ا ان المسرح قضية حضارية أساسا فانه ينشأ ويتطور في المدينة الحضارية تحتمه تكاملية المجتمع المديني، ولهذا فان اي تفكير بجوهر وماهية المسرح هو بحث قوامه وطبيعته اجتماعية وفلسفية وجمالية وفينومينولوجية ـ ظاهراتيه ـ ايضا .. وبالرغم من ارتباط المسرح بالمثيولوجيا والطقوس الدينية لمختلف المجتمعات القديمة، الا انه كان ـ وما زال ـ يعبر بشكل بصري عن التصورات والأسس الفكرية والفلسفية والمشكلات الاجتماعية للإنسان. وقبل نشوء الفلسفة، شكلت الأسطورة التي كانت قادرة على تفسير العالم والكون، الأسس الفلسفية لحضارات وادي النيل والرافدين والحضارة اليونانية وحضارات الأبيض المتوسط، فامتلأت ساحات المدن ومعابدها بالطقوس البدائية والنصوص الأسطورية والدينية واللتورغيات التراجيدية. ومن خلالها نستطيع ان نكتشف الكثير من المفاهيم الفلسفية والدينية والجمالية التي امتزجت بالحياة الاجتماعية آنذاك والتي لها إمداداتها وانعكاساتها في حياتنا المعاصرة، مما يؤكد القدرة الديناميكية الشمولية ـ التجاوزية للعقل المشاكس لإنسان الحضارات القديمة الذي اعتمد السؤال كمنهج لتفسير الظواهر. والسؤال بدء المعرفة يؤدي الى تراكمات معرفية وحضارية، فيدهشنا البعد ألاختراقي لهذا الفن الأسطوري ـ الطقوسي.ولكن السبب الحاسم والمثير الذي أدى إلى تطور المسرح هو الذي حدث في الحياة الاجتماعية الإغريقية حيث خلقت الممارسة الديمقراطية في المجتمع ألاثني القديم تطورا داخليا هائلا. ومنذ ذلك الوقت أصبحت التراجيديا اليونانية، التي كانت تقام في الاحتفالات القومية للإغريق ، احد التعابير المتميزة للديمقراطية الاثنية، واغتنت بتطورها. ويؤكد هذا قدرة المسرح على التأثير في المدينة وبالعكس، مما دفع فردريك شيللر إلى الجزم بان (المأساة الإغريقية ربت الشعب). ولهذا يمكن القول بان المأساة آنذاك أنشأت الإنسان الإغريقي ومنحته وعيا متجاوزا يجد في الفن انجازا مهما يجب أن يتطور باستمرار.حيث أستلهم شعراء المأساة الثلاثة – اسخيلوس ، سوفوكليس ، يوربيدس – موضوعات مسرحياتهم من الأساطير اليونانية القديمة ، فإذا عرفنا أن الأساطير كانت تمثل درجة الوعي في زمن ما وان حقبة طويلة قد أنقضت بين ذلك الزمن والوقت الذي كان يقدم فيه زعماء المسرح نتاجهم ، تغير خلالها تفكير الجماعة ومطامحها وآمالها وازدادوا أدركا للوجود من حولهم ، أمكننا أن نتصور مدى الجهد الذي يحتاجه الشاعر لكي يعيد صياغة موضوع بدائي قديم يعرفه جمهوره حق المعرفة بحيث يجد فيه ذلك الجمهور شيئا ذا بال يهتم لسماعه مرة أخرى ، وبمعنى أخر إذا صح أن كان تطور الفكر والمعرفة يرتكز في نهوضه على التطور الإنساني أو كان التطور الإنساني يستند في ارتقائه على تطور الفكر والمعرفة كما يذهب فريق أخر ، فان ما ينتهي إليه هذا الرأي أو ذاك هو نتيجة وحدة تتمثل في ارتباط الفكر بالحياة أوثق رباط ، فكيف يمكن أن ندافع بركب الحضارة إلى الأمام ثم نعود بنهضة الفكر إلى الوراء .لقد ظهرت التراجيديا باليونان كضرب من ضروب الفنون الأدبية وذلك حين تطورت الحياة الاقتصادية والاجتماعية . نتيجة ازدهار الحركة الفكرية عامة والأبحاث العلمية والفلسفية خاصة حين كان النظام السياسي ديموقراطيا يعتمد حرية التعبير والتفكير والمساواة في الحقوق ، بما في ذلك حق التعبير عن الرأي دون تحفظ وهذا بفضل الجهد الذي بذلته الحركات الفكرية التي أنضم إليها عباقرة من رجال الدين والفلسفة ، الذين كان لهم شرف المساهمة في إثراء المفاهيم الأدبية والفنية من خلال طرح القضايا على خشبة المسرح سواء كانت تلك التي تتعلق بالحياة السياسية او الدينية أو القضائية . وبحكم التحول الاجتماعي الاقتصادي الذي عرفته اثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد ، كدولة ذات مقومات وتقاليد حضارية وبالرغم من ذلك بقيت الطقوسية طاغية على الحياة الاجتماعية فكان للكاهن الرئيسي الدور الآمر والناهي فهو يتزعم موكب الاستغفار