Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2958

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2968
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

    صيد لفوائد
    يرويها
    الدكتور مهران ماهر

    بسم الله الرحمن الرحيم (1)

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا وشفعينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
    المستمعون الكرام .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
    قبل كل شيء أقول : تقبل الله منكم الصيام والقيام، وجعلنا وإياكم من عتقاء هذا الشهر الكريم، والله نسأل أن يجعلنا فيه من الفائزين ، المرحومين، المكرمين .
    فهذه مجموعة من القصص النبوية نقف عندها ، نسرد وقائعها، ونتفيؤ ظلالها، ونستلهم عبرها، ونستخلص دروسها ومكنون فوائدها ..
    قصص رواها رسول الله  .. ليست نسج خيال ، وإنما حدَّث بها من قال عنه ربه : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
    إنّ القصص ذكرها في القرآن ربنا ، وسلّى بها رسولنا ،  .. وما ذاك إلا لعظيم أثرها في تقويم السلوك ، فتأثر الإنسان بالقدوة كبير، وهانا تكمن أهميتها . ولذا لما أراد الله منّا أن نسلك الصراط المستقيم أبان لنا أنّ جمعاً كريماً من الذين رضي عنهم سلكه، وسار عليه، ليسهل علينا ، ففي الفاتحة : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم . وحتى تسهل علينا عبادة الصيام قال : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم . وفي القصص الذي رواها رسول الله  دعوة لمكارم الأخلاق ونبيل الصفات، فغذا علم الإنسان أنّ غيره ممن سبقه طرق باب هذه الفضائل أمكن أن يتحلى بها ، وكان العزم على ذلك آكد.
    ومعنى القصة معروف ، ولذا قال في اللسان القصة معروفة. والمراد هنا : أحداث ووقائع رواها رسول الله  ، أما الأحداث التي وقعت للرسول  فهذه تُعلم بدراسة السيرة، وليس هذا بمراد هنا ..
    ولئلا يتفلت الوقت من بين أيدينا أدلف إلى المراد فأقول ..
    أقف اليوم مع أول قصة من هذه القصص.. حدَّث أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ  عن رسول الله  قال :«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا . فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً . ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا ؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ . فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ : جَاءَ تَائِبًا ، مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ . وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ : إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ . فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ ، فَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ . فَقَاسُوهُ ، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» . قَالَ قَتَادَةُ : فَقَالَ الْحَسَنُ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ .
    هذه قصة جليلة القدر امتلأت بالفوائد والعبر ..
    لقد قتل هذا الرجل تسعة وتسعين نفساً ثم حدثته نفسه بالتوبة، وهذا يدل على أنّ الإنسان مهما كان بعيداً عن الصراط المستقيم فإنّ الله إذا أراد أن يرده رده.. فلا يليق بك أيها المسلم أنْ تظن أنّ فلاناً بعيد عن رحمة الله .. واحذر أن تُنصب نفسك حكماً على عباد الله .
    ومن عجيب ما يذكر أنّ أبا سلمة لما أراد الهجرة قابله عمر  ، وكان على الإشراك، فألان له عمر في الكلام، فقال له أحدهم: أتظن أن عمر يسلم ؟ قال : والله لو أسلم حمار الخطاب لما أسلم ابن الخطاب.. فأسلم عمر بن الخطاب وصار من سادات سادات الأولياء والصالحين .
    لقد قتل هذا الرجل تسعة وتسعين نفساً .. عجيب هذا المخلوق الذي يسمى (بالإنسان) لربما قدَّم من الخير ما يُرضي عنه ربَّه.. ولربما عجِب الله من صنيعه، كما قال النبي  للأنصاري لما أطفأ السراج وتظاهر وزوجه بالأكل ولم يأكلا؛ ليشبع ضيفهما، فقال له النبي  :«لقد عجب ربكما من صنيكما بضيفكما البارحة» . ولربما ركب ثبج المعاصي وفعل أفعالاً لا يمكن تصورها بيسر من الشر والفساد والإفساد والانحلال . ولذا اجعل من في دعائك قول نبيك :«أعوذ بالله من شر نفسي» .
