتابة، وتتسلط بها عليه وتهبه عن طريقها سكينة الروح وشفاء النفس طبقا لكلامه (ص61- 62)، وأنها قد مارست فى "ألف ليلة وليلة" كل شىء من الإبداع اللغوى شعرا وأمثالا وخيالا وتمثيلا (ص68)، وهو ما ينقض كل ما قاله من قبل. بل إنه ليجعل "ألف ليلة" كلها نصا أنثويا (ص68، 72)، بما يعنى أن اللغة ليست ذكورية دائما، فها هو ذا نص لغوى ساحر يتسلط على الرجال ويغيرهم إلى ما تريده المرأة، وفى نفس الوقت هو نص أنثوى. فالنص عنده تأليف أنثوى، وهو ما يعنى أن الكتابة (بمعنى التأليف، وهو المهم) كانت معروفة لدى النساء حتى لو كان الرجل هو الذى يدون ما تكتب المرأة كما هو الحال هنا حسب كلامه (ص61، 68). لقد قال ذلك فى البداية فى شىء من التردد، ثم عاد فقاله بيقين لا أدرى من أين له به (ص80- 81، 83). ليس ذلك فقط، بل إن المرأة التى ألفته قرأت، حسب كلامه، المئات من أمهات الكتب العربية والإسلامية (ص70). كذلك فالكتاب يثبت أن المرأة أفضل من الرجل فى كل شىء (ص85)، وهو ما ينقض كل ما قاله من أساسه، إذ ها هو ذا مجتمع ذكورى يقبل أن تؤلف امرأة كتابا تثبت فى قصة من قصصه (هى قصة "تودد" الجارية) أن المرأة أفضل من الرجل ولا يفكر الرجل فى مصادرة الكتاب أو البحث عن مؤلفته لمعاقبتها. وطبعا نحن لا نؤمن بأن مؤلفة الكتاب هى شهرزاد، بل هو تأليف رجالى كما هو معروف، إلا أننا نأخذ المؤلف بما يقول لنبين ما فى كلامه من تناقض غير مقبول، وأن ما يكتبه لا يعدو أن يكون فقاقيع فكرية إن كان للفكر صلة بما يقول د. الغذامى. ثم إن جميع القصص التى خلفتها لنا الثقافة الإسلامية تقريبا هى قصص كتبها رجال وموجهة إلى الجمهور بنوعيه رجالا ونساء، وهو ما يعنى أن أن الحَكْى لم يكن مقصورا على المرأة، بل كان يمارسه الرجل على عكس ما يزعم الكاتب من أن الحكى وظيفة أنثوية. بل إن كثيرا من أبطال "ألف ليلة" هم الذين يروون بالفعل قصصهم لا شهرزاد.
ويتصايح الغذامى وأمثاله دوما بأن المرأة مقموعة قمعها الرجل، مع أن المرأة لم تكن يوما مقموعة بالمعنى الذى يقصدونه، فهى الحبيبة والخطيبة والابنة والزوجة والأم والأخت والجارة والخاطبة والطبيبة والممرضة والمدرسة والمحامية والشاعرة والكاتبة والإدارية، فهل كل هؤلاء مقموعات؟ وماذا نفعل بالأشعار التى تصورها قِبْلة قلب الرجل وحلم خياله ومحور وجوده وسر سعادته؟ ثم هل من الممكن أن كل زوجه كان يقمع زوجته على طول الخط فلا يأخذ رأيها ولا يستعين بها فى أى من أموره؟ وحتى لو كان يردد ما قد يقلل من قيمتها فى بعض الأحيان فحقيقة الأمر أن هذا من الأشياء التى يرددها الواحد منا، لكنه فى الواقع يسير على سنة أخرى غير ما يقول؟ والرجل قد يضيق بخلفة البنت، لكنه بعد قليل تغلبه مشاعر الأبوة والحنان والحب والخوف عليها والعمل على توفير حاجاتها وتزويجها. أما الأم فكان لها دائما وأبدا الاحترام والإجلال... كذلك فما سجله ابن الجوزى فى كتابه: "أخبار النساء" فى "باب ما جاء فى خلق النساء" من أوصافهن فى كل وضع وشكل وخلق ومنظر يدل على مدى اهتمام الرجل العربى بها ولا يمكن أن يكون دليلا على قمعه لها. وحتى لو كانت فى الظاهر خاضعة فإنها كثيرا ما تكون مخضوعا لها من جانب الرجل رغم ما قد يبدو من ضعفها. انظر مثلا إلى قول مى زيادة فى كلامها عن مُتْحَف اللُّوفْر: "هذا قصر الملك- الشمس، الذى كان يهاب صولة النساء فى حين كان أصحاب التيجان يهابونه" . ويُذْكَر أن القائد الفرنسى نابليون بونابرت قال لابنه يوما: أتعلم يا بنىّ أنك أقوى إنسان فى هذا العالم؟ فقال ابنه: وكيف يا أبى؟ قال نابليون: أنا أَحْكُم العالم، وأمك تحكمنى، وأنت تحكم أمك. وفى رواية أخرى أن قائل هذا الكلام أحد القواد الأثينيين. وفى كثير جدا من الأحيان كانت النساء ذوات سلطان قوى فى قصور الخلفاء العباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين: الحرائر منهن والجوارى على السواء، وكذلك الأمر فى الغرب. وليس الذى صنعته مارى أنطوانيت، التى كانت السبب الحاسم فى انفجار الثورة الفرنسية ضد حكم زوجها لويس السادس عشر، ولا الذى صنعته مارى أنطوانيت الثانية، سوزان ثابت، بحسنى مبارك وبرجال الدولة بل بالدولة كلها، وكان سببا رئيسيا لقيام الثورة المصرية الأخيرة، بالذى يخفى على أحد. ودعنا من الكلام عن الفنانات والراقصات والمومسات والدور الذى يلعبنه فى أوساط كبراء الدول وينفِّذْن من خلاله ما يشأن دون حسيب أو رقيب. كما قامت بسبب المرأة الحروب كما فى حرب طروداة، التى اشتعلت بسبب هيلانة، والحرب التى اشتعلت واستمرت أربعين عاما بين قبيلتى بكر وتغلب فى الجاهلية بسبب البسوس خالة كليب، والحرب التى دارت بين المسلمين فى المدينة وبين اليهود بسبب المرأة التى ربط أحفاد القردة والخنازير ذيل ثوبها فى السوق فانكشفت سوأتها، وكما فى فتح عمورية بسبب المرأة التى اعتدى عليها الروم فى مدينة من مدن الحدود بينهم وبين الدولة العباسية، فصرخت: وامعتصماه! وكم ارتكبت جرائم قتل بسببها، إذ أغرت بيلاطسَ الحاكم الرومانى فى فلسطين قبيل دعوة المسيح عليه السلام الفتاةُ سالومى بنت زوجته فجَزَّ رقبة يحيى عليه السلام، كما حرضت إحدى جميلات الخوارج رجلا منهم على قتل علىّ بن أبى طالب، فقتله. وعندنا أيضا بلقيس والزباء وسجاح وكاهنة البربر وشجرة الدر والملكات الكثيرات اللاتى حكمن بلادهن فى أنحاء العالم .
ومن الناحية الأخرى لا ينبغى أن ننسى أن الرجل أيضا يمكن أن يكون مقموعا وتشترك فى قمعه المرأة كما هو الحال فى حالة فيصل أحد أبطال رواية "بنات الرياض"، الذى كان يحب ميشيل الأمريكية السعودية، ثم حين فاتح أمه برغبته فى الاقتران بها ثارت عليه ورفضت الفكرة، وكانت هى أول عائق فى سبيل تحقيق سعادته بحجة التقاليد وما إلى ذلك. ومثله فى ذلك فراس فى نفس الرواية. وأحيانا ما يطلِّق الرجل زوجته التى يهيم بها نزولا على إرادة أمه. فهذا قمع له على أيدى النساء. كما كان كثير من زوجات الملوك يقمعنهم فى غير قليل من الأحيان وينزلونهن على رغبتهن دون أن يملكوا لما يقلن رفضا. وبالمثل تتحكم كثير من الزوجات فى أزواجهن ويقمعنهم. فليس القمع، إن كان هناك قمع عام للمرأة ولم تكن المرأة راضية بالوضع لا ترى فيه غضاضة وتراه شيئا عاديا ولا تجده قمعا ولا يحزنون، هو من الرجل للمرأة دائما، بل قد يكون من المرأة للرجل أيضا.
كذلك ينبغى التفرقة بين القمع المزعوم فى كثير من الحالات وبين قِوَامة الرجل على زوجته. فالحداثيون، الذين يهرفون بما لا يعرفون ويروجون ما يُطْلَب منهم ترويجه لمصلحة بعض الجهات، يخلطون بين هذا وذاك. نعم نحن مع قوامة الرجل على المرأة، لكننا فى ذات الوقت لسنا ولا يمكن أن نكون مع قمع الرجل للمرأة، بمعنى حرمانها من حقوقها وإهانتها وتحقيرها والنظر إليها على أنها أدنى فى الإنسانية من الرجل أو التطير بها على أساس أنها شؤم أو أن مشورتها تؤدى إلى خراب البيوت... إلى آخر هذا الهراء السمج، أما نشوزها على زوجها دون سبب سوى الاستجابة لما يروجه ويَزِنّ به على آذانها شياطين الإنس المدخولو الضمير الفاسدو النية فهذا ليس من الحقوق النسائية فى شىء، بل هو فراغ فى العين والعقل والقلب والضمير، والعياذ بالله. وإلا فهل كانت أمهاتنا وجداتنا وعماتنا وخالاتنا وأخواتنا وجداتنا مقموعات لا قيمة لهن فى نظر أزواجهن ويعاملونهن كما لو كن حيوانات لا إنسانات؟ معاذ الله أن يكون هذا هو الوضع.