وممارسة التعاويذ العلنية ) لطرد الأرواح الشريرة والأشباح (وكان يتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع اليوناني فهو الفيلسوف والمصلح الاجتماعي والعالم والطبيب . وقد امتدت صلاحياته إلى عقد القران بين الأزواج في موكب طقوسي جنسي يكتسيه المرح والفرح لما له من دلالة ورمزية للإخصاب والحياة ، كما أن وظيفته هذه المتعددة تخول له أيضا الإشراف على المواكب الجنائزية وهو الحاكم الحريص على التدين والإيمان للقيام بالواجب الطقوسي وكل ماجاء بالأساطير والقصص الشبه خرافية على لسانه كخطاب ديني توجيهي معززا للقيم الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية ، ومن ثمة نشأ المفهوم الدرامي عبر المحاكاة للمواضيع ذات الصيغة الخرافية الشبه الدينية ، التي كانت موضع إلهام الكثير من الشعراء الذين انتقلوا بها من ميدان الاحتفال الطقوسي على شرف الإله دينسوس.وقد كانت أعياد ديونسيوس أهم المناسبات التي ساعدت على نشأة المسرحية ، لان حياة ذلك الإله امتلأت بكثير من الخطوب وبكثير من الأحداث السارة ، وكان ذبول الأوراق في الخريف والشتاء رمز لموته فتكثر الأحزان ، كما كانت عودة الأزهار وتفتح البراعم ثم الحصاد في الربيع رمز لبعث الإله من جديد ، فتقام الاحتفالات والمهرجانات .ولقد تطورت التراجيديا بفعل انتشارها كصنف أدبي يعالج كل التناقضات الكائنة في حياة المجتمعات اليونانية ؛ فهي بشكل أو بأخر الإدراك المتمحور حول العلاقات الإنسانية تجاه الإنسانية أو تلك المتعلقة بالقوة )المافوق – بشرية ( أي ) الماورئيات ( فهي محاكاة الإنسانية لذاتها من خلال ممسرحة الفعل الإنساني . والشاعر التراجيدي لا يحاكي ما هو كائن وإنما يجب أن يحاكي ما يمكن أن يكون وينبغي أن يكون بالضرورة أو بالاحتمال لأن محاكاة أفعال النفس العقلية وانشغالات الإنسان التي تتمحور حول عاداته ومسعاه في تحقيق السعادة التي تتجسم في السلوك الفاضل كما يجب أن يصور الفعل المسرحي بالتراجيديا المجابهة بين النقيضين وتكون العدالة خيرها الأسمى ويتطلب ذلك الارتباط بمعنى الرجحان والضرورة سواء كانت التراجيديا خيالية أو مستقاة من أحداث تاريخية وإنه لا يجوز للشاعر الدرامي أن يؤلف تراجيدية من أجزاء غير معقولة كالأحداث المستحيلة الوقوع . وهكذا يتبين أن التراجيديا لا تقلد شخصيات وإنما تقلد التحرك بحثا عن السعادة المطلقة أو الخير المطلق أو هدف ما في الحياة ، والتمثيل فيها لا يقصد محاكاة الأخلاق فهو يتناولها عن طريق محاكاة الفعل باعتبارها محاكاة للأخلاق والعواطف والأفكار . ولتفعيل التطهير ؛ فهي تحتاج إلى الانقلاب والتعرف عبر تحرك الشخصيات في انتقالها من حالة إلى أخرى ، كالانتقال من الحب إلى البغض أو العكس ، وبفعل التطور الذي عرفته لقد استقرت صياغتها اعتماد أسلوب أدبي مبنى على العناصر الفنية التالية : ) حبكة- قصة – نظم – شخصيات – طباع – حدث – حوار – عقدة ( كما ركز جل الكتاب المسرحيين اليونانيين في أعمالهم المسرحية على العناصر الأساسية التالية ، باعتبارها أساسية في البناء الدرامي للتراجيديا.حين كانت أثينا عاصمة اليونانيين تعيش عهد الديموقراطية وازدهار الحياة الثقافية في القرن السادس قبل الميلاد ، كثر محصول الأساطير الشعبية الغنية بالخيال والمعاني الفلسفية والأدب وحب الجمال ، فبلغ الفن الدرامي وقتئذ قمة لا مثيل لها ، حيث أقيمت المهرجانات ، التي كان يتبارى فيها الشعراء عبر القصيدة الشعرية والأغاني والأناشيد إلى جانب ممسرحة الأساطير والقصص الخرافية المقتبسة من الهوميريات وغيرها من الأعمال الأدبية الفنية القديمة .