    دُلَّ هذا الرجل على راهب فسأله .. فأفتى الراهب بغير علم فكان نصيبه منه القتل.. وهذا من شؤم القول على الله بغير علم .. والواجب على الإنسان أن لا يفتي إلا بعلم، وإذا سئل ولم يكن بالجواب عالماً فلا عيب أن يقول : الله أعلم، أو يرشد إلى غيره، أو يطلب وقتاً يبحث فيه المسألة، والإمام مالك رحمه الله ورضي عنه كان كثيراً ما يقول الله أعلم.. فما هو العيب في ذلك؟ العيب أن يتكلم الإنسان بدون علم فيقتحمَ بذلك نار جهنم والعياذ بالله . وقد كان النبي  يُسأل أحياناً فلا يرجع بجواب حتى ينزل القرآن عليه . إنّ أحداث هذه القصة شاهدة بخطورة الفتوى بدون علم، فالمفتي بدون علم قد يخرب بيتاً، ويدمر أسرةً، ويعين على باطل، ويحمل على كفر .. قد تضمنت أحداث هذه القصة صورتين للفتيا بدون علم .. الأولى لما سأل عن أهل الأرض فدُلّ على راهب ، والثانية : لما أفتى الراهب بعدم قبول التوبة .
    إنّ من الخطأ الذي ارتكبه من دلّ هذا الرجل على الراهب أنهم لم يفرقوا بين العالم والعابد .. وهذا خطأ يتلبس به كثير من الناس في هذا الزمان، إذا رأى الواحدُ منهم رجلاً صالحاً يواظب على صلاة الجماعة، ويكثر من ذكر الله، وتبدو عليه أمارات الصلاح ظنه عالماً فسأله عن عباداته ومعاملاته .. ينبغي أن نفرق أيها الأحبة .. أنْ نفرق بين العابد والعالم، بين الخطيب والمفتي ، فليس كل عابد عالماً ، وليس كل خطيب يصلح لأن يتكلم في الفتيا وقضايا الأمة .
    إنّ هذه القصة التي حدث بها حبيبنا  لتبينُ البون الشاسع والفرق الكبير بين العالم والعابد.. أوما قال رسول الله  :«فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» .
    لكن لو نظرنا نظرةً إيجابية لرد الراهب : ليس لك توبة . فهذا يدل على مسألة مهمة . وهي أنّ الإنسان كلما أكثر من عبادة الله ازداد تعظيماً لله .. فهذا الراهب ما قال ذلك إلا لتعظيمه لله ، وكثرةُ عبادته هي التي زادت من تعظيمه لربه . كون الراهب قال : لا توبة لك، هذا خطأ. لكن تأمل في سبب هذا الخطأ.. سببه شدة تعظيمه لله، وإنما أورثه ذلك كثرة عبادته. مع تأكيدنا على خطئه .
    ولذلك أيها الإخوة قد نجد كثيراً من الشباب تصعب عليهم التوبة من بعض الذنوب .. كأن يكون الواحد منهم على علاقة عاطفية آثمة بالفتيات ، فتجده منزعجاً لهذه المعصية ولكنه لا يقدر على مفارقة سبيلها .. أتدري ما هي النصيحة التي ينبغي أن تقدم لمثل هؤلاء الشباب ؟ إنهم على خير عظيم.. ولولا ذلك لما لامتهم أنفسهم وأنبهم ضميرهم.. فهذا يدل على خير عظيم بنفوسهم .. ولكن النصيحة التي ينبغي أن توجه إليهم أن يجتهدوا في الطاعة، كلما أوغلوا في طريقها سهل عليهم أن يتخلصوا من هذه الآثام .
    إنّ هذا الرجل أراد الله به خيراً .. انظروا كيف أنه ما زال يحدث نفسه بالتوبة حتى بعدما قتل الراهب وأكمل به المائة .. سبحان الله، إن هذا مما يؤكد قول الله تعالى : وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس :107] .
    وفي وقوله  :«فدل على راهب» قد يُستفاد منه –كما أشار ابن حجر رحمه الله – أنّ هذه القصة وقعت بعد رفع عيسى عليه السلام، فالرهبانية إنما ابتدعها أصحابه ، كما في سورة الحديد :  وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا .
    وأشار ابن حجر أيضاً إلى قلة فطنة الراهب، لأنه علم أنّ القتل عند ذاك الرجل كشرب الماء، فكان عليه أن يحتاط لنفسه؛ لئلا يصاب بسوء .. ولكني أعود لأقول ثانية: وهو كذلك، ولكنها كما دلت على ذلك دلت أيضاً على أنّ كثرة العبادة تورث شجاعة بحيث لا يخشى الإنسان إلا من الله تعالى.
    إنّ العلماء هم أرحم الناس بالخلق ، وأفضل العلماء من عرّف الناس بربهم، تأمل هذه العبارة التي نطق العالم بها يحفها النور وتكتنفها الرحمة من كل أنحائها :(ومن يحول بينك وبين التوبة) .
    فلان له توبة أو ليس له توبة هذا لا يحدده شخص ، تُقبل منه أو لا تقبل .. هذا أمره لله تعالى ..
    ماذا بقي في القصة من الفوائد؟ بقي كل شيء، وأعظم شيء ..
    بقي أن نشير إلى عظيم رحمة ربنا بنا ..
    لقد فتح الله باب التوبة للكافرين فقال: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ . فتحه لفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى، قال الله لموسى وأخيه عليهما السلام : فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. فتحه لمن قال اتخذ الله ولداً، مع أنه حدثنا عن خطورة هذه الكلمة بقوله : وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا  . مع كل ذلك دعاهم إلى التوبة فقال :  لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . فتحها لمعذبي أوليائه الذين خددوا الأخاديد وأضرموا النار فيها وقذفوا إليها بعباد الله الموحدين فقال : إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ . دعا إليها المنافقين بقوله : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . ندب إليه كل مسرف بعيد عنه فقال : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا .
    المستمع الكريم: سوف لن تتمكن من الاستمرار على طريق التوبة إلا بعد أن تتخلص من كل شيء يذكرك بالذنب الذي عزمت على التوبة منه.. ولذا أرشد العالم ذاك الرجل إلى أن يبرح الأرض التي كان بها إلى أرض أخرى، وهذا يدل على تأثير البيئة في أهلها. ويدل على أهمية مجاورة الصالحين ، وعلى عظيم رحمة ذاك العالم الذي لم يكتف فقط بالإرشاد إلى أنّ باب التوبة مفتوح .. ولكن أرشد إلى ما من شأنه أن يعين عليها .
    ولذا نجد بعض شبابنا يفارق الذنب ثم يعود إليه لأنه لم يتخلص من كل ما يتعلق به.. فالشاب الذي يريد بحق أن يقطع علاقته الآثمة مع فلانة هذه ينبغي أن يتخلص من صورها .. من كل مادة صوتية لها .. من كل رسائلها في جواله وفي بريده الإلكتروني .. أن ينأى بنفسه عنها . فإذا فعل ذلك سهلت التوبة عليه .
    إنّ مما يعين على الاستمرار على طريق التوبة أن تفارق أصدقاء السوء .. وأن تتخذ لنفسك بطانة خير يذكرونك بالله إذا نسيت، ويعينونك على طاعته إذا ذكرت .
    أسأل الله أن يتوب علينا، وأن يغفر ذنبنا ، وييسر أمرنا، ويتقبل صيامنا وقيامنا .
    وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نبيك محمد  نبيِّ الرحمة وعلى آله وصحبه أجمعين .
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

    صيد لفوائد

    بسم الله الرحمن الرحيم (2)
    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا وشفعينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
    المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
    والله أسأل أن يعيننا على الصيام والقيام تلاوة القرآن .. وأن يتقبل من الجميع طاعتهم.
    هذه هي الحلقة الثانية من برنامجكم (قصص رواها رسول الله  ) ..
    الموعد اليوم مع قصة خرّجها البخاري ومسلمٌ في صحيحهما .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  قَالَ :«غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ ، يَلْهَثُ ، وفي رواية (قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ) ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا ، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا ، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنْ الْمَاءِ ، فسقته ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ» .
    أولاً : أقف مع شرح المفردات والغريب :
    قال  :« غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ» : يعني زانية .
    «على رأس ركي» : بئر .
    يلهث : تفسرها الرواية الأخرى : (قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ).