ومن تناقضات د. الغذامى أيضا التى تدل على الافتقار إلى التفكير المحكم اندفاعه (ص72) فى الهجوم الصاعق على شهريار لأنه كان يقتل كل ليلة فتاة، وامتداحه فى نفس الوقت المجتمع النسائى الذى كان يقتل كل ولد يولد لأية امرأة منه وترحيبه وسروره الشديد بذلك (ص112- 113)، مع أن جريمة شهريار لا تتسامى إلى جريمة ذلك المجتمع النسائى كما هو واضح، إذ أقصى ما كان يفعله هو قتل زوجاته لما قاساه من خيانة بعضهن له، فى حين أن النساء فى تلك المجتمعات قد نَفَيْنَ الرجال تماما، فكن يقتلن كل وليد ذكر، ويستقبلن بالليل الرجال ينامون معهن ثم ينصرفون بعد ذلك عن البلد. ألم أقل إن الأمر يحتاج إلى تشريح نفسى يضع الأمور فى نصابها فنعرف لم كل هذا العداء لجنس الرجال تظاهرا بالعطف على جنس النساء والزعم بأنهن مظلومات مقموعات، على شِنْشِنَة الغربيين، الذين يسعدون حينما يجدون من بين ظهرانينا نحن العرب والمسلمين من يردد كلامهم الذى يَدَّعُونه علينا وعلى مجتمعاتنا وقيمنا وديننا وأوضاعنا؟ ومن الغريب غير المفهوم أن يصف د. الغذامى (ص113- 114) ما قاله القزوينى فى"آثار البلاد وأخبار العباد" عن الجزيرة التى لا يسكنها سوى النساء وعن تلقحهن من الريح ومن ثمار شجرة عندهن يأكلنها فيحبلن، بأنه خيال من خيالات النساء ردا على تعسف الرجال معهن، إذ أردن ألا يكون للرجال فى حياتهن وجود، مع أن راوى القصة رجل هو القزوينى لا امرأة، كما أنه لم ينقلها عن امرأة، بل هى قصة منتشرة يرويها الجميع، ورواتها هم الرجال لأن الرجال فى تلك العهود كانوا هم الرحالة الذين يسافرون إلى البلاد البعيدة ويعودون فيحكون مثل تلك الحكايات. ولقد نص القزوينى نفسه على أن رجالا من الصين هم الذين أَتَوْا بخبر هذه الجزيرة بتكليف من ملكهم. لكن د. الغذامى يتجاهل هذا كله وينسب اختراع الحكاية إلى النساء، اللاتى يزعم أنهن إنما ابتدعنها انتقاما من جنس الرجال. ومن المضحك، ومعظم ما يكتبه مضحك، أنه يجعل من "ألف ليلة وليلة" ردا أنثويا قويا على الفحولة الذكورية عند العرب (ص114)، مع أن أصلها فارسى لا علاقة له بالعرب من بعيد ولا من قريب. ولكن متى كان د. الغذامى يهتم بمنطق أو عقل أو تاريخ؟ على أنه إذا كان فى الكتاب بعض حكايات تنتصر للمرأة فكثير من حكاياته يحمل على المرأة حملة شعواء ويصورها خائنة مستعدة للانحراف مع أول سانحة، ويرسم للرجل لوحات ساطعة تظهره بطلا مقداما ومَلِكا كريما وقائدا مغوارا وزوجا شهما وتاجرا بارعا ورحالة مغامرا لا يأبه بالأخطار وراوية فاتن القصص والحكايات... إلخ. فيا هل ترى ماذا يقول د. الغذامى فى هذا؟
وفى الصفحتين السابعة والستين والثامنة والستين يقول الغذامى: "تقوم "ألف ليلة وليلة" على الحَكْى (المشافهة) بين امرأة وزجها. وهذا يعنى تحديد المجال حسب حدود المسافة ما بين اللسان والأذن، وما بين الجسد والجسد. والعلاقة بين المرسِل والمرسَل إليه هى علاقة زواج وإفضاء، والحدود بينهما تضيق وتتقارب إلى الملامسة والمهامسة. وهذا هو مجال الأثنى، التى يعمل اللسان بالنسبة لها بوصفه آلة الاتصال والتعبير الوحيدة. وليس للمرأة فى زمن الحَكْى (ما قبل زمن الكتابة) سوى اللسان وسيلة وأداة للاتصال. وتختلف وظيفة هذه الآلة عن حالها عند الرجل، فالرجل يستعمل اللسان للخطابة والاتصال الجماهيرى، أما المرأة فتحكى فى مجال محدد ومؤطَّر مثل لسان شهرزاد، الذى يتجه إلى مستمع محدد وفريد. وهذا هو المجال الأنثوى بحدوده المرسمة المقررة". هذا ما قاله د. الغذامى نصا، وواضح أنه لم يحدد لنا متى بدأ زمن الكتابة، بل أطلق الكلام إطلاقا على عادته فى ترك قلمه يسير على هواه دون أن يلجمه بلجام المنطق، وإن كان لنا أن نفهم من خلال كلامه أن "ألف ليلة وليلة" تنتمى إلى ما قبل زمن الكتابة، وإلا ما قال إن حكايات شهرزاد تنتمى إلى زمن الحكى والمشافهة . وبطبيعة الحال هذا كلام فى الهجايص لأن الكتابة معروفة قبل ذلك بأحقاب وأحقاب، والكتب موجودة فى الحضارة البشرية منذ قرون طوال. وهذا مما لا يجهله أحد، إلا أن د. الغذامى، على طريقته فى الافتتان بالألفاظ دون مبالاة بما تعنيه، يقول عكس ذلك تماما. كذلك فمعنى كلام الغذامى هو أن وظيفة المرأة فى ذلك الزمن وما قبله هى الحكى فقط، والحكى الفردى لرجل واحد. فهل هذا صحيح؟ لقد كان عندنا فى الجاهلية كواهن وخطيبات كالشعثاء وكاهنة ذى الخُلَصَة والكاهنة السعدية والزرقاء بنت زهير والغيطلة القرشية وزبراء كاهنة بنى رِئام وسجاح وسلمى الهمدانية وكاهنة ذى الخُلَصَة وعفيراء ، وكن يخاطبن الرجال والنساء على السواء. كما أن عدد الخطيبات فى الحضارة الإسلامية إلى ما قبل "ألف ليلة وليلة" غير قليل. ومن الخطب النسائية فى تلك الحقبة خطبة سَفّانة بنت حاتم الطائى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطبة الخنساء فى تحريض أولادها على القتال، وخُطَب عائشة فى الانتصار لأبيها وفى رثائها له وعند مقتل عثمان وفى المربد وفى وقعة الجمل وفى البصرة، وخطب عكرشة بنت الأطرش وأم الخير بنت الحريش والزرقاء بنت عدىّ فى صفين، وهن شيعيات. ويجد القارئ خطبهن فى الجزء الأول من كتاب "جمهرة خطب العرب" لأحمد زكى صفوت. وفى الجزء الثانى من هذا الكتاب و"بلاغات النساء" لابن طيفور على سبيل المثال خُطَبٌ لعائشة والزهراء وزينب وأم كلثوم بنتى على وحفصة أم المؤمنين وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب فى حضرة معاوية توبخه وتعترض على بعض ما وقع منه، وسودة بنت عمارة الهمدانية ترد عليه حين شمت بها لوقوفها مع على ضده، وصفية بنت هشام المنقرية، وسودة بنت عمارة، وأم سنان بنت خيثمة، وبكارة الهلالية، وأم البراء بنت صفوان، ودارمية الحجونية، وامرأة أبى الأسود الدؤلى، إلى جانب خطب ووصايا لبعض الأعرابيات ممن لم تردنا أسماؤهن. ثم لا ننس أن الشاعرات كثيرات يُعْدَدْن بالعشرات، وربما بالمئات. كما أن الفقيهات والمحدثات كن يعلِّمن جموعا كبيرة من الرجال والنساء ولا يخاطبن رجلا واحدا عكس ما يقول د. الغذامى، وهو ما ينسف كل دعاواه فى هذا الصدد. ثم ما القول إذا عرفنا أن مبدعى "ألف ليلة وليلة"، بما فيها شخصية شهرزاد ذاتها هم من الرجال كما نعرف، وكما هو واضح من زاوية السرد ورؤية الأشياء والأشخاص فى ذلك الكتاب، إذ هى زاوية رجالية بامتياز، فضلا عن أن تحليل الغذامى يقول إن وظيفة المرأة هى الحكى، والحكى لرجل واحد، فى حين أن "ألف ليلة وليلة" هى حكايات مكتوبة منذ كانت لا تزال فارسية لم تعرَّب بعد. ثم إن الكتابة والكتب كانت معروفة عند المسلمين قبل أن يعرفوا تلك الحكايات بأزمان. والمضحك أن د. الغذامى، بعد ذلك كله، ينسى ما قاله عن أن المرأة فى "ألف ليلة وليلة"، متمثلةً فى شهرزاد، إنما تمارس الحكى لرجل فرد، فيؤكد فى موضع آخر من كتابه (ص114) بأن ما فعلته شهرزاد إنما هو كتابة اقتحمت عالم الرجال واحتلت مدوناتهم وكتبهم، ضاربا عرض الحائط بكل ما طنطن به من قبل.