والجانب العسير في دراسة المسرح اليوناني القديم ،إننا ونحن نتابع إحدى المسرحيات لا نكاد نفرغ من بحث قضية حتى تطرح نفسها للبحث قضية أخرى قد لا تتصل بالقضية السابقة اتصالا وثيقا ، بل قد تتقابل أو تتعارض معها أحيانا، والسبب في ذلك هو أن طبيعة البحث في الدراما الإغريقية القديمة مزدوج . من أحدى الزوايا بازدواج الشكل بين الشعر والدراما وما لكل منهما من قضايا متفردة ، فإذا كان التكنيك الدرامي عبئا على المحتوى في المسرحية ، فإن صب هذا العمل أخيرا في قالب جديد من الصياغة الشعرية يصبح عبئا أخر بما يفرضه الشعر من قيود جديدة ، فالمسرحية تنبثق أصلا من أعماق التوتر القائم بين حياتنا التي تكابد الافتقار إلى الكثير وبين تطلعات مطامحنا إلى المثالية وما ينطوي عليه هذا التوتر من تمزقات بين جمود الواقع وشطحات الخيال ، ومن ثم كان ارتباط مادة الدراما وشطحات الخيال على نحو خاص بالخير والشر ، فهي تبدأ بتجربة أخلاقية وتنتهي بحكم أخلاقي هو من أهم مقومات الخلق الدرامي وهي في كليهما تشتمل على قيم اجتماعية أو أخلاقية من صميم الجماعة التي يقدم لها هذا العمل أو ذاكوالتي تستهدف الدراما إمتاعهم أو إصلاحهم ، وهنا يحق لنا أن نرفض النظرة الغيبية الميتافيزيقية القائلة بأن الفن للفن والأدب للأدب … الخ ، والتي ترى الإبداع الفني من خلال حدقة ضيقة لا تتسع إلا للعمل ذاته ، كالذين يرصدون الأشياء من خلال منظار دقيق فيرونها كأشد ما تكون وضوحا بينما تخفى عنهم جوانب المنظار كل ما يحيط بمواضع اهتمامهم ، ويحق لنا أن نلح بإصرار على ضرورة استهداف الدراما – على الأقل – قيما أخلاقية أو اجتماعية .)حيث تطرق يوربيديس الى موضوع المرأة بشجاعة ، وصور أفعالها الخيرة كالوفاء والإخلاص والمحبة ، في نفس الوقت الذي تطرق فيه إلى سلبياتها من ثرثرة وأنانية وخيانة وحقد .. وقد يرى بعض المهتمين بدراسة التراث المسرحي العالمي ، أن الشاعر يوربيدس قد كان محل ظلم حين تهجم عليه الكاتب المسرحي الكوميدي أرستوفانيس في مسرحية الضفادع لسبب وحيد وهو ابتعاد يوربيدس عن المسرحية الدينية ، والتي تمجد الالهة كما كان يسخر في أعماله من التراث الخرافي الاسطوري ، محاولا من خلال وقفاته تلك إخضاع التراث الأسطوري الخرافي إلى مقاييس عقلية وإرجاعه إلى أفكار منطقية عبر ممسرحة المواضيع التي كانت تتناولها مسرحياته ومن أهمها ) الباكاوسيات ، الطرواديات ، افيجينا ، هيكوب ، الضارعات ، الفينيقيات ، ميديا ، هلانة ، اندروماكا ، الكترا (وحين صارت العاصمة اليونانية وقتها تمثل مركز إشعاع حضاري ، وبعد أن كانت العروض المسرحية تعرض داخل المعبد الرئيسي .تقرر تنظيمها بعيدا حتى عن الأسواق ، واستقر الاختيار على تقدم العروض بجانب المعبد الرئيسي ، فخصصت لها قطعة من الأرض المستديرة الشكل تشرف عليها ربوة واحتضن هذا المكان أولى عروض الكاتب المسرحي أسخيلوس ومن ثمة ، بدأت تظهر التعديلات على المكان المختار فخصصت فيه الاوركسترا للتمثيل ، كما أضيف إلى جانبها بنيات سميت فيما بعد بالكواليس مع تعيين مكان خاص بالمتفرجين ، ومكان أخر بجانب الاوركسترا لبناء المناظر ووضع الآليات المختصة ، مثل : المنصة الصغيرة المتنقلة ، وفي تلك الأثناء بدأ ظهور الزى المسرحي والفضل في ذلك يرجع إلى الكاتب المسرحي اسخيلوس الذي عين الزي المناسب لما للزى والتنكر من أهمية في التأثير على المتفرج ونقله إلى عالم الخيال ، مثل ما جاء في مسرحية الضفادع لأرستوفانيس وقد لعب دورا أساسيا في تقريب المتفرج من الوقائع ، التي تصورها المسرحية على الخشبة في شكل أحداث ، ومن خاصيات الزى في تلك الإثناء هو أن يكون ضخما حتى يظهر الممثل من بعيد لكي يعيش المتفرج أحداث المسرحية ويتابع الوقائع ويستخلص بسهولة التي يرمي إليها الموضوع المسرحي .(فنجد مثلا مسرحية الكترا لا تبدأ ببداية القضية ، ولكنها تبدأ من المنتصف لتصور الحالة الكائنة ثم تسترجع الأحداث الماضية في شكل روائي حتى تصل إلى حاضر القصة ثم تتطور مع ما تتطلبه الخاتمة من أحداث وبهذا تتحقق الوحدات الثلاث ، الزمان ، والمكان ، والموضوع .