    هذه القصة اشتملت على كثير من الفوائد والدروس :
    هذه المرأة كانت من البغايا، من الفاجرات، ولكن لما رأت ذاك الكلب امتلأ قلبها بالرحمة ورقت لحاله .. ألا يدل ذلك أيها المستمع الكريم على أن الإنسان مهما ابتعد عن الله فإن الواجب أن لا نيأس منه. وقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في القصة السابقة، قصةِ قاتل المائة .
    نجد أيضاً أنّ هذه المرأة لما رحمت الكلب رحمها الله .. ففيها معنى قول النبي  :« الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . وقال أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ  إِلَيْهِ : إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا . فلما ذهب إليها َرُفِعَ إليه الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ  ، فَقَالَ سَعْد بن عبادة : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ .
    والعكس بالعكس، فالجزاء من جنس العمل، من علت القسوة قلبه، وفارقت الرحمة فؤاده فهذا لا يرحمه الله ، فإن النبي  قبل بحضرة رجل الحسن  ، فقال له الرجل : إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ  ثُمَّ قَالَ :«مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» .
    من الفوائد أنه ينبغي عليك أن لا تحقرن من المعروف شيئاً ، وقد ندبنا نبينا  غلى ذلك ، لأن الإنسان لا يدري أيُّ عمله سينفعه . أكثر من الخير ما استطعت غلى ذلك سيبلاً، ولا تحقرن من المعروف شيئاً . فهذه بغي غُفر لها بسقيا كلب .
    تعلمنا هذه القصة أنّ في كل كبد رطبة أجر .. وقد حدَّث رسول الله  بقصة مشابهة ، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ :«بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْرًا ، فَنَزَلَ فِيهَا ، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ . فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ . فَقَالَ الرَّجُلُ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي . فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَا خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ». قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّه ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا ؟ فَقَالَ :«فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ » .
    فأين الذين يشوشون على الناس ويشغبون عليهم بدعوى أنّ الإسلام انتهك حقوق الإنسان .. أين هم من مثل هذه النصوص التي دعت إلى القيام بحق الحيوان .. فضلاً عن حق الإنسان . واسمع هذه الحادثة التي أخبر بها ابن مسعود  ، قال : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً – طائر كالعصفور - مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ ( ) . فَجَاءَ النَّبِيُّ  فَقَالَ:«مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا».
    وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ :«مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ»؟ قُلْنَا :نَحْنُ. قَالَ :«إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ». فأي رحمة هذه التي رسم الإسلام معالمها ودعا إليها . لقد نَهَى  أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ . لقد بيّن لنا نبينا  أنّ النار اقتحمتها امرأة في هرة، قَالَ  :«دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا» .
    الإخوة والأخوات : إن الممارسات الخاطئة التي ترتكب باسم الإسلام من أُناس يزعمون أنهم دعاة إليه لا ينبغي أن تُحسب من الإسلام ، ينبغي أن يفهم الناس ذلك .. الواجب علينا إيصال مثل هذه النصوص التي تجلي لنا عظمة دين الإسلام لكل من وقف في جانبِ عداوة له ولأهله .
    وإذا كانت هذه القصة تدل على أنّ الإنسان مأجور بإطعام الحيوان فما ظنك بإطعام الإنسان .. لا شك أن هذا من أعظم القربات ، قال تعالى : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وقال نبينا  :« إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا ، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا » . فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :« لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَام» . ولما سأل رجلٌ رسول الله  : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ ؟ قال :« تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» . وقال :« خياركم من أطعم الطعام » ، وقال له آخر : دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال له :« أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ الْجَائِعَ وَاسْقِ الظَّمْآنَ» . وسقيا الماء إطعام للطعام لقول الله تعالى : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي .
    فينبغي أن نجد في هذه الفضيلة .. فضيلةِ إطعام الطعام ، لا سيما في هذا الشهر المبارك ، فقد قال نبينا  :« من فطّر صائما فله مثل أجره » .
    فغذا جمعت أيها المستمع الكريم بين الصوم وإطعام الطعام في يوم فاحرص على عملين آخرين ..