ويقول الغذامى أيضا (ص59- 60) إن شهرزاد، بتأليفها "ألف ليلة" قد نجحت فى معركتها مع الرجل، إذ عرفت كيف تستخدم اللغة وكيف تجعلها مجازا محبوكا ومشفَّرا، منتقلة بهذا من موقف المهزوم إلى موقف النِّدّ. والغذامى هنا يتصور أن هذه أول مرة تشترك المرأة مع الرجل فى استخدام اللغة، وكأنها لم تكن تستخدم اللغة منذ أول الخليقة، وكأنها لم تكن شاعرة وحَكَّاءة منذ وقت طويل، بل وكأنها هى فعلا مؤلفة "ألف ليلة وليلة"، خالطا على هذا النحو الساذج بين قيام شهرزاد بالسرد داخل الكتاب وبين تأليفها للكتاب ذاته، مع أن هناك فرقا كفرق السماء عن الأرض بين هذا وذاك. ومع هذا فإنه، انطلاقا من الإيهام بأن شهرزاد هى مؤلفة الكتاب، يشبّه الشكل القصصى فيه بالجسد الأنثوى. فكما أن الجسد الأنثوى يتوالد ويتناسل فكذلك تتوالد الحكايات فى الكتاب متناسلا بعضها من بعض، وذلك رغم أن الكتاب صناعة رجالية. ثم ما معنى أن الجسد الأنثوى يتوالد ويتناسل؟ أليس التوالد والتناسل مما يعم الرجال والنساء جميعا، ويعم الحيوانات والنباتات أيضا؟ لكن متى كان د. الغذامى يبالى بأصول المنطق أو حقائق الحياة ووقائع التاريخ؟ إن الغذامى، كما أقول دائما، لا يبالى أين تقع كلماته ولا أن تكون مخالفة لكل الأصول والحقائق والوقائع. أرأيت قطارا منطلقا دون فرامل يفكر فى الحقائق والوقائع أو فيما يعتقده الناس أو ينكرونه؟ فهذا هو حال د. الغذامى إذا تكلم أو كتب. لا مبالاة عنده بعقل أو منطق. لا اعتبار عنده لأى شىء. إنه يكتب لأن شهوة الكلام لديه غلابة، فهو يريد أن يتكلم، والسلام. ليس مهما أن يقول شيئا صحيحا ولا نافعا ولا متسقا مع المنطق ولا محترِما للعقل. إنه يشتهى الكلام اشتهاء قاهرا. المهم أن يضع فى ذهنه أن يؤلف كتابا، ثم ينطلق بسرعة القطار وبعنف وابور الزلط محطما كل ما يقابله فى طريقه غير متنبه إلى أنه يدوس العقل والمنطق ويكتسحمها اكتساحا. إن لذة الكلام لديه تغطى على كل شىء آخر.
كذلك من تناقضات الغذامى التى لا تنتهى أنه، بعد كل هذا المديح الهائل الذى كاله كيلا للمرأة ولكتاب "ألف ليلة" بوصفه نصا أنثويا تسلطت به المرأة على الرجال وأخضعتهم لما تريد، يعود (ص75) فيقول إن هذا الكتاب قد أُلِّف لترجيح كِفَّة الذكور على كِفَّة النساء. ومع ذلك يقول عقيب هذا إن الكتاب يصور النساء ذوات مكانة جليلة عند أزواجهن وأبنائهن. فانظر إلى مقدار التناقض الذى يعج به الكتاب وتعج به سائر كتابات د. الغذامى إلى حد التغثية! ثم إن سخافات الكتاب لا تنتهى هنا، إذ نراه يقول (ص80) إن مؤلفى "ألف ليلة" قد خجلوا من وضع اسمهم عليها لأنها مروية على لسان المرأة، مع أنه من المعروف فى الأدب الشعبى كله أن مؤلفيه مجهولون لأن كل نص من نصوصه لا يؤلَّف دفعة واحدة، بل يبدأ أولا عملا شفاهيا، ثم ينمو مع الأيام بإضافة كل جيل شيئا إلى ما ورثه عن الأجيال السابقة حتى ينتهى به الأمر إلى التثبيت الكتابى. وهذا ملحوظ فى المواويل والسير الشعبية والأمثال. ويلحق بها كتاب "ألف ليلة وليلة"، إذ هو إبداع شعبى. وعلى كل فإن كلام الغذامى الأخير هو ضربة فى الصميم لكلامه السابق الذى امتدح به شهرزاد بوصفها مبدعة الحكايات فى الكتاب. ولكن لا ينبغى أن يشغل القارئُ نفسَه بهذا التناقض والتهافت، فهكذا كان د. الغذامى، وهكذا هو الآن، وهكذا سيظل بمشيئة الله ما بقى من عمره، أطال الله عمره حتى نجد شيئا نكتب عنه ونضحك منه. وهو لا يعجبه أبدا فى الرجال العجب ولا الصيام فى رجب، فهو دائم التشكى من الرجال، وكأن بينه وبينهم ثأرا، إذ عندما اقتحمت المرأة ميدان الكتابة، طبقا لما قاله من دعاوى فارغة، ظل يشكو من أن ميدان الكتابة محكوم بقوانين ذكورية (ص47). والسؤال الآن هو: ترى لماذا لا تحاول المرأة تغيير تلك القوانين حتى يسكت أمثاله عن تلك الشكوى التى يزعجنا طوال الوقت بها؟
وبالمثل يزعم د. الغذامى (ص100) أن المكاتبة فى المجتمع العربى قديما كانت فى الشر والفحش لا غير، وأن النساء لم يكنَّ يعرفن الكتابة بل المكاتبة، وفى الشر والفحش بطبيعة الحال. ويستدل على ذلك بنص كتبه الجاحظ (ص157 أيضا) سنورده توا، مع أن الجاحظ إنما يتحدث عن مكاتبة القيان لعشاقهن لا المكاتبة بوجه عام، وإلا فقد كان ثمة مكاتبات بين الرسول وولاته، وبينه وبين الملوك من حوله. كما أن هناك مكاتبات بين العلماء بعضهم وبعض، وبين الملوك والملوك، وبين الخلفاء وولاتهم وقوادهم، وبين الأصدقاء بعضهم وبعض، وبين المواطنين والمصالح الحكومية، وبين الزوج وزوجته، وبين الحبيب وحبيبته... فكيف تواتى الغذامى نفسه على كتابة هذا السخف؟ ثم إن الكتابة ليست هى المقابل للمكاتبة، بل المكاتبة نوع من أنواع جنس الكتابة كما هو معلوم. وعلى أية حال ها هو ذا ما قاله الجاحظ عن المكاتبة مما يعتمد عليه الغذامى فى زعمه الباطل: "والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العَرَض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريّح الهابَّة بالذهب الجامد، وفلذ اللجين بالعسجد. وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القتاد لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سؤله عفةً ونزاهةً لتركه حذقًا واختيارًا وشُحًّا على صناعته ودفعًا عن حريم ضيعته لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار عشقه، ونقص من برِّه ورِفْده بقدر ما نقص من عشقه. فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته، ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه؟ ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويُعْنَى بأخبار الرقباء، ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء، ويُعْرِض عن الغمزة، ويغفر القبلة، ويتغافل عن الإشارة، ويتعامى عن المكاتبة، ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة، ولا يعاتبها على المبيت، ولا يفضُّ ختام سرّها، ولا يسألها عن خبرها في ليلها، ولا يعبأ بأن تُقْفَل الأبواب، ويُشَدَّد الحجاب، ويُعَدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة، ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم، كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها، ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير. فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبَطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج. ومن كان ذا مالٍ ولا جاهَ له استقرض منه بلا عينة. ومن كان من السُّلْطان بسببٍ كُفِيَتْ به عادية الشُّرط والأعوان، وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّراني، مثل سلمة الفُقَّاعي، وحَمْدون الصِّحنائي، وعليّ الفاميّ، وحجر التَّوْر، وفقْحة، وابن دجاجة، وحفْصويه، وأحمد شعْرة، وابن المجوسيّ، وإبراهيم الغلام. فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها؟ ولو يعلم هؤلاء المسمَّوْن فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيب منها وهو في ذلك ثقةٌ، ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح، أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة. فهل على مزوَّجة من حرج؟ وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل؟ وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة؟...". وفضلا عن ذلك ليس هذا كلام الجاحظ بل كلام بعض الناس الذين ذكرهم فى مقدمة رسالته عن القيان، ولعلهم من القيانين. كما أن أبا الثناء الآلوسى إنما تكلم عن الكتابة لا المكاتبة، ودعا إلى منع النساء من الكتابة، الكتابة بإطلاق، وعنوان مخطوطه هو: "الإصابة فى منع النساء من الكتابة" (انظر ص157).