وتعد مسرحية الكترا واحدة من المسرحيات الترجيديا اليونانية المروعة حيث تستطيع بفطنتها وذكائها تساعد أخاها اورست في الانتقام من أمها وزوجها اجيست ـــ مع العلم إن أحداث هذه الحلقة من هذه المأساة المروعة تحدث بعد قتل أجاممنون بعشر سنوات أخرى ، وذلك حينما يعود الفتى اوريست ابن الملك اجاممنون والملكة قلوطمنستره ، وأخوا الكترا ، من منفاه وفي صحبته رائده بيلاد . ويكون اوريست ألان قد أصبح رجلا قويا وفي استطاعته الثأر لأبيه من أمه ومن عشيقها اللذين نفياه وهو طفل صغير، وهذا حتى لا يعكر عليهما صفوا غرمهما بوجوده بالقرب منهما ، وعند عودته يوجد أخته الكترا عند مقبرة أبيه قبيل الشروق أرسلتها أمها لتضع قربانا على قبر اجاممنون تهدئة لروحه لأنها رأت في المنام أنها تلد ثعبانا لا تكاد تضعه حتى يلدغها فتموت.. وهي لهذا تنهض مفزوعة من نومها ، فتوقظ ابنتها لتذهب إلى قبر أبيها كي تضع على قبره هذا القربان لأنها تؤول هذا الثعبان بانه اوريست ــــويحضر المربي إلى القصر في ثياب رسول جاء إلى الملكة بنبأ هام من عند اوريست ، وعندما يجد الملكة يخبرها أن ابنها قد توفي فتحزن أشد الحزن ، لتخبر هي أيضا الحارسين بالرسولين ، وتدخل إلى مخدعها أين تقتل ، وعندما يسمع ايجيست خبر وفاة اوريست الذي لم يكن شبحه يغيب عن عينه لحظة ، خوفا منه ورهبة .. حتى يضربه اوريست بضربة تسرع بروحه .وكان أحسن مشهد من ذلك هو عندما دخلت خروسثميس إلى الكترا وقالت لها إنها رأت أبها ظهر أمامها ، وانه غرز في بيتنا الصولجان الذي كان يحمله في الماضي ، قبل أن يأخذه إيجست، ومن هذا الصولجان انبثق غصن مزدهر ، قادر على أن يغطي بمفرده بواسطة ظله أرض موقنا.وتخبرها الكترا بأن لاتقدم الى القبر شيا مما تحمله لأنه ليس من العدل ولا من المـشروع أن تقدم قرابين باسم اشد الأعداء ، وتتدخل الجوقة وتقول لها (( بأن هــذا الرأي صـحيح ، وإذا كنــت علـى صـواب لابـد عــلــيك ان تفعلي به.)) وعندما تبدا الكترا في العويل والبكاء وبين الحين والأخرى تحاول الجوقة طمأنتها واعدتها الى رشدها ، دعينها في نفس الوقت إلى الكف عن العويل والبكاء ، لتعود إليها أختها خروسثميس والفرحة والسرور بادية على وجهها لتخبرها بعودة اوريست. وهذا ما لا تصدقه الكترا ، ولتأكد من ذلك يحثها لنظر إلى خاتم أبيه ، حتى تتأكد جيدا من شخصيته لتقول الكترا (( إيه يا جمل الأيام ….. إيه أيه الصوت الحبيب ……. لقد جئت إلي …. ها أنت ألان بين زراعي. )) وتمسكه و تضمه إلى صدرها. وتقول بأعلى صوتها (( أيتها النسوة العزيزات ، يا نساء مدينتي ، انظرن إلى اورست هذا الذي أوهم الخداع أنه مات ، لكن الخداع أنقذه اليوم ، ليقول لها اوريست نعم ها أنا ذا لكن اسكتي حتى لا يسمعنا احد خلف هذه الجدران ، لينصرف من القصر صحبة رائده بلاد وبطريقة ذاكية إلى الغاية يقتلون الأم في مخدعها ، وعندما يدخل ايجست القصر فرحا مسرورا يسأل الكترا عن الجماعة التي أعلنت عن موت اوريست ، يوجهونه إلى مخدعها وعندما يرفع الستار يكتشف أنها مقتولة ويتراجع إلى الورى خائفا مرتبكا سائل اوريست هل ممكن أن يشهد هذا القصر سلسلة من الأموات الجديدة يجبه اوريست بنعم هو موتك ، وأنا الذي سأضيفه ، لتتعلى موسيقى الحزن صاخبة ليعلن اوريست عن موته ،شخصية الكترا : كانت ذات إرادة قوية أثناء المحن والمصائب التي تحيط ، وتقف صامدة امام الظالمين وهي تعيش من أجل فكرة واحدة هي الانتقام لقتل أبيها الذي غررت به زوجته قلوطمنستر ، بالتواطؤ مع مغتصب ، ولكون الكترا لا حول لها و لا قوة لكنها زعزت نفس القاتل ابيها وزرعت فيه القلق وهذا يدل أن صاحب القضية العادلة ، مهما يكن ضعيف الوسائل فلا بد من الفوز في النهاية وعكس شخصية الكترا في المسرحية هي خروسثميس أخت الكترا فهي تتصف بضعف الإرادة والجبن وعدم الاستعداد لتحمل المسؤولية ، واليأس من إمكان التغلب على الأقوياء والاستسلام بسهولة .