نحيب مجهول المصدر

______________

_____ {1} ________

على رصيف الوحدة كنت هناك، بعيدًا عن السمر وتبادل الكلام،شَغِفٌ بطبيعتي الانطوائية وعزلتي المحببة، أتدرَّب في ذلك المكان على كيفية إلقاءالخطب بصوتٍ مرتفعٍ في ساعة متأخِّرة من الليل، مستعذبًا انعكاسات صوتي من على أعمدة الإنارة، والتقائه بهواءٍ يُبعد عن قلبي الاختناق، مُصدرًا ترانيماً لا تسمعها إلَّا أذناي المنصتة لذلك الانعكاس دون أن تأبه إلى أيِّ شيءٍ آخر، يشدهاالفضول بتمعنٍّ لتعرف ماهية الصوت حنين أم أنين؟ قوة أم ضعف ؟ ذكاء أم ضرب من الجنون؟!

في غمرة الاستغراق،أصابني صداع عنيف،شعرت بألمٍ واستغرابٍ بالِغَيْن..عادة ما يلمُّ بي هذاالصداع عندَ رؤية البشر فقط،كنت أظنهم مصدر هذاالمرض , وعامل تحفيزه الوحيد.

سموت على الألم وأخذت أفكر مليَّاً في واقعية افتراضي، ونظريَّتي التي تُقرن الألم برؤية البشر، شعرت بالحاجة إلى تبريرٍ فلسفيًّ،أو توسيعٍ لنطاق النظرية لتشمل كل ماله علاقة بالبشر..

كنت أقول"رؤية تسبب الصداع " ،فكرت في أن أضمنَّ فرضيتي مفرادتٍ أخرى، تبادرت إليَّ كلمة "ذكرى"...؟رجعت إلى شريط الأحداث، تحديدًا إلى ما قبل الصداع بلحظات، قلت في نفسي: لا يمكن ...!!! ، كنت حينها منهمكاً بالصراخ ولم أتذكر أحدًا، انتقلت بسرعة إلى مصطلحٍ آخر"ندم"...؟ فكرت قليلاً، ثم قلت: لايمكن... ! ، لم أُجرم بحق أحدٍ لأندم على ذلك، وما تناولت الخمر يوماً لأسطو على أحدٍ في ساعة من النوم المستعر! ، انفعلت بشدة...

لا بد أنَّ السبب يكمن في رؤية إنسان، أو متعلق على الأقلب إنسان..

هو... لايوجد غيره، وأخيراً عرفته، فرحت لأنَّ اعتقادي ما زال قائماً، لن أضطر إذاً لمزيدٍ من البحث، أبعدت عن نفسي شبح تغيير قناعتي الباعثة للراحة... ،سأرجع لأُهرول في تخوم العزلة من جديد.

لحظة...!!!

لكني لم أعرف ذلك الإنسان يوماً، والله ما صادفته حتى، ولا أردت ذلك في هذا العمر المحب للهجران، إذاً , لماذا أسمع من قلبه النحيب؟...!!! ، لماذا تلاحقني أطيافه مشددة عليَّ الخناق؟!! بأيِّ ذنبٍ يشدني إليه الشوق لأن ألقاه رغم أنَّ ذلك لن يجر إلا مزيداً من التعاسة؟! هو بالتأكيد سيكون كذلك، لأنه لقاءٌ محتملٌ بين إنسانٍ وشبيهٍ بالإنسان، مواجهة بين من اعتاد قلبه أن يكون كتاباً مفتوحاً وبين إنسانٍ يختزل الحكمة في قلبه وعقله دون أن تطالها جوارحه، في ذلك الحين المزدحم ببحث مجريات الحدث الهام، الذي قطع على كائن انعزالي قدرته على الثبات وحيداً بعيداً عن طيبة البشر ووفائهم، وحب الخير لهم، تذكرت قراري وقرار الإنسان الذي حمى الله بحكمتهما قلبين من النزول في وحل حياة مضطربة، لأدرك بأنَّ الزمان الذي خطَّته يد خالق رحيم لم يكن مناسباً لحكمة قد نستطيع أو لا نستطيع إدراكها.؟؟؟



{ 2 }


تستمر الحكاية بعد انتهائها بأيام .. ، اليوم استأنفَ القلمُ نحيبَ صاحبِه، أتى الصبح في رابعةِ الليل خلافاً للموعدالمحدد، أراد أن يبرهنَ نظريَّةً أخرى،" يُمضي المرئُ مئاتٍ من الساعاتِ لينسى الألم , وينجحُ في نسيانه, لكنَّه يعودُ إليهِ بصورة أخرى... أخفُّ إيلاماً وأشدُّ ضراوة! ".