كذلك يقول د. الغذامى (ص30- 31) فى زعم من مزاعمه المتهافتة إن الرجل هو الذى يقدم المرأة فى الأفلام وغيرها بوصفها جسدا محضا، متجاهلا أن النساء اللاتى التحقن بعملية الإخراج السينمائى مؤخرا يفعلن أيضا الشىء ذاته مثل إيناس الدغيدى ، كما أن ممثلات السكس يفتخرن بذلك ويعترضن على أى رجل ينتقدهن. ثم إن الغالبية من الرجال العاديين، لا الدعاة والمصلحين والوعاظ والعلماء فقط، يُهِيبون بالنساء اللاتى يتاجرن بأجسادهن إلى التوبة، إلا أن الغالبية منهن لا يستجبن إلى دعوة الرجال لهن بترك صناعة الإغراء والتزام أسلوب محترم من العيش لا يختزلهن فى إثارة الشهوة فقط. كذلك ففى كل مكان فى العالم توجد بيوت دعارة تشرف عليها وتديرها نساء قوادات، ولا علاقة للرجال بها. وهناك الآن كاتبات عاريات القلم كليلى البعلبكى وغادة السمان وأحلام مستغانمى وفضيلة الفاروق وسلوى النعيمى وإلهام منصور وسوسن السودانى وعالية ممدوح وزينب حفنى ورجاء الصانع ووردة عبد الملك وعفاف البطاينة وليلى الأطرش وليلى العثمان وبلقيس حميد حسن وجمانة حداد يتحدثن عن هذا الجانب بحرية صادمة، وبعضهن يوغل فى هذه الحرية إلى آماد لا يمكن تصورها. وهذا عندنا نحن العرب فقط، وهن مجرد أمثلة لا يقصد بها الاستقصاء، فما بالنا بالآداب العالمية، والغربية منها بالذات؟
ونظرة سريعة إلى المعاجم الخاصة بذلك الضرب من الأدب ترينا صحة هذا الذى نقول، إذ إن كثيرا من النساء يشاركن فى هذا اللون من الكتابة العارية. فهل يقول الغذامى إن الرجال هم الذين أجبروهن على ذلك؟ وماذا يقول كذلك عن السحاق؟ أهو أيضا مما يكره الرجال النساء على ممارسته؟ وما رأيه فى الكاتبات السحاقيات وكثرتهن فى الآداب العالمية؟ هل الرجال وراء ذلك أيضا؟ وأمامى الآن، وأنا أكتب هذه السطور، معجم "Historical Dictionary of Lesbian Literature"، لمريديث ميلر، وهى أستاذة أمريكية سحاقية فيما يبدو، وتكتب عن المؤلفات الغربيات اللاتى تدور كتاباتهن حول ذلك النوع من الشذوذ الجنسى. وما رأيه فى إرشاد مانجى السحاقية البانجلاديشية الكندية التى تقدم برنامجا فى التلفاز الكندى تدعو فيه إلى الشذوذ الجنسى لواطا وسحاقا، وأَلَّفَتْ أو أُلِّف لها كتاب تدعو فيه إلى تعديل الإسلام على طريقتها هذه الشاذة، وتجرّم كفاح الفلسطينيين لاسترداد حقوقهم المهدرة فى وطنهم وتتهمهم بالإرهاب، وتناصر الصهاينة، وتهاجم القرآن وتسخر من المسلمين، وتفتخر بأمها لأنها تتفهم وضعها وتبارك سحاقيتها؟ وما رأيه أيضا فى د. أمينة ودود، التى قرأتُ فى ترجمتها بالنسخة الفرنسية من موسوعة "الويكيبيديا" ما يقال من أنها تبارك الشذوذ الجنسى وتقول بتحليله؟ أأمضى فى هذا الموال النتن؟ أم هل هذا يكفى فى أن يعرف القراء كيف أن د. الغذامى لا يمكن أن يكتب شيئا منضبطا فيه عقل ومنطق حتى فيما هو واضح تمام الوضوح لا يحتمل جدالا ولا مراء؟ وبالمناسبة فهؤلاء اللاتى ذكرتهن هنا هن من النساء اللاتى يتمردن على الرجال. أقول هذا حتى لا يتحجج الغذامى ومن على شاكلته بأنهن يخضعن للرجال، مع أن مثل تلك الحجة هى حجة عليهم لا لهم، لأن معناها أن النساء لا يستطعن أن يكن مستقلات فى أخلاقهن وتصرفاتهن، وهو ما ينفونه بشدة.
ثم هل النساء ملائكة مبرأة من الشهوات والانحراف، والرجال أولاد ستة وستين؟ نعم هناك رجال يستأهلون الضرب بما فى القدم، ومنهم أولئك الكتاب السعوديون مدعو الليبرالية الذين فضحتهم الكاتبة السعودية د. نورة الصالح منذ عدة سنوات حين ذكرت أن كل همهم فى اجتماعاتهم بهن بعيدا عن العيون هو إغراء النساء اللاتى يصدقن ليبراليتهم بشرب الخمر والتفلت من الدين والتحلل الأخلاقى، وأن هذا هو كل ما يفهمونه أو يطبقونه من الليبرالية . بل لقد ازداد هذا الوضع فى عصرنا الحالى حيث اشتدت دعوة النسوية واستقلال النساء تماما عن الرجال بما يقطع الطريق على أى مكابر يزعم أن الرجال هم المسؤولون عن انحراف النساء. إننا لا نحمّل النساء تبعة انحراف الرجال، وبالمثل لا نقبل تحميل الرجال مسؤولية انحراف النساء. وأيا ما يكن الأمر فما العيب فى أن ينظر الرجل إلى المرأة مثلما تنظر هى أيضا إليه جنسيا وعاطفيا؟ أليس هذا سببه أن الله قد خلق البشر رجلا وامرأة؟ وإلا فلماذا لم يخلقهما نوعا واحدا يجد كل فرد منه اكتفاءه فى ذاته دون التطلع إلى النصف الآخر؟ وما الفرق إذن بين الرجل والمرأة إذا كانت نظرة كل من الجنسين إلى الآخر كنظرته إلى أحد أفراد جنسه؟ ولماذا لا يكتفى أفراد كل من الجنسين بصداقتهم لأبناء جنسهم إذن؟
إن كثيرا من اهتماماتنا نحن الرجال والنساء، انتبهنا إلى ذلك أو لم ننتبه، تدور حول الجنس والحب: الملابس والغناء والشعر والقصة والمسرحية والمقال والأفلام وجمع المال والالتفات فى الشوارع والطموح وأحلام اليقظة وأحلام المنام. والآن انظر إلى الغذامى (ص40) كيف يتهم العقاد بأنه ينكر على المرأة جمالها وجاذبيتها، عازيا ذلك إلى الغريزة الجنسية. والحق أن العقاد لم ينكر على المرأة جمالها، بل كان يناقش قول من يَرَوْن أن المرأة ذات ذوق جمالى راقٍ بحجة أنها جميلة، فكان جوابه أنه ليس لازما أن يكون الشخص الجميل ذا ذوق جميل. ثم استطرد قائلا إن من الفلاسفة والعلماء الغربيين الكبار من لا يَرَوْن المرأة جميلة البتة كشوبنهاور، الذى يرجع جاذبيتها إلى ما فى نفس الرجل من الشهوة والغريزة، أو يَرَوْنها جميلة لكن الرجل فى نظرهم أجمل منها كدارون. فالعقاد لم يكن يعرض رأيه بل رأى بعض مشاهير الغربيين. والغريب رغم ذلك كله أن الغذامى قد سبق أن ذكر فى موضع آخر من كتابه (ص29) أن العقاد يرى أن النساء قد خلقن جميلات لإمتاع عيون الرجال، بالضبط مثلما يمتع عيونهم منظر الفاكهة. وهو كلام ليس له من معنى إلا أن العقاد يقر إقرارا صريحا لا مواربة فيه بجمال المرأة.
لقد كان العقاد مفتونا بالمرأة رغم إيمانه القوى بتفوق الرجل عليها فى العقل والقوة العضلية والقدرة على تحمل أثقال الحياة الباهظة وما إلى ذلك. وفى أشعار أديبنا ومفكرنا العملاق قصائد كثيرة تتغنى بالمرأة وجمالها وفتنتها وتصف تدلهه فى هواها، مع استعصامه فى نفس الوقت بكبريائه أمام تلك الفتنة. كما أن روايته العبقرية: "سارة" شاهد لا يُرَدّ ولا يُصَدّ على صدق ما نقول. دعنا من حوادث الرواية وحواراتها ووصفها لجمال البطلة وعواطف همام نحوها، وتعالَوْا بنا إلى الفصل الذى وقف فيه العقاد يتحدث بلسان الفلسفة والحكمة عن قوة حواء ومقدرتها على الإطاحة بكل ما يقوله المصلحون والمشترعون والوعاظ والعُبَّاد والزُّهَّاد فى التحذير من فتنتها وسحرها. فهذا الفصل العجيب وحده كاف لنسف أى وهم أو إيهام بأن العقاد يرى المرأة كائنا غير جميل. فما بالنا لو عرفنا أن العقاد قد كتب مقاله الآنف الذكر وهو فى بداية ثلاثيناته، إذ كتبه سنة 1923م طبقا لما هو مكتوب فى هامش عنوان المقال فى كتاب "مطالعات فى الكتب والحياة"، أى حين كان فى عز رجولته تفتنه المرأة وتبرجل عقله وعقل كل رجل فى هذه السن، ولم يَشِخْ بعد إلى الدرجة التى يمكن أن يتحجج معها متحجج معاند بأنه كان قد زهد فيها وفى جمالها ولم يعد يرى لها شيئا من السحر.