أما شخصية قلوطمنستر : أنها المراة التي من اجل المصلحة تقوم بكل الأشياء ، وحتى إن كان القتل ، وهذا ما جعلها ترتكب جريمة القتل ضد زوجها من اجل السلطة مع عشيقها اييجست ، ونستشف هذا عندما أخبرها المربي بالخبر الكاذب عن موت ابنها في سباق العربات ، وهـذا خوفا من الانتقام حيث أنها سلمته مكافئة على الخبر المفتوح لها ، رغم انها لا تستطيع الدفاع عن جريمتها الكبرى بقتل زوجها بأن تزعم أنها انتقمت منه لأنه ذبح ابنته قربانا للإله الذي طلب بذلك مقابل أن يجعل الريح المضادة لسفر الحملة ضد ه بزعامة اجاممنون ، تهداء ولاتعترض هذا السفر .أما شريكها في قتل اجاممنون ايجست على الرغم أنه ظهر في المشهد الأخير حتى يتلقى الموت ، وذلك حين علم بنباء مصرع اورست ، راح يتأكد من صحة هذا النبأ بحرص بالغ فسأله الكورس أولا ثم تكلم مع الكترا يخشونه توحي في الوقت نفسه عن فرحة الشديد بهذا الخبر و اجابته الكترا ،على أسئلته بالواقعة بعبارات تهديد لم يفهمها إيجست جيدا .بل تصور أنه سيجد في القصر ليس فقط الجماعة التي جاءت بنبأ مصرع اورست بل وجد الدليل القاطع على صحة هذا النبأ وأعمته الفرحة بهذا النبأ الى حد أنه أمر بفتح الأبواب ، لعرض جثة اورست على الملأ من أهل موقنا ، ليشهدوا بأعينهم مصرعه وفتحت الأبواب ، وشوهدت جثة دامية ومغطاة بغطاء يحجبها لكنها كانت زوجته ، وهناك كانت الصدمة التي تلقاها لأنها لم تكن جثت اوريست .وتعد شخصية خروسثميس شخصية توحي بالضعف المقرون بالإخلاص العاجز ، فهي لا تريد أن تشارك أختها فيما توحي إليه من خطة للانتقام من قاتلي أبيها ، لكنها في الوقت نفسه تتمنى أن يعود اورست ليتولى هذا الانتقام ، والمنظر الوحيد الذي تتجلى فيه هو حين تأتي لتوافي الكتر بنبأ عودة اوريست استنتاجا من مشاهدة واقعة هي أنها وجدت على قبر اجاممنون خصلة شعر لابد ، أنها من شعر اورست فمن عسى ان يقدم هذه الخصلة قربانا على قبر اجاممنون ، إن لم يكن اورست هو نفسه ومن هنا تصورت أنه موجود في هذه النواحي وراحت تحاول إقناع الكترا بذلك لكن الكترا الواعية لا تستطيع تصديق هذا الاستنتاج وتقف أختها على هذا الوهم قائلة لقد مات ايها البائسة وأنا أعلم ذلك من الرجل الذي شاهده يموت ان هذا الرسول موجود في القصر حيث تستقبله أمنا فلم تملك خروسثميس الا البكاء على خشية امها هذه في عودة اوريست ، وهذا المنظر هو الوحيد الذي تلعب فيه خروسوثميس دورا بارزا ومؤثرا معا. وتأتي بعد هذا شخصية .المربي : فقد أدى مهمته بمهارة وجدارة إذا ادعى أنه جاء من فوقس بنبأ لهم ، وهو مصرع اورست في سباق للعربات وكانت هذه الرسالة الكاذبة جزءا من المؤامرة التي دبرها اورست للمجئ إلى موقانا خفية ومتنكرا ليقتل قلوطومنستر ، و ايجست ثم يظهر هذا المربي ثانيا في تنفيذ مؤامرة الانتقام فيقوم بدوره الجاسوس على قلوطومنسترا ودور المرشد لأورست والمتستر عليه .، والجوقة هيأت للمسرحية تكاملها في أطار من الطقوس الدينية ذات التناغم الملائكية ، فأدخلت بذلك الشعر في مادة المسرحية وهي تشبه إلى حد كبير جماعة الكهان الذين يرتلون القداس في الكنائس في هارمونية روحانية الجرس ، ويعبر اليونانيون عن فرحتهم بالرقص والإنشاد والغناء ، وكان الديثورامبس هو أول نوع من أنواع الشعر الغنائي الذي كان ينظمه الشعراء وينشدونه في مهرجانات ديونسيوس ، يلقيه الشاعر بمصاحبة الناي ثم يردد وراءه أتباع ديونسيوس ) الساتوروي ( بعض الأبيات التي يلقنها لهم الشاعر مكونين بذلك الجوقة في شكلها الأول ثم خطا أريون ) 650 ق.م ( بهذه الأناشيد إلى مرحلة أخرى فأصبحت تصاغ قبل القئها بدلا من ارتجالها كما نظم الحوار بينه وبين الجوقة التي شذبها وثبتها في مكانها وقد كانت من قبل تتكون من حشد مضطرب من عامة الناس ، وقد أدى استقرار الجوقة في مكانها إلى استعمال درجات مذبح ديونسيوس كمسرح يقف الشاعر على أعلاها وتنظم الجوقة على الدرجات التالية تباعا ، ثم تباورت فكرة الحوار بين الشاعر والجوقة فأصبح أكثر درامية عندما أدخل شبس ) 580 ق.م ( بعض التجديدات فجعل الرواية رئيسا للجوقة وأصبح يقوم بالدور الرئيسي فيمثل شخصيته الإله وشخصية البطل أو أحد أعدائهما أو أنصارهما بعد أن يغير ملابسه بعد كل دور يؤديه .