    ما هما ؟ تشيع جنازة، وعيادة مريض . لماذا؟ لأن هذه الأربعة إذا اجتمعت في شخص في يوم دخل الجنة . قال رسول الله  يوماً لأصحابه : « من أصبح منكم اليوم صائماً» ؟ فقال أبو بكر  أنا . فقال :« من أطعم منكم اليوم مسكينا» ؟ فقال أبو بكر : أنا . قال من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا . فقال من عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر : أنا . – لا إله إلا الله - فقال رسول الله  :« ما اجتمعت هذه الخصال قط في رجل في يوم إلا دخل الجنة» [أخرجه ابن خزيمة في صحيحه] .
    فرضي الله عن أبي بكر ، فقد كانت هذه الأسئلة من رسول الله  بعد صلاة الفجر .. فماذا كان عمله في سائر يومه؟ وما حاله في باقي عمره ؟
    من فوائد هذه القصة أنّ الإنسان قريب من الجنة، وقريب من النار كذلك ، جنة الله قد يدخلها المرء بكلمة واحدة ، والنار كذلك .. قال  :« الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» . ولقد قال ابن حجر رحمه الله كلمةً في شرح هذا الحديث تُكتب بماء الذهب ، قال :" فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَزْهَدَ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَأْتِيَهُ ، وَلَا فِي قَلِيلٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَجْتَنِبَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْحَسَنَةَ الَّتِي يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا ، وَلَا السَّيِّئَةَ الَّتِي يَسْخَطُ عَلَيْهِ بِهَا".
    إنّ أحداث هذه القصة لتفصح عن عظيم رحمة ربنا بنا ، يسهل لنا طريق الخير ، ويرضى بذلك عنّا ، فما أكرمه من رب، وما أرحمه من إله . هو الذي قدَّر لهذه المرأة أن تشرب من هذا البئر ، وأن تجد فيه الكلب ، وأن تفعل هذا الفعل الذي كان سبباً في نيلها مغفرة ربها سبحانه .
    المستمعون الأكارم :
    إنّ رحمة الله قريب من عباده .. إنّ ربنا لغفور شكور .. المستمع الكريم .. إننا في شهر كريم .. شهر التوبة والمغفرة .. وقد دعا جبريل عليه السلام على من أدرك رمضان ولم يُغفر له وأمّن نبينا  على دعائه . فقال:«رغم أنف امرء أدرك رمضان فلم يغفر له فقال النبي  آمين» ومثل هذا الدعاء لا يمكن أن يخيب. ونحن نعلم أنّ ربنا يفرح بتوبة عباده .. فآمُل منك أيها الحبيب في الله أن تعاهد نفسك الآن وأنت في هذه الساعة المباركة أن تعاهد نفسك بالتوبة ، وأن تفتح مع الله صفحة جديدة في هذا الشهر مع ربك سبحانه .. كم ستر علينا من عيب.. ذنوبنا إليه صاعدة وفضله علينا نازل.. فبالله عليك أخي وأختي بادروا الآن بقطع هذا العهد مع النفس .. ولنبدأ حياةً جديدةً أساسها طاعة الله ورسوله  . اكتب قائمة بجميع ذنوبك، وقيد أسبابها. وضع لنفسك برنامجاً عملياً للتخلص منها ، وإن كنت صادقاً فإن الله سيصدقك؛ هذا هو السبيل الذي سيثبتك الله به في طريق التوبة أن تكون صادقاً مع الله ، ثبت في سنن النسائي أنّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ  فَآمَنَ بِهِ ، وَاتَّبَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أُهَاجِرُ مَعَكَ . فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ  بَعْضَ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ  سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ -وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ - فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ  . فَأَخَذَهُ ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ  ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : قَسَمْتُهُ لَكَ . قَالَ : مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - بِسَهْمٍ ، فَأَمُوتَ ، فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ . فَقَالَ :«إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ». فَلَبِثُوا قَلِيلًا ، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ  يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ  :«أَهُوَ هُوَ»؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ :«صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ» .
    جعلنا الله من خير عباده التائبين الصادقين ..
    أكتفي بهذا ، وأصلي واسلم على خير خلق الله ، محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
    أستودعكم الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم (3)
    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا وعظيمنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
    المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
    هذه هي الحلقة الثالثة من برنامج (قصص رواها رسول الله  ) .. وأقول من برنامج قصصٌ هكذا بالرفع على الحكاية.
    قصة اليوم أخرجها الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة  ، عن رَسُولِ اللَّهِ  قَالَ :«كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» .