وأنا، بَعْدُ، من أنصار الفكرة القائلة بأن المرأة لم تكن ليكون لها أى تأثير على الرجل بالغا ما بلغ جمالها كما نعرف الجمال الآن ونقدره لولا أن الله سبحانه قد نَظَّم كونه بحيث إنه متى رأى الرجل المرأة فُتِن بها وجرى ريقه ودق قلبه، وأخذ يلهث وراءها يريد الفوز بها. ولو كان عز وجل قد أجرى كونه على نظام آخر غير الذى نعرفه ما كنا لنهتم بالمرأة الجميلة (الجميلة بمقاييسنا على الوضع الحالى) أو ننفعل بجمالها أو نفكر فيها، بل لكنا ننفر منها ونشعر بالغثيان عند رؤيتها، ويكون أول ما نفكر فيه هو الهرب منها والاستغاثة بالناس أن يأتوا وينقذونا من براثنها. لكن لا ينبغى أن يفهم القارئ من كلامى هذا أننى أقصره على المرأة وجمال المرأة، بل أعممه على كل شىء فى الوجود، فأنا أومن تماما بما يقوله الإمام الغزالى، ثم أخذه لوك وهيوم وغيرهما من فلاسفة الغرب وحوروه شيئا من التحوير، من أن النار مثلا ليس من طبيعتها الإحراق، بل هى تحرق لأن الله أراد لها أن تحرق. ولو كان سبحانه وتعالى شاء لها أن تكون بردا وسلاما على من يَصْلاَها لكانت بردا وسلاما عليه... وهكذا.
ويزعم د. الغذامى (ص93)، فيما يزعم، أن الجارية تودد بطلة إحدى قصص ألف ليلة فى غلبتها للرجال فى حوارها معهم تختلف عن نموذج المرأة الذى كان معروفا آنذاك فى كتب الأدب. وهو زعم متهافت، إذ تمتلئ كتب الأدب بالحكايات التى تنتصر فيها المرأة على الرجل: من ذلك مثلا ما رواه المرزبانى فى كتابه: "أشعار النساء" للمرزبانى، إذ يقول: "هاجى النابغة الجعدي ليلى الأخيلية فقال لها:
ألا حَيِّيَا ليلى وقولا لها: هَلاَ * فقدْ ركِبتْ ... أغرَّ محجَّلا
فقالت ترد عليه وهما قصيدتان له ولها، فغلبته بقولها:
وعَيَّرْتَني داءً بأمك مثله * وأيُّ جوادٍ لا يقال لها: هَلاَ؟
...
وأخبرني عبد الله بن يحيى قال: حدثني محمد بن جعفر، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثني أبي الحسن الموصلي عن سلمة بن أيوب بن مسلمة الهمذاني فقال: كان جدي عند الحجاج فذكر أن امرأة قد دخلت عليه فسلمت فرد عليها، وقال: من أنت؟ قالت: أنا ليلى. قال: صاحبة توبة بن حُمَيِّر؟ قالت: نعم. قال: فماذا قلتِ فيه لله أبوك؟ قالت: قلت:
فإنْ تكنِ القتلى بَوَاءً فإنَّكم * فَتًى ما قتلتُم آل عوفِ بن عامرِ
وذكر منها أبياتا، فقال لها أسماء بن خارجة الفزاري: أيتها المرأة، إنك لتصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه به العرب. قال: فقالت: أيها الرجل، هل رأيت توبة؟ قال: لا. قالت: أصلح الله الأمير. فوالله لو رأى توبةَ فوَدَّ أن كل عاتق في بيته حامل من توبة. قال: فكأنما فُقِئَ في وجه أسماء حَبّ الرمان. فقال له الحجاج : وما كان لك ولها؟ ...
أخبرني علي بن عبد الرحمن عن علي بن يحيى الأطروش بن إسحاق عن أيوب بن عباءة، قال: حدثني الهيثم بن عدي، قال: دخلت ليلى الأَخْيَلِيّة على الحجاج، فقال لأصحابه: ألا أخجلتُها لكم؟ قالوا: بلى. قال: يا ليلى. قالت: لبيك أيها الأمير. قال: أكنت تحبين توبة بن الحُمَيِّر؟ قالت: نعم أيها الأمير. وأنتَ لو رأيته لأحببتَه".
وفى "الأغانى": "أخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، قال: بلغني أن ليلى الأخيلية دخلت على عبد الملك بن مروان وقد أَسَنَّتْ وعجزت، فقال لها: ما رَأَى توبة فيك حين هَوِيَك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين وَلَّوْك. فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها".
وفى "تزيين الأسواق فى أخبار العشاق" لداود الأنطاكى: "وأدركت الخنساء الاسلام، وحسن إسلامها، فقالت لها عائشة يوما: أتبكين صخرا وهو في النار؟ فقالت: هو أشدُّ لجزعي عليه وأَدْعَى للبكاء. فعُدَّ من الأجوبة المسكتة
...
ومنهم غسان بن جهضم، وكان مفتونا بابنة عمه أم عقبة لأنها كانت من أجمل النساء وأحياهن وأفضلهن خصالاً. حضرته الوفاة فجعل ينظر إليها ويبكي، ثم قال لها: إني منشدك أبياتا أسألك فيهن عما تصنعين بعدي، وأعزم عليك أن تصدقيني. فقالت: قل، فوالله لا أكذبك. فأنشد:
أخبري بالذي تريدين بعدي: * ما الذي تضمرين يا أم عقبه؟
تحفظيني من بعد موتي لما قد * كان مني من حسن خلق وصُحْبَه
أم تريدين ذا جمال ومال * وأنا في التراب في سجنِ غُرْبه؟
فأجابته:
قد سمعنا الذي تقول، وما قد * خفتَه يا خليل من أم عقبهْ
أنا من أحفظ النساء وأرعا * هن ما قد أَوْلَيْتَ من حسن صحبهْ
سوف أبكيك ما حييتُ بشجو * ومراثٍ أقولها وبنُدْبِهْ
فقال:
أنا واللّه واثق بكِ، لكن * ربما خفت من غدر النساءِ
بعد موت الأزواج يا خير من عُو * شِرَ، فارعَيْ حقي بحسن وفاءِ
إنني قد رجوت أن تحفظي العهد * فكوني، إن مِتُّ، عند رجائي
فلما مات خُطِبَتْ من كل جانب، فقالت:
سأحفظ غسانًا على بعد داره * وأرعاه حتى نلتقي يوم نُحْشَرُ
وإني لفي شغل عن الناس كلهم * فكُفُّوا، فما مثلي من الناس يَغْدِرُ
سأبكي عليه ما حييتُ بعَبْرَةٍ * تَجُول على الخدين مني فتَكْثُرُ
فلما طالت الأيام قالت: من مات فقد فات، وأجابت الخاطب. فلما كانت الليلة التي زُفَّتْ
فيها جاءها في النوم فأنشد:
غدرتِ ولم ترعَيْ لبعلك حرمة * ولم تعرفي حقا، ولم تحفظي عهدا
ولم تصبري حَوْلاً حفاظًا لصاحبٍ * حلفتِ له يوما، ولم تنجزي وعدا
غدرتِ به لما ثوى في ضريحه * كذلك يُنْسَى كل من سكن اللحدا
فانتبهت مرعوبة كأنما كان معها، فقالت النساء لها: ما دهاك؟ فقالت: ما ترك غسان في الحياة أَرَبًا ولا في السرور رغبةً. أتاني في المنام فأنشدني هذه الأبيات. ثم جعلت ترددها وتبكي، فشاغلنها بالحديث، فلما غفلن أخذت شفرة فذبحت نفسها، فتعجبن منها".
وفى "ثمرات الأوراق فى المحاضرات" لابن حجة الحموى (ق8- 9هـ): "حُكِيَ أن عُلَيَّة بنت المهدي كانت تهوى غلاما خادما اسمه طَلٌّ، فحلف الرشيد ألا تكلمه ولا تذكره في شعرها، فاطلع الرشيد يوما عليها وهي تقرأ سورة "البقرة": "فإن لم يُصِبْها وابلٌ فالذي نَهَى عنه أميرُ المؤمنين".
قيل: دخلت امرأة على هارون الرشيد، وعنده جماعة من وجوه أصحابه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أقرَّ الله عينك وفرَّحك بما آتاك وأتم سعدك. لقد حكمتَ فقَسَطْتَ. فقال لها: من تكونين أيتها المرأة؟ فقالت: من آل برمك، ممن قتلتَ رجالهم وأخذتَ أموالهم وسلبتَ نوالهم. فقال: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفذ فيهم قَدَره، وأما المال فمردود إليك. ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه فقال: أتدرون ما قالت المرأة؟ فقالوا: ما نراها قالت إلا خيرا. قال: ما أظنكم فهمتم ذلك. أما قولها: أقر الله عينك، أي أسكنها عن الحركة. وإذا أُسْكِنَت العين عن الحركة عميتْ. وأما قولها: وفَرَّحَك بما آتاك فأخذتْه من قوله تعالى: "حتى إذا فرحوا بما أُوتُوا أخذناهم بغتة". وأما قولها: وأتم الله سعدك فأخذتْه من قول الشاعر.
إذا تمَّ أمرٌ بدا نقصه * ترقَّبْ زوالاً إذا قيل: تَمّْ
وأما قولها: لقد حكمتَ فقَسَطْتَ فأخذتْه من قوله تعالى: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا. فتعجبوا من ذلك...