فأسخيلوس كان يؤمن بأن ثمة عالمان من الروحانيات تعجز ـ عن أدركه الكلمات ـ وسيط التعبير عن الأفكار ، ولا يدركه غير الشعر بتنغيمات موسيقاه ، وقد خلص نشيد الجوقة من الصبغة الذاتية بأن حول الغناء فيه إلى تراتيل وترانيم دينية لا تعبر عن علاقة فرد بعينه بالآلهة وإنما تصور موقف الإنسان برمته منها) يعد إيسخلوس ، بإجماع الدارسين ، ابو المأساة الإغريقية ، وممثل لحظة عظيمة من لحظات الوعي الأوربي حقا إنه قد سبقته بدايات ، ولكنها جميعا تتضاءل الى جوار إنجازه .إن الاختلاف بين ثسبس وكويريلوس ويراتيناس وفرنيكوس من جهة وإسخيلوس من جهة أخرى لأشبه بالاختلاف بين أهرام الأزتك الضئيلة في المكسيك وهرم خوفو الأكبر . يقول الرحالة الإغريقي باوسانياس إن الاله ديونيسوس تجلى لاسخيلوس في طفولته وهو يحرس كرما وأمره أن ينظم المأساة.وصحا إسخيلوس من نومه فإذا الأبيات تسيل على لسانه دون مشقة قد تكون هذه قصة أسطورية ، بل الأرجح أنها كذلك ، ولكن لاريب في أن إسخيلوس يملك شيئا الهيا ، ومعرفة عميقة بلغز الوجود الإنساني فيه شئ من صوفية معاصرة بندار .قد يكون إسخيلوس أفشى شيئا من أسرار عبادة ديمتر ، ربة الارض والزرع في إليوسي أو لا يكون ، ولكن من المؤكد أنه قد قد افشى ماهو أخطر وأهم : لقد أفشى شيئا من الطبيعة البشرية في صلتها بالقوى العلوية ، وصراعها مع قدرا ، ومع القدر المركوز فيها : قدر البيئة والخل والموروث الاسرى .مسرح إسخيلوس أقرب شئ لدينا الى الطقس الديني أو الشعيرة التعبدية .فيه جلال أولمبي وتوفير للالهة وإدراك للوظيفة الاجتماعية للدين .لئن كان صوفكليس هو السيكولوجي العظيم ، ويوربيدس هو الواقعي العقلاني العظيم ، فقد كان إسخيلوس هو شاعر العاطفة الدينية العظيم .يزعم إسخيلوس في لحظة تواضع ، أن كل كتاباته ليست سوى فتات من مائدة هوميروس الفخيمة .لكن أنعم بها من فتات .من بين مسرحيات إسخيلوس التي يقدرها البعض بتسعين مسرحية ـ منها سبعون تراجيديا وعشرون مسرحية ساتيرية ـ لم يصلنا سوى سبع مسرحيات .أي ذخر عظيم قد ضاع ، ربما كان هذه اللحظة ثاويا تحت رمال الصحارى أو في أعماق البحار وقد تكلت أهدابه وانطمست حروفه ولم يبق منه الا ما يبقى من عطر الوردة بعد ذبولها. لكن ما بقى كاف للدلالة على التطور العظيم الذي قطعه ابن يوفوريون من بلدة اليوسيس ، هذا الذي انهزم لصوفكليس وسيمونديز مرة ولكنه فاز بقصب السبق ، وحاز القدح المعلى ، مرات . ثمة فجوة ، بل هوة ، تفصل بين ـ الفرس ـ وثلاثية ـ الاورستيا ـ الاولى لا تكاد تزيد عن مجموعة أناشيد كورالية لا يربط بينهما غير خيط قصصي رفيع ، بينما الثانية تمثل اسخيلوس وقد استحصدت قواه واستمرت على سوقها ، وتمكن من أن يجدل الحدث والشخصية والحبكة والشعر في جدلية واحدة ، متينة مكينة .هذه القدرة على التطور كما يقول ت.س إليوت من أبرز خصائص العبقرية .فليس مسرح إسخيلوس بشئ إن لم يكن توسيعا للخبرة الإنسانية ، وتعمقا مطردا في سر الوجود ، وإغارة مستمرة على مواقع جديدة من تخوم الروح .لم يعمد إيسخيلوس إلى الخطابة الفارغة او الشعارات الجوفاء أو الرغبة في إذلال الخصم . لقد كان عادلا ، وقد أقر للفرس بصفات الشجاعة والإقدام .لكن خطيئة ملكهم كانت عنده هي الكبرياء الماسوي Hubris وهي الخطيئة التي أوردت بطلا أخر عظيما ، يونانيا هذه المرة ، وهو أجاممنون موارد التهلكة ، لقد رضى أجاممنون أن يسير على البساط الأرجواني في اعتداد وزهو متعديا بذلك حقوق الآلهة ، وناسبا نصر طروادة الى ذاته دون أن يرده اليهم ، و إسخيلوس هو أيضا صاحب الثلاثية الوحيدة الكاملة التي ألت إلينا من المسرح الاغريقي : هذا وحده كاف لأن يحله مكانا فريدا في تاريخ الأدب ، وفي العقول والضمائر والقلوب . ان الأجيال المتعاقبة كلها أحسنت السمع الى أغاني الشاعر العظيم اسخيلوس وهو قد قهر الموت بالمعنى الأسمى والأعمق كأنه قد بعث من