    هذه رواية الصحيحين . رواية النسائي رحمه الله ، قال رسول الله  :«إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ : خُذْ مَا تَيَسَّرَ ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ ، وَتَجَاوَزْ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ : هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ قَالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ ، وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ : خُذْ مَا تَيَسَّرَ ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ ، وَتَجَاوَزْ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : نحن أحقُّ بذلك، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ».
    لقد جمع هذا الرجل بين عملين فاضلين كريمين يدلان على نبله وكرمه ، ومعهما نقف، وعليهما تقوم الحلقة هذه إن شاء الله ..
    أما العمل الأول : العفو والتجاوز . فما هو المراد بالتجاوز هنا ؟ يجيبك ابن حجر العلامة الحبر البحر ، قال رحمه الله :" يَدْخُل فِي لَفْظ التَّجَاوُز : الْإِنْظَار ، وَالْوَضِيعَة ، وَحُسْنُ التَّقَاضِي ".
    ذكر ثلاثة أمور :
    الإنظار : بأن يحل الأجل والمدين ليس له شيء فتنظره . وقد قال تعالى : ومن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة .
    الثاني : الوضيعة وهي على قسمين : أن تضع عنه الدين كله . أو أن تضع جزءً منه .
    الثالث : حسن التقاضي . وقد قال النبي  :«رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وإذا قضى ، وَإِذَا اقْتَضَى» . إذا قضى وأعطى الدين أحسن ولم يماطل، فإذا وفّى وفى بيسر وسهولة . وإذا اقتضى : أي : إِذَا طَلَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ لَا بِالْخَرْقِ وَالْعُنْفِ .
    ومما قاله النبي  في فضل السماحة في الاقتضاء :« مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» [أخرجه مسلم] . أنظر : أمهل . وضع عنه : حطّ الدينَ كلَّه أو بعضه . من فعل ذلك كان تحت ظل الله في يوم تدنو فيه الشمس من الخلائق مقدار ميل .
    وقال  :« من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة وأن يظله تحت عرشه فَلْيَنْظُرْ مُعْسِرًا» .
    وفي المسند للإمام أحمد قال  :« مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» . قال بريدة : ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ :«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ». قُلْتُ : سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ :«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ :«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»؟ فقَالَ لَهُ :«بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» .
    العمل الثاني الذي فاز به هذا الرجل أنّه وقف بجانب المحتاجين ، والتفريج عنهم ، وهذا عمل ندب إليه النبي  في كثير من الأحاديث .
    فما أحوجَنا للتعرف على مثل هذه النصوص، ولأجلها اخترت الكلام عن هذه القصة .. وهذه بعض النصوص التي تؤكد على هذا الواجب :
    لقد ضرب لنا –نحن المسلمين – رسول الله  مثلاً .. ، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله  : «مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى» [متفق عليه]. وفي الصحيحين قال  :«المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً» وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ. فأين نحن من هذه الدرجة التي أراد نبينا  أن نقف عليها؟ أين نحن من هذا الطريق الذي رسمه لنا رسولنا ؟
    ومما ذكروه عن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أنّ أمّه وجدته يوماً مهموماً مغموماً فقالت له : هل أصيب مسلمٌ بسوء ؟ فرحمه الله رحمة واسعة .
    لا يخفى عليك أيها المستمع الكريم أنّ يوم القيامة يوم عصيب، يوم اكتظ بالأهوال والصعاب ، يكفي نعت ربنا له بقوله : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ، وبقوله : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ . أندري ما هو السبيل للأمن من هذه الأهوال وللخلاص مما يكون فيه من كرب وشدة .. ويبين لنا ذلك نبينا  بقوله في الصحيحين :«وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
    كثير من الناس يفرح في هذه الدنيا لأنه يعرف الوزير فلان.. أو لأنّ له خطاً ساخناً مع الوالي فلان.. إذا أراد أن يعين ابنه أو أخته أو بنت ابن عمه ما عليه إلا أن يحمل خطاباً من ذاك المسؤول فيُلبى طلبه وتُحقق رغبته .. لكن ماذا لو حظيت بنيل عون الله .. إذا فرح العبيد بعون العبيد ألا تفرح بعون العزيز المجيد ؟ .. كيف السبيل لذلك.. يجيب نبيك  :« وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» [مسلم]. فكن في عون أخوانك في مصائبهم يكن الله لك في أمورك كلها . وعند الطبراني :«لا يزال الله في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه» .