وحُكِيَ أن بعض الملوك طلع يوما إلى أعلى قصره يتفرج فلاحت منه التفاتة فرأى امرأة على سطح دار إلى جانب قصره لم ير الراءون أحسن منها، فالتفتت إلى بعض جواريه فقال لها: لمن هذه؟ فقالت: يا مولاي، هذه زوجة غلامك فيروز. قال: فنزل الملك وقد خامره حبها وشغف بها. فاستدعى بفيروز وقال له: خذ هذا الكتاب وامض به إلى البلد الفلانية، وائتني بالجواب. فأخذ فيروز الكتاب وتوجه إلى منزله فوضع الكتاب تحت رأسه. فلما أصبح ودع أهله وسار طالبا لحاجة الملك، ولم يعلم بما قد دبره الملك. ثم إنّه لما توجه فيروز قام الملك مسرعا وتوجه مختفيا إلى دار فيروز فقرع الباب قرعا خفيفا، فقالت: امرأة فيروز: من بالباب؟ قال: أنا الملك سيد زوجك. ففتحت له، فدخل وجلس، فقالت له: أرى مولانا اليوم عندنا. فقال: جئتُ زائرا. فقالت أعوذ بالله من هذه الزيارة، وما أظن فيها خيرا. فقال لها: ويحك! إنني أنا الملك سيد زوجك، وما أظنك عرفتِني. فقالت: يا مولاي، لقد علمت أنك الملك، ولكن سبقتك الأوائل في قولهم:
سأترك ماءكم من غير وردٍ * وذاك لكثرة الورّاد فيهِ
إذا سقط الذبابُ على طعامٍ * رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ * إذا كان الكلاب وَلَغْن فيهِ
ويرتجّ الكريم خَمِيصَ بطنٍ * ولا يرضى مساهمةَ السفيهِ
وما أحسن يا مولاي قول الشاعر:
قل للذي شَفَّهُ الغرام بنا * وصاحب الغدر غير مصحوبِ:
والله لا قال قائلٌ أبدًا: * قد أكل الليث فضلة الذيبِ
ثم قالت: أيها الملك، تأتي إلى موضع شرب كلبك تشرب منه؟ فاستحى الملك من كلامها وخرج وتركها".
على أن د. الغذامى لا يكتفى بذلك، بل يدعى (ص94) أن ثقافة الجارية تودد تختلف عن ثقافة المرأة فى ذلك العصر، مع أن الجوارى أوانذك كن يثقَّفْن ثقافة جيدة حتى يزددن قيمة فى نظر من يشتريهن. ففى كتاب "الحيوان"مثلا: "قال العتبي ذاتَ يومٍ لابن الجهم: ألا تتعجَّبُ من فلانٍ؟ نَظَر في كتابِ "الإقليدس" مع جارية سَلْمَوَيْه في يومٍ واحد وساعة واحدة، فقد فرغتِ الجاريةُ من الكتابِ، وهو بَعْدُ لم يُحكِم مقالةً واحدة، على أنَّه حُرٌّ مخيَّر، وتلك أمَةٌ مقصورة، وهو أحرصُ على قراءةِ الكتاب مِن سَلْمَوَيهِ على تعليمِ جارية. قال ابن الجهم: قد كنت أظنُّ أنّه لم يفهم منه شكلاً واحدًا، وأَرَاك تزعم أنّه قد فرغ من مقالة. قال العتبي: وكيف ظننتَ به هذا الظنَّ، وهو رجلٌ ذو لسانٍ وأدب؟ قال: لأنِّي سمعتُه يقول لابنِه: كم أنفقتَ على كتابِ كذا؟ قال: أنفقت عليه كذا. قال: إنَّما رَغّبَني في العلم أني ظننتُ أنّي أنفق عليه قليلاً وأكتسِب كثيرًا. فأمّا إذا صرتُ أنفِق الكثيرََ، وليس في يدي إلاّ المواعيدُ، فإنِّي لا أريد العلمَ بشيء".
ثم لا تقف مزاعم د. الغذامى المتهورة عند هذا الحد، بل ينطلق فيدعى (ص100) أن الجهل فى تلك العصور كان زينة للحرة، فى حين كانت الثقافة زينة الجارية. ترى ألم يقرأ ما كتبه أبو الفرج عن ثقافة سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة مثلا أو ما ذكرته المراجع الأندلسية عن ولادة ونزهون وحميدة وغيرهن من آنسات الأندلس وسيداتها ذوات الثقافة الرفيعة؟ ألم يبلغه ما سجلته كتب الطبقات والتاريخ عن مئات السيدات المسلمات اللاتى كن يشتغلن بالفقه والحديث أو ينظمن الشعر؟ ألم يطالع كتاب "الأغانى" مثلا فيرى كيف كانت ثقافة نساء الخلفاء والدرجة العالية التى بلغتها تلك الثقافة؟ ألم يسمع عن علية بنت المهدى مثلا؟ ولم يكنّ مع هذا استثناء من القاعدة، وكل ما هنالك أن المسلم لم يكن يحب الكلام عن زوجته على الملإ. وقد سبق أن فصّلنا القول فى تلك النقطة بعض التفصيل، فمن ثم نكتفى بهذا، ولا نطيل القول فيه مرة أخرى.
ومع ذلك لا يبدو لى الغذامى مدافعا عن المرأة ولا عاطفا عليها بقدر ما هو كاره للرجال، وكأن له ثأرا عندهم يريد أخذه، وهو ما يحتاج إلى دراسة تحاول الوصول إلى سبب اتخاذه هذا الموقف الغريب. انظر مثلا (ص106 وما بعدها) إلى شماتته بالنَّظَّام والرمز إليه بـ"الفحل" تهكما واستهزاءً، وتأكيده المستفز أن جارية قد انتصرت عليه، وكأن الكلام حقيقى لا تخيلات عامية فى حكاية من حكايات "ألف ليلة وليلة" لا أصل لها ولا حقيقة. والمضحك أن الجارية إنما تعلمت ما وصل إليه أمثال النظام بعقولهم الكبيرة ثم عادت فوجهت إليهم أسئلة مأخوذة من هذا الذى وصلوا إليه. وهى أسئلة ساذجة تقوم على الحفظ والتلقين والإلغاز ليس إلا، ولا تدل على علم صحيح، بل هى مجرد معلومات ترصها رصًّا. ومع هذا يشمخ بها الغذامى، وكأن النظَّام قد عجز فعلا أمام الجارية. وهو تصرف لا يليق بالباحثين الجادين. كذلك نراه (ص180) وما حولها يتطوح كالدراويش مناديا بتأنيث اللغة ومنتظرا اللحظة التى تتأنث فيها فعلا، وكأن اللغة مذكرة ويمكن أن تُجْرَى لها عملية جراحية كالتى تجرى لبعض الرجال المخنثين فيصيرون نساء، ويشمت ببطل رواية لأحلام مستغانمى لأن الكاتبة قد جعلته مبتور اليد والرِّجْل ناقصا عاجزا لا يستطيع أن ينال من المرأة شيئا. كما وصفه (ص185 وما قبلها وما بعدها إلى 188) بأنه مخصى. وكلامه كله حقد سام على الرجال ليس فيه شىء طبيعى. والمفروض أن يكون أقصى ما يريده، إن لم يكن فى الأمر حالة نفسية تستدعى الدراسة، هو المناداة بأن تكون اللغة للجنسين كليهما. وهذا إن سلمنا أنها ذكورية كما يزعم. أما أن يبتهج كل هذا الابتهاج بتأنيث اللغة ويشمت كل تلك الشماتة بالرجال فهذا يستدعى البحث والتحليل. والعجيب أنه ينعطف فجأة فى كلامه فيقول (ص207) بتأنيث اللغة أو أنسنتها بحيث تعبر عن الجنسين معا. أما كان من الأول؟ علاوة على أنه قالها عرضا ومتأخرة وغير واضحة، وواضح أنه قالها دون قصد ومن وراء قلبه.
ومن مظاهر الخلل فى التفكير لدى د. الغذامى أنه يأتى إلى مثال أو اثنين فيجعل منهما قانونا أو قاعدة عامة. وهى طريقة فى التفكير ينبغى أن يربأ أى باحث حقيقى بنفسه عنها. لكن ماذا نفعل فى حكمة الله، التى شاءت أن يكون د. الغذامى هكذا؟ لنأخذ مثلا اتخاذه (ص124) مثالَىْ جورج إليوت وجورج صاند قاعدة عامة فى أن النساء إذا أردن الكتابة تخفَّيْنَ وراء مظهر الرجال. وهذه عبارته بنصها وفصها: "ما زالت الثقافة تؤكد أن الرجل استطاع على مر الزمن إحكام سيطرته على اللغة، وذلك بتذكيرها وتذكير مستخدميها. ولذا فإن المرأة، لكى تكتب وتمارس اللغة، لا بد أن تكون رجلا. وهذا بالضبط ما فعلته النساء فى مهرجان القيس، وهو ما فعلته جورج إليوت وجورج صاند حيث توسلتا بأسماء الرجال لكى تدخلا إلى عالم اللغة والكتابة". وهو ما يُفْهَم منه أن الوضع كان هكذا طوال التاريخ، وأن ما صنعته الكاتبتان ذواتَا العقل الشاذ والمخ اللاسع ليس إلا اتباعا للسنة الكونية القهرية التى تحرم على الكاتبات والأديبات أن يحتفظن بأسمائهن النسائية، وتوجب عليهن أن تبحث كل واحدة منهن عن اسم أحد الخناشير لاصطناعه بدلا من اسمها الرهيف الرقيق. ولكى يعرف القارئ أن كل ما يقوله الغذامى فى هذا الصدد غير قائم على أساس أحب أن أقول له إن كل الناس قد عرفوا سريعا أن جورج صاند هو اسم الأديبة الفرنسية أماندين أورور لوسى دوبان: Amandine Aurore Lucie Dupin، وأن جورج إليوت هو اسم الكاتبة الإنجليزية مارى آن إيفانس: Mary Ann (Marian) Evans. أما ما يفعله النساء فى السعودية فى المهرجان المذكور من ارتدائهن ملابس الرجال واتخاذهن الشوارب مثلهم فهو احتفالات شعبية كما وضَّح هو نفسه فى موضوع آخر من الكتاب، ولا علاقة له باللغة ولا بالكتابة، إلا أن د. الغذامى، كشنشنته التى لا تفارقه أبدا ما قام ثَبِيرٌ فى مكانه وما بزغت الشمس من المشرق واختفت فى المغرب، يخلط الأمور بعضها ببعض كى يدير الرؤوس ويلخبط العقول، فيظن السذج أن تحت القبة شيخا، أما من رزقهم الله شيئا من الفهم فيقولون له: دعك من هذه الألاعيب. لقد دفنّاه معا!