في مكانٍ انعزاليٍّ آخر, هبَّت عليَّ انعكاساتُ النَّحيبِ الأول، توالت انكساراتُ البكاء مسافرةً في ميادينِ الصدى، لتدوِّي صراخاً في أبعد مكانٍ استطعتُ الوصولَ إليه. لعلَّ دهشتي لم تكن كذي قبل، فتجربتي علَّمتني بأنَّ العُزلة لا تسوقُ لمُرتادها الصفاء، نجحتُ دومًا في تلكَ الأمكنةِ المقطوعة السبل أنْ أخلق حالةً منالشرود الحاد،سرعان ما تعكَّرت بشوقٍ ملؤه الفوضى لإعادة عقارب الزمن !،أخذت أفكِّر مغرماً بعد اكتفائي من النظر طويلاً إلى خيالي الآدميّ الذي ذكَّرني بأنِّي لست وحيداً، ماذا لو نجحتُ وللمرة الأولى في السفر خلف حكايتي؟ لأصوِّب دفة الترحال، لأسلك دروب العقل، لأستعمل حكمتي التي أصبحتُ أراها أكثرَ فراسةً لمواجهة الحياة، لأحمل معي زهرة الاحترام بدل تلكَ الباقةِ الشائكةِ من زهور الحب! ،

ليتني أعود؟!!!

فعلاً أحنُّ للعودةِ خلف هضاب الساعة، أحرِّكُ عصارةَ فكري لابتكارٍ أو اختراعٍ زائفٍ، لا أدري مصدر هذه المسكِّنات ؟،لا أعلم إن كانت فعلاً كذلك ؟ربما هي نِتاج خلطي بين النظرياتِ والمسلّمات! ،عقلي يؤلمني آنستي،رماني ذكاؤكِ الخارقُ وضعفُ بصيرتي، ذهبتِ بعيداً دون أن تعلمي نظريتي الجديدة..

أقف هنا متجاوزاً أحداث الجزء الثالثِ من نحيبي، لا تساؤلات، لا مزيدَ من الاختراعات، سحقاً للاكتشافات،

أعلمُ أنِّي مفتونٌ في عالمِ الاستحداث، توهمتُ قدرتي على صوغِ ما هوجديد، بتُّ مدركاً أنِّي أحمل جينًا واحداً من تلك الجينات المطبوعة على موروثاتِ العباقرة،

أشترك معهم في صفةٍ بارزةٍ تفصل بين التجديد والتأخُّر،إنها سمة "الجنون" ...! لا أبالي بذاكَ السرب من الحاقدين الذي يحسدُ أشدَّ الحالات بؤساً في الإنسان، أولئك الناظرين بأطراف العيون إلى نعمة الصخبِ والجنون؟!، أقولها بحزمٍ ولتنتهي بها حكاية غريب فكرٍومنطق:

هنالك من النظريات ما يكفي لأن لا تفكر ملياً.. ،

والأكثر طمأنينةً بأنَّ هنالك من المسلَّماتِ مايحفِّز الراحة العصماءَ من بعدِ أشدِّ الجرائم هولاً! ..




{3}


هل أنا مذنب...!؟

أقولُ بعفويَّة بعيداً عن أحداث استيطاني في ذلك الصراع بين نفسي وحاجتي... أنا مذنب , بل وسقى الذنب شجيرات إحساسٍ خاملةٍ من ماعون اضطرابي وتخبُّطي في دياجير الانفرادية, فأحالها ثوراتٍ أخرى تنادي بتأنيب الضمير.
ها أنا يا سهر رفيقك, هَمْسُك , فَرحُك الذي أجتهد في سكبه من جدول افترسه القحط, وتهاوت في انسيابتِه سموم الزبد, ودماءٌ فاسدةٌ تكدَّست من إثرِ محاولاتي البائسةللانتحار! . هجرتُكَ يا سهري بعزمٍ طالما ألححتُ عليه الثبات، حتى نفدَ ذلك المخزونُ من نصائحي، وإتقاني لآيديولوجيا المواعظ، فأثرتَ الراحةَ وصمتك المعهود، ومضيتُ أنا بدوري بعيداً عن وحدويتي أسترجع طيفي المبعثرِ في مزاجيَّةِ البشر, وتنكُّرهم لمأساتي ..
مضينا أنا وأنت بلا وداع!!

أجبرنا الكبرياء أن نبحر في الصمْتِ دون أن نلتفت لشحوبنا القاحل, ولوننا المثْقَلِ بالزُّرقة وراديكاليَّة الصدمة النابعة من يقينٍ راسخٍ بأنْ لا جدوى من وداعٍ إن لم يتبعه لقاء...! , قناعةٌ مشوَّهة بَنيْتُها على قصورٍ حادٍّ في فهم مفاجآت الحياة, وعشوائيةٍ تعلمتُها بذاتي بعيداً عن حقائقَ كونٍ فسيح لم أعرف منه إلا مساحاتٍ من الظِّلال السوداء, وأمكنة قطبية لا تعرف ملمس الضوءِ ودِفئه...
لأصعق باللقاء مرة أخرى على مفترق المصالح ...! !؟؟

ذهولٌ سرعان ما تلاشى بقليلٍ من التفكير " غريب وكأنّي لا أفكر إلا في حضورك", عرفتُ حينها بحتميَّة تكرار المحاولة, فأنا والسهر في حالةٍ مشتركةٍ من الحاجة , السهر يريد راهباً يهمس في جنباته , وأنا مجبرٌ على رفقتهِ لانعدام سواه ,خلافاً لمشاعر تلك اللحظة المدهشة من ارتجافِ القلب , وبهجةِ التصادم ...