القبر ، وكان حياته هي نفسها مأساة من مأسيه ، تنتهي بالظفر والابتهاج وسيادة الخير وسطوع ما في الإنسان من قوى متألقة باقية ، وكأنما الإنسان يشارك الآلهة مصير الخلود ، أن اسخيلوس قد قطع في اللغة العربية رحلة تنوف على السبعين سنة منذ أخرج طه حسين كتابه الرائد ” صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان ” في 1920 . ترجمت مسرحياته الى العربية ، وقدمه الدارسون من أساتذة الكلاسيكيات وأساتذة الآداب الأوربية ، الحديثة تقديما جيدا يفيد من أبحاث الغربيين ويحل اسخيلوس في مكانه الصحيح من التراث اليوناني ، بهذا غدا في وسع القارئ العربي أن يكون فكرة صحيحة عن هذا الكاتب المسرحي الذي يعد ، بحق علامة فارقة بين عصرين . لكن من الملاحظ من جهة أخرى أنه لا يكاد يوجد كاتب مسرحي عربي واحد قد استوحى إسخيلوس على نحو ما استوحى ” برومثيوس مغلولا ” شلى في قصيده الدرامي ” برومثيوس طليقا ” أو على نحو ما استوحى الاورستيا يوجين أونيال في مسرحيته ” الحداد يليق بإلكترا ” لاريب في أن لتوفيق الحكيم مصادره الكلاسيكية ، كما أوضح الدكتور أحمد عثمان ، ولا ريب في أن لأسطورة أوديب تاريخا ممتدا على المسرح المصري لكن الكاتب المؤثر هنا كان صوفكليس بأكثر مما كان إسخيلوس . إن شرارة العبقرية الاسخولية التي تستطيع أن تقفز عبر خمسة وعشرين قرنا من الزمان لم تمس بعد كاتبا عربيا بجذوتها المقدسة . وهذا أمر غريب ، فإسخيلوس الذي كان مجددا من أعلى طراز خليق أن يتوسل الى عصرنا المولع بالتجريب والتجديد. لقد أكد أهمية الجوقة وأدخل ممثلا ثانيا ، بل استفاد في الأورستيا من الممثل الثالث الذي أدخله صوفوكليس وزاد من كمية الحركة والحوار ، وعنى بلباس الممثلين على طريقة الأونكوس ، كان اسخيلوس رجل مسرح فهو ممثل ومخرج ومصمم مناظر الى جانب كونه شاعرا مؤلفا . وقد أضفى ظلال الفكر والشعور ، وسجل ، الى الأبد لحظات باقية من الخبرة الانسانية(فمسرحية الكترا لا تبدأ ببداية القصة وإنما تبدأ بإعلان الكترا عزمها على الانتقام لأبيها ، ثم نسمع قصة اللعنة التي حلت بهذه الاسرة تباعا خلال المسرحية ، فتحكي الجوقة الجزء الأول من القصة لتصور شقاء أسرة بيلوس : ) أيها السباق الأليم الذي اشترك فيه بيلوبس قديما ، لقد كنت مصدر شر عظيم لهذا البلد ، فمنذ انتزع مرتيلوس عن العجلة المذهبة وقذف به في البحر حيث لقى الموت ، سلطت النوائب كلها على هذا البيت العظيم ( ثم تستكمل الكترا القصة حين كانت ترد على حجج أمها ) سلي أرتميس على من أرادت أن تنزل سخطها حين وقفت حركة الريح في أوليس ، وان شئت ، فأنا منبئتكم بذلك ، أذ ليس من الميسور أن تسمعى من فم الآلهة . حدث أن ابي حين كان يلهو في غابة مقدسة من غابات الآلهة ، طارد وعلا أرقش طويل القرنين ، ثم أصابه فقتله ، وأسكره النصر فنطق بما لا يحسن النطق به . سخطت لذلك ابنة لا تونا وحبست اليونان على الساحل حتى ضحى أبي بابنته وفلذة كبده ندما واستغفار (وتحكي الجوقة في مسرحية انتيجونا القصة من أولها ) أني لأرى منذ زمن بعيد في أسرة لبد كوس مصائب وأهوالا يتبع بعضها بعضا ، تضاف الألم الباقين الى الالم السابقين دون أن يعفى جيل منها الجيل الذي يليه ، وان الإله ليلح عليها بغضبه … ( الخ . وعلى هذا النحو تمضي بقية المسرحيات كلها . فتبدأ من منتصفها ثم تسترجع الأحداث السابقة عن طريق الرواية .