فما رأيه فى آلاف النساء اللاتى استخدمن اللغة مبدعات عندنا وفى كل أرجاء العالم منذ قرون وقرون، وظللن محتفظات بحقيقتهن لم يصطنعن شيئا من أمور الرجال؟ وما باله لو قلنا له مثلا إن الصحفية نادية عابد، التى كانت تكتب مقالات عاطفية جريئة فى مجلة "روز اليوسف" فى الستينات كانت فى حقيقة أمرها رجلا؟ أى على العكس مما يقول. ومثل ذلك ما كتبته الكاتبة السعودية د. نورة الصالح فى مقال لها نشرته منذ سنين بعنوان "لماذا هربت من الليبراليين؟" وموجود فى كثير من المواقع المشباكية الآن، وقالت فيه عن صحفى سعودى: "اكتشفتُ أن أحدهم يكتب بأسماء أنثوية ويطرح مواضيع مثيرة ومغرية لجلب أكبر عدد من الكُتّاب. وهذا، على فكرة، مشهور جدا حتى إن بعض الكاتبات يمازحنه بمناداته بالاسم الأنثوي الذي يكتب به!".
وما رأيه فى أن مى زيادة كانت تتخفى فى بداية امرها تحت اسم "إيزيس كوبيا"، وهو اسم امرأة لا رجل؟ وكانت د. عائشة عبد الرحمن تكتب باسم "بنت الشاطئ". وبالمناسبة كان هناك شاعر مصرى ينشر قصائده بتوقيع "ابن الشاطئ". وكان الصحفى المصرى رائد عطار يكتب باسم "مصطفى عدنان". ومثله الصحفى محجوب عمر، الذى كان يكتب فى جريدة "الشعب"، وكنا نظنه مجاهدا فلسطينيا مسلما يقيم بالقاهرة، ثم عرفنا بعد ذلك أنه طبيب مصرى نصرانى، وأن اسمه الحقيقى "رؤوف نظمى ميخائيل". وعلى غلاف الطبعة الأولى من روايته: "زينب" فضَّل د. محمد حسين هيكل أن يكتب "مصرى فلاح" بدلا من اسمه الحقيقى. وحين كنت فى الدوحة منذ سنوات سمعت بشاعرة قطرية تطلق على نفسها لقب "صدى الحرمان". وكان الكاتب الإنجليزى (إريك آرثر بلير: Eric Arthur Blair) يوقع ما يكتبه باسم "جورج أورويل". وبعض الكتاب يكتفى بوضع الحروف الأولى من اسمه واسم أبيه واسم أسرته. وكانت جورج صاند تكتب مقالاتها الأولى بالاشتراك مع جيل صاندو بتوقيع "Jules Sand". ومعروف أن هناك أسماء قلمية (pen-names, pseudonyms\ noms de plume, pseudonymes) يتخذها بعض الكتاب والكاتبات لا صلة بينها وبين الأسماء الحقيقية لمتخذيها. كما أن هناك مهنا تقتضى أن يستعمل أصحابها، أو يحب بعض مزاوليها أن يستعملوا، أسماء غير أسمائهم الرسمية كالرهبان والراهبات والممثلين والممثلات والقوادين والمومسات والجواسيس ورجال المخابرات وضباط المباحث وبياعى المخدرات وشيوخ المنسر... فهل يستطيع الغذامى أن يفسر لنا هذا الوضع، الذى لا علاقة له بذكورة أو أنوثة؟ وما رأيه فى أن هناك كاتبات الآن يكتب لهن رجال يتخَفَّوْن وراءهن؟ وما رأيه فى الرجال الذين يُضْبَطون متخفِّين وراء النقاب متظاهرين بأنهم نساء لسبب أو لآخر كالرغبة فى الاختفاء عن أعين الشرطة أو التسلل إلى دنيا الحريم والتمتع بالنظر إليهن عاريات أو شبه عاريات أو معاشرتهن جنسيا فى الحرام دون خوف من زوج أو أب مثلا، وهو ما لا علاقة له بالكتابة من قرب أو من بعد؟ وهناك من يرى أن جورج إليوت قد اتخذت هذا الاسم الرجالى لتبتعد عن عالم الشهرة كى لا يتطرق أحد إلى علاقتها مع الفيلسوف جورج هنرى لويس، الذى كان متزوجا .
ويمضى د. الغذامى زاعما أن مى زيادة وجيلها هن أول من دخل من النساء اللغة كاتبات لا حاكيات، وبالنهار لا بالليل، كشهرزاد. وقد اختار عام 1892م تاريخا لهذا باعتباره تاريخ أول مجلة نسائية عربية (ص128). فأما بالنسبة لتاريخ أول مجلة نسائية عربية فهو صحيح، وهو التاريخ الذى أصدرت فيه الكاتبة اللبنانية هند نوفل فى الإسكندرية مجلة "الفتاة" . إلا أننا قد سبق أن بينا أن المرأة العربية، ومثلها الأجنبية، كانت تكتب وتبدع منذ قرون وقرون. وفى الجاهلية عندنا عدد كبير من الشاعرات، وبعض الخطيبات. بل لقد كانت المرأة تكتب فى الصحف والمجلات قبل ظهور الصحافة النسائية، إذ كانت الصحف التى يصدرها الرجال مشرعة الأبواب لهن دون أية عوائق. والعجيب أن الغذامى، هنا ولأول مرة، يقر بأن المرأة العربية كانت مبدعة منذ قديم الزمان، إلا أنه يحاول أن يتفلفص من الحلقة التى تضيق على عنقه فيقول إنها لم تكن تبدع إلا رثاء للرجل (ص129). يريد أن يقول إنها فى هذا لم تكن مستقلة حرة. لكن الرجال هم أيضا كانوا يرثون، فهل كانوا عبيدا فى رثائهم؟ كما أن المرأة لم تكن راثية فقط، بل هاجت الرجل وأحبت وافتخرت وغنت مشاعرها الفردية... وكان الكاتب قد زعم (ص128) أن مى زيادة دفعت ثمن هذا الاقتحام غاليا. يقصد أنها لم تتزوج، ثم جُنَّت فى أواخر حياتها، أو على الأقل قيل: إنها جُنَّتْ، وأُدْخِلَتْ مستشفى المجاذيب فى لبنان. وبالمناسبة فالذين أثاروا قضية دخولها المستشفى وكتبوا عن مأساتها ودَعَوُا السلطات اللبنانية للتدخل وفك كربتها هم الرجال، الذين يتهمهم الغذامى بكل نقيصة ويشمت بهم ويسخر منهم ويسمى ثقافتهم: "ثقافة الفحل" مرددا هذا المصطلح السخيف مرارا وتكرارا حتى ليخيِّل هذا التكرارُ المسئمُ للقارئ أن الغذامى يكره الفحولة والفحول كراهية العمى. لكن لا بد أن نعرف أن مى كانت ضحية ظروفها الشخصية، إذ أرادت فى البداية أن تظل ملكة على عروش قلوب الجميع فخسرت كل شىء. ثم إنها وقعت بعد ذلك فى حب جبران، الذى كان يعيش على بعد آلاف الأميال فى أمريكا فى وقت كان السفر بين العالم العربى وتلك البلاد شيئا صعبا، ولم يكن جبران مستعدا للعودة إلى الشرق ولا له فى الزواج أرب، وهو ما أكده المؤلف (ص155). ثم جاء أقاربها الطامعون فى ثروتها فحجروا عليها وجنَّنوها. فما صلة دخولها عالم الكتابة بهذا؟ ولماذا لا تنظر يا د. غذامى إلى هذا الأمر من جهته الأخرى لترى كيف أحرزت مى زيادة فى أعين الرجال مكانة عظيمة واحتراما ضخما، ونالت اعترافهم بروعة إبداعها، ولم يعادوها أو يقللوا من شأنها، بل أفردوا لها صفحة مضيئة ساطعة فى تاريخ الأدب العربى. وهذا كله يهدم ما قلتَه عن احتقار الرجال للمبدعات ممن النساء.