كان جلُّ تفكيري منصبَّاً على إيجاد عاملٍ مشترك، وتجانسٍ يحفظ لنا الاستمراريَّة سويَّاً هذه المرَّة، أو التصرف بطريقةٍ أكثر جدوى إذا ما دق الوداع أجراس الفراق فلم أجد !!، صدقاً لم أجد ..

وكأن علاقتي بذلك المجهول مقدَّرٌ لها أن تبقى سائرة في دورةٍ منغلقةٍ بين الصدمةِوالأخرى ؟!!!


{4}


" الجزء الرابع والأخير "

نبذْتُ ميقاتَ نومي لأرسم ملامِح النهاية، على صياح الدِّيَكَةِ أدركت أنِّي لم أنم منذُ يومين، كنتُ أحاول الهروبَ من الزَّمن، أرتجِفُ لرؤيَةِ الحائطِ خوفاً من ساعةٍ معلَّقةٍ عليه، عقارِبُها بالنِّسبة لي ندٌّ ونحيبي الذي غابَ عنهُ المَطَرُ وغزارَتُه، فاستعرتُ تقريباً له دُجى اللَّيل وسَواد كُحْلِه، عَلِمْتُ من صياح الديكِ بأنَّ الدنيا وإن رحبت مَساحاتُها وكَثرت ساحاتُها، لن تفشل يوماً في إيصال الحقيقَةِ إلى كائنٍ مهما بلغتْ وسائِلُه الارتقائية للتخفِّي أو الاندثار.

سنَّةُ الكونِ , يبقى الفردُ جزءاً تضمُّه الحياةُ تحت جناحِها مادامَ في روحِه بقيَّة حتى وإن ماتَ جسَده...!،معادَلةٌ فلسفيَّة! هذيانٌ بتأثير حرٍّ شرقيٍّ كشَّر عن جحيمِه! بعيداً عن التلاعب ..."هروب" ؟.. لا جدوى من الهروب.. الحقيقةُ تدقُّ أبواب الجميع، هرول إليها إذاً لتنال شرف احتضانها كما احتضنها من قبلك المذنبون.؟

ويحي حيَّرتُ نفسي وأسكنتها في سحيقِ التضارب، لستُ جباناً ولكن أخشى الإقدام، لذلك سببٌ لا أستطيع سوقه، لا ... لن أستطيع! ، أقعُ هنا في قفصِ المبرِّرِ منجديد،

في ذاك السَّهْلِ المُستحيل، معضلةٌ أقرب ما تكون لأن وعيتُ إلى قلم أحمر أترجم به بطانَة فكري رغم اعتيادي لأن أنثرها بالأزرق !خوفٌ أصابني من خطرِ النِّهاية، حفَّزني لابتداع تساؤلاتٍ في الرَّدِّ على مضمونٍ سابق، لماذا أعجزُ عن مواجهةِ الحقيقةِ وأنامذنب، رغم أنّ غيري من المُذنبينَ لم يعجز عن ذلك؟؟؟
صدِّقني، لا يكمن الأمر باعترافي أوعدمه، إنَّه عائق الحقيقَةِ ذاتِها! فمذنبٌ سلَّم بما فعلَ فعوقب بالتوبيخ، وآخرُ عاقب نفسه بتأنيب الضمير، وآخرُ رضخَ لجرْمِه فَعوقِبَ بالإعدام، وأنا ... ويح سكينٍ دون نحري تشكوه خواصري،لا لن يكون ذلك...! فالعُقوبَةُ أشدُّ من أن تطاق، إنهاغربَةُ الجَسدِ الواحد، رصاصةُ الرحمة على خير عرف قلبي اعتاد تطواف جوارِحي في كرباتي، فعلام أعترف فيُدفنُ لِيُشَيِّعبه مارِدُ لؤمي إلى حتفِه , وليدرِّبَ كلِّي على اغتيال خير الآخرين فأصبح وسيلةً مأجورة، ليسوقني بعدها إلى حتفي؟؟؟!

استحال التشابُكُ هذهِ المرَّة أن يفَضَّ بالمُليِّنات، ها أنا وبعد استغراقٍ منهكٍ أجدُ نفسي في دربٍ مغلق، هنا اخترتُ أن أتوقَّف، أذعنْتُ لعدم جدوى التفكير في حضرةِ عبقريَّة الكون، فالمسلَكُ المغلقُ لا يحتاج إلى ابتداع، لا يحتاج إلى نظرياتِ تمنٍّ أو "هرطقات " ! , لا يحتاج إلَّا للبحثِ عن مسلَكٍ آخر، لا تكلِّف نفسكَ فوق طاقتِك، لا تحاسب روحكَ بما تجاوز عنهُ خالقك..

ولا تسلْ عن السبب ، فقضاءُ الله حَكَمٌ إذا جنَّ القلبُ أو انتحب .


*_______________________*




ســهــــمـــ 25/2/08