وعند صوفكليس تنبسط الرؤى فيهدا العقل ، وتتمركز العاطفة فيخفق القلب ، فإذا أراد أن يغوص إلى أعماق الروح أو أن يتغلغل بين طيات النفس ثم يصعد إلى السطح حاملا ما فيها من عواطف ارتقى سلم الشعر بموسيقاه الرزينة الهادئة ، أما يوربيديس فترجع عظمته أساسا الى الطريقة التي يرسم بها – من خلال التمثيل الحي للأشخاص – حقيقة الروح وتجربتها الدينية بحيث تغدو الشخصية في ذاتها صفرا إلى جانب تمثيل روحها – وهذه ميزة يشترك فيها معه زميلاه – والشعر في يديه أداة طبيعية يضفى على تجربة الروح الدينية مزيدا من العمق وقوة التأثير . والشخصيات عند ثلاثتهم لا تمضى مستقلة تصوغ تصرفتها حسب إرادتها وتفرض رغباتها كما تزين لها حاجاتها ، وتتصدى للرغبات الأخرى وتتحدى عزائم الآخرين وإنما هي موضوع لفكرة دينية ، ووسيط للمعاناة تنعكس عليها الحقيقة الكامنة في تلك الفكرة الدينية ، كالمرايا حين توضع بزاوية خاصة أمامنا لتعكس ما هو كائن خلفنا فخفى علينا ، فميديا لا ترغب في الرحيل ، ولكنها مسوقة اليه مدفوعة بقوة علوية خاضعة لها ، وهي لا ترغب في إراقة دماء صغيريها ولكن أوزار الخطيئة الأولى – عندما قتلت أخاها- تزين لها الانتقام من زوجها بفجعه في ولديه ، ليس لها في ذلك خيار ، فالدم بالدم وليس من سبيل إلى الفكاك من العقاب ، ولو كان اوديبوس يعلم أن خصمه أبوه لما قتله ، ولو علم أن يوكاستا هي أمه لما تزوجها ، ولكن هكذا أرادت الأقدار .. وكان أورستيل يعلم أن قلوطمنسترا هي التي وهبته الحياة ومع ذلك يجد نفسه مدفوعا إلى قتلها .

وعظمة شعراء المأساة اليونانية الثلاثة ترجع إلى الطريقة التي يرسمون بها - من خلال التمثيل الحي للأشخاص - حقيقة الروح وتجربتها الدينية كما ذكرت بحيث لا تساوي الشخصية في ذاتها شيئا إلى جانب تمثيل روحها ، فليست ميديا هي تلك المرأة التي خانها زوجها ولكنها هي الغيرة التي تحرك المرأة عندما يهجرها زوجها إلى فراش أخر ، وهي القدر الذي جعل منها رغم أردتها موضوعا للغدر والخيانة ، و الكترا ليست هي تلك الفتاة سليلة اجاممنون ولكنها حب الأب والوفاء له وحب الأخ والتفاني في إنقاذه وحب الواجب وبذل النفس دونه ، وهي الرغبة في الانتقام ، وهي كل هذه المعاني المطلقة وهي أيضا القدر الذي جعل منها خصما لامها رغما عنها ، و يوربيدس ليس هو من تزوج بأمه وقتل أباه ولكنه المجهول وهو كل التعاسة التي تسوقها أرادة الالهة الى إنسان ما ، وأ ورستيس ليس هو ذلك الرجل الذي قتل أمه ولكنه أرادة الآلهة وقدر الإنسان الذي جعل ممن وهبته الحياة عدوه الأول رغم حبه لها وليس الأمر بيده . والمأساة تتمثل في القدر الذي أختار وسيطا له هذا الإنسان أو ذاك دون سواه فهل ثمة شئ يستولي على قلوب الجمهور ويعتصرها أكثر من مشاهدتهم تلك القوى الروحية وما لها من سيطرة حقيقية على الحياة وفيها ، تلك التي تعلو على أدراك التجربة الإنسانية وان كانت تنفذ من خلالها ..؟ وهل ثمة شئ بقادر أن يجسد تلك القدريات غير الشعر .. حقيقة أن الملك لير أو مكبث أو عطيل تعكس قضية الشر بشكل عام ، ومع هذا فان كلا منها تبقى مأساة خاصة ، مأساة لير أو مكبث أو عطيل ، ولكن أورستيس مثلا لا يقارن بهاملت واويديبوس أو غيره لا يقارن بأي من هؤلاء لقد أستخدم أورستيس أو اويديبوس أو الكترا أو ميديا أو أنتيجونا كرموز تؤدى غرضا أهم من ذاتها ، لكي تجمع كل شخصية في بؤرتها الحقيقية المتعالية وتعكس قدر العالم الروحي ، ومن خلالها تتمثل لنا الخطيئة المجردة والإحساس بالمأساة ، فهي ليست شخصية متفردة بقدر ما هي رمز لمفكرة مطلقة أو تجسيد لها .لاشك أنهم تميزوا عن غيرهم من كتاب المسرح الحديث بحصرهم الصراع – في أغلب الأحيان – في شخصية واحدة ، غير أنهم جعلوا من تلك الشخصية الرئيسية ، وقد جمعوا بذلك بين الإحساس بالمأساة الجماعية التي تطوى معها الجميع وبين مصالح المصير الفردي فاويديبوس هو المخلص ، وهو الأمل الذي تنعقد عليه قلوب الشعب ـ كما تمثله أفراد الجوقة ـ وحياته ووجوده ضرورة تحتمها الرغبة في الخلاص من المصائب والويلات التي يصطلى بها الشعب ، وليس ثمة إنسان بقادر على أنقاذ الناس غير منقذهم الأول . وفي نفس الوقت فان موته وفناءه ، أو شقاءه وتعاسته شرط ضروري لتطهير المدينة من وبائها ـ لأنه سبب ذلك الوباء ـ فبينما ترغب فيه الناس ترغب عنه أقدارهم ومصائرهم ، وعلى هذا فإن وجود أويديبوس كفرد لا يمكن الاستغناء عنه ما دام يتحتم التفكير وعند ما يكفر عن نفسه فإنه يكفر عن الجميع .

************************************