أما ما زعمه الغذامى (ص142) من أن الرجال حاربوا المرأة الكاتبة واتهموها بأن الرجل يكتب لها فمبالغة مقيتة، لأن هذه التهمة لم تثر إلا فى حالات قليلة تستدعيها كثير من الشواهد، وإلا فلماذا لم تُتَّهَم بتلك التهمة شاعرات العرب أو خطيباتهم القديمات؟ ولماذا لم تتهم بذلك عائشة التيمورية أو ملك حفنى ناصف أو مى أو لبيبة هاشم أو وداد سكاكينى أو بنت الشاطئ أو سهير القلماوى مثلا؟ ومن جهة أخرى فإن الشك فى نسبة عمل أدبى إلى صاحبه ليس مقصورا على شك الرجال فى النساء، بل كثيرا ما تشك النساء فى إنتاج زميلاتهن الأدبى ويتهمنهن بأن وراءه رجلا، كما أن الرجال كثيرا ما يتهمون رجالا أمثالهم بأنهم ليسوا أصحاب الأعمال المنسوبة إليهم. وما الشك فى الشعر الجاهلى على سبيل المثال بالذى يجهله أحد. والحق أن الرجال، على العكس مما يقول د. الغذامى، قد أخذوا بيد المرأة وجاملوها، وإلا فكيف نفسر مثلا تردد كبار الكتاب على صالون مى وكتابتهم عنها، وكذلك كتابتهم عن وداد سكاكينى وسائر الكاتبات والشاعرات العربيات والأخذ بأيديهن؟ وهم أيضا الذين نادَوْا بمساواتها وتحريرها من الظلم الواقع فى بعض البيئات عليها. وما دمنا بصدد الحديث عن جورج إليوت فإن هذه الكاتبة البريطانية قد لقيت تشجيعا عظيما من عشيقها الفيلسوف العالم الناقد جورج لِيوِس لولاه لربما لم تبدع كل هذه الروايات التى أبدعتها، أو على الأقل: لم تكن لتبدعها بهذه الثقة وبتلك السهولة. وبسبب عطفه عليها ورغبته فى نجاحها كان حريصا ألا تَطَّلِع على أى نقد لكتاباتها. وقد ظهر أثر ذلك فى حياتها بمجرد أن مات، إذ اعتزلت الكتابة إلى أن ماتت بدورها. كما أن جون كروس، المصرفى الأمريكى الذى اقترن بها فى أواخر حياتها بعد أن تخطت الستين، قد كتب ترجمة لحياتها وشخصيتها . ولا شك أن هذا وذاك يدلان على عكس ما يريد د. الغذامى إيهامنا به من أن الرجال يبغضون النساء الكاتبات ويتمنَّوْن لهن الفشل. والعجيب أن الغذامى نفسه يستشهد (ص172 فما بعدها) بما تقوله كاتبة عن تشجيع الرجال للنساء، وعدم تشجيع المرأة لزميلتها. ومع هذا نراه يوجه التهمة للرجل لا إلى المرأة، وهو ما سبق أن قلت إنه يحتاج إلى دراسة نفسية.
ثم لقد كان هناك عشرات المبدعات فى عصر مى وقبل عصر مى، وتزوجن وكَوَّنَّ أُسَرًا، ولم يُجْنَنَّ. كما أن من الرجال الكاتبين من جُنُّوا كديسيموس اليونانى، وكان ناقدا، وجعيفران، ومانى (مصرى جاء إلى بغداد أيام المتوكل)، وأبى بكر الموسوس، وبرذعة الموسوس (صاحب المعتضد)، وخالد الموسوس، وهو شاعر كاتب، وجعفر سيبويه الموسوس (من عصر كافور)، وسوسنة أبى الغصن الموسوس، وشحطون الموسوس (بغدادى)، والوراق الموسوس، وكان وراقا فى دكان علان الشعوبى، وأبى حيان الموسوس (شاعر بصرى)، ومصعب الموسوس، وهو شاعر كتب عنه ابن المعتز فى "الشعر والشعراء"، والحسن بن عون الموسوس (شاعر من القرن الرابع الهجرى)، وديك الجن، ونجيب سرور وإسماعيل المهدوى. فما المشكلة إذن؟ ويجد القارئ أخبار مجانين الأدباء العرب القدامى عند الجاحظ وابن المعتز وأبى حيان التوحيدى وصلاح الدين الصفدى وابن شاكر الكتبى وغيرهم. ولابن حبيب النيسابورى كتاب كامل اسمه: "عقلاء المجانين".
ومن المضحك أنه، بعد كل هذه الاتهامات الغذامية للرجال، ينبرى د. الغذامى مؤكدا أن كل ما كتبته الكاتبات لم يخرج بالمرأة من سجنها اللغوى الذى حبسها فيه الرجل، اللهم إلا أحلام مستغانمى، فهى الوحيدة التى استطاعت التحرر كما يقول (ص180). وهذا يعنى أن جميع كتابات عائشة التيمورية ومى ووداد سكاكينى وأمينة السعيد وبنت الشاطئ والقلماوى ونازك الملائكة وعاتكة الخزرجى وجليلة رضا وفدوى طوقان ورضوى عاشور وغيرهن وغيرهن هو تضييع للوقت دون الوصول إلى الانعتاق. فقط ما كتبته مستغانمى فى "ذاكرة الجسد" هو الاستثناء الوحيد الناجح، مع أنهن كلهن كتبن عن مشاعر المرأة أما وزوجة ومحبة... ومنهن من تجرأن ومضين فى الاتجاه المتمرد الذى يحبه ويحبذه د. الغذامى. ومع كل تلك ماطنطن به الغذامى عن تأنيث اللغة نفاجأ به، كعادته التى لا يقطعها أبدا، يقول إن بطلة أحلام مستغانمى فى روايتها: "ذاكرة الجسد"، وهى البطلة التى أنثت اللغة فى رأيه وأتت بما لم تأت به الأوائل والأواخر معا، تنتهى بالزواج من رجل عجوز متزوج من امرأة أخرى (ص204) نزولا على رغبة عمها الذى كان يتطلع إلى إحراز وجاهة. أهذا هو الانتصار الساحق الذى أحرزته البطلة فى "ذاكرة الجسد"؟ أليس بهذه الطريقة قد ذهب كل ما قاله المؤلف فى الهواء؟
ويمضى د. الغذامى فى غرائبه المضحكة فيفرق (ص131) بين الحَكْى والكتابة قائلا إن الحكى يتجه إلى الداخل، بينما تتجه الكتابة إلى الخارج. ورغم أنى لا أستطيع تحقيق معنى هذا الكلام الشمهورشى العجيب أرى أنه لا فرق بين هذه وذلك، فكلاهما كلام: هذا أداته القلم، وذاك أداته اللسان، والاثنان يخاطبان الآخرين. ويمكن تحويل كليهما إلى صورة الآخر متى أردنا. ومما يزعمه أيضا أن الكتابة تستخدم فيها الكاتبة ضمير المتكلم، وكأنها حين تحكى لا تقول: "أنا" أبدا. فأى اضطراب فكرى هذا؟ كما يقول إنها حين تكتب تتحول من مضاف إلى غيرها كـ"أم فلان" إلى مضاف إليها فيقال: "صالون مى" و"كِتَاب مى". وهذا فى الواقع كلام يثير القهقهة. ترى هل هناك فرمان عثمانى بمنع الناس أن يقولوا: "حكايات شهرزاد" مثلما يمكنهم أن يقولوا: "صالون مى، وكتاب مى"؟ ثم ألم يسمع سيادته بـ"جميل بثينة وكثير عزة وقيس ليلى وقيس لبنى وابن قيس الرقيات وصريع الغوانى وعيسى بن مريم وابن اللتبية (من عمال رسول الله)، وشريك بن سحماء (صحابى) وابن ميادة (شاعر من مخضرمى الدولتين)، وشبيب بن البرصاء وأرطأة بن سهية (والثلاثة شعراء إسلاميون من غطفان)، ومحمد بن الحنفية (ابن على)، وابن سيابة (فى الأغانى)، وابن القوطية (المؤرخ الأندلسى)، وابن عائشة (لأكثر من واحد من العلماء وغيرهم)، وابن الداية كاتب سيرة أحمد بن طولون، وابن الداية (أمير يمنى فى أيام الدولة الرسولية)، ومجد الدين بن الداية الحلبى (أيام الأيوبيين)، وسابق الدين عثمان بن الداية (صاحب شيزر)، وابن هند وابن آكلة الأكباد (لمعاوية)، وأبى الزهراء (رسول الله)، وأبى عمارة (حمزة بن عبد المطلب)، وأبى عزة الجمحى، وابن مقطِّعة البظور (محارب قرشى قتله حمزة فى بدر)"؟ وهذا أشد وأعنف، إذ المضاف هنا هو الرجل نفسه، فضلا عن أنه مصاف إلى امرأة. كما أنهم كانوا يقولون: طُرَّة سُكَيْنَة، وطبق أم على، و(شايل) طاجن سِتّه، وبيت عاتكة (التى أتعزل). ثم إن أم فلان كان يقابلها أبو فلان، إذ كان نظام العرب الاجتماعى قائما، فيما هو قائم، على تكنية الرجال والنساء على السواء، وليس النساء وحدهن. أرأيت، أيها القارئ، كيف أنه ما من شىء يكتبه الغذامى إلا ويجىء مفعما بالثقوب والثغرات الواسعة التى ليس لها من علاج؟ ومن تلك الثقوب التى لا علاج لها فى كتابات د. الغذامى قوله مرارا إن الرجل لا يتناول المرأة فى كتاباته إلا بوصفها جسدا (ص189، 203 مثلا)، مع أن المرأة تتخذ فى كتابات الرجل صورا مختلفة ما بين أم وأخت وبنت ومحبة وزميلة وجارة وتلميذة وأستاذة وزوجة وموضوع للشهوة وموضوع للغيرة وموضوع للفخار وموضوع للحنان وموضوع للشفقة وموضوع للعبرة وموضوع للاحتذاء وموضوع للشهامة والنبل... إلخ.