    يا من أنعم الله عليه بالصحة والعافية والزوجة والأولاد والمسكن .. إني سآئلك سؤالاً : هل تحب أن يُبقيَ الله هذه النعم.. هل تحب أن تُمتَّع بها عمرك .. الإجابة بلا ريب : نعم . أتدري كيف يكون ذلك .. اسمع هذا الحديث .. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  :«إن لله عند أقوام نعماً ، أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين ، ما لم يملوهم ، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم» [أخرجه الطبراني]، وفي رواية له : «إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم».
    إنّ السعي لقضاء حوائج المسلمين والوقوف معهم أفضل من الاعتكاف في مسجد النبي  .. لست من قضى بذلك، وإنما قضى به من لا ينطق عن الهوى إذ قال : «ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهراً ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضى ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام» [ابن أبي الدنيا] .
    ومما يُستفاد من هذه القصة النبوية :
    مشروعية الدَّين ، وقد استدان رسول الله  ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يخالفه . وقد استدان رسول الله  .. ففي سنن ابن ماجةَ أنّ أعرابياً جاء إِلَى النَّبِيِّ  يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ : أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي . فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ ، وَقَالُوا : وَيْحَكَ ، تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ ؟ قَالَ : إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي . فَقَالَ النَّبِيُّ  :«هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ» . ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا :«إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ» . فَقَالَتْ : نَعَمْ ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَأَقْرَضَتْهُ ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ ، فَقَالَ : أَوْفَيْتَ ، أَوْفَى اللَّهُ لَكَ . فَقَالَ  :«أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» . الأمة التي يأخذ الضعيف حقه فيها بعناء ومشقة دعا عليها النبي  ، فكيف بالأمة والدولة التي تضيع فيها الحقوق . والله المستعان.
    من فوائد القصة أنك كما تدين تدان .. ومن زرع العنب جنى مثله، وليس بالشوك يُجنى العنب .. تجاوز ليتجاوز الله عنك .. اعف يعف الله عنك . إنّ أبا بكر الصديق  لما أقسم أنه لن ينفق على مسطح ابن خالته ؛ لأنه ممن تكلم في الإفك ماذا قال الله له ؟ قال : وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ .
    والتجاوز التسامح في التقاضي وقبول ما فيه نقص يسير (لعل الله) أي عسى الله (أن يتجاوز عنا) قال الطيبي : أراد القائل نفسه لكن جمع الضمير إرادة أن يتجاوز عمن فعل هذا الفعل ليدخل فيه دخولا أوليا ولهذا ندب للداعي أن يعم في الدعاء (فلقي الله) أي رحمته في القبر أو القيامة (فتجاوز عنه) أي غفر له ذنوبه ولم يؤاخذه بها لحسن ظنه ورجائه أنه يعفو عنه مع إفلاسه من الطاعات وأفاد بفضل إنظار المعسر والوضع عنه ولو لما قل وأنه مكفر وفضل المسامحة في الاقتضاء وعدم احتقار فعل الخير وإن قل فلعلها تكون سببا للرحمة والمغفرة.
    تعلمنا القصة أنّ من أحسن الظن بربه كان الله عند حسن ظنه ، لقد قال الدائن :¬« لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا» ، فتجاوز عنه . وقد قال الله تعالى :" أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ" [حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد] .
    تعلمنا أحداثها أنّ من رام شيئاً فعليه أن يسلك سبيله، لقد أراد هذا الدائن عفو الله فسلك سبيله بأن عفا وتجاوز عن الناس .. وهكذا من أراد فضلَ الله فليسلك سبيله، ولا يكنْ كمن قيل فيه :
    ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس .
    وفيها جواز الوكالة . وهذه تُستفاد من نصوص كثيرة .
    بقيت مسألة أخيرة ، وهي أنّ هذه النصوص التي جاءت فيها عبارة (لم يعمل خيراً قط) تكلم العلماء عنها ووجهوها . فإن النصوص دالة على أنّ الإيمان لا يكون مقبولاً بدون عمل . فالإيمان الذي ينفع صاحبه في الآخرة لابد أن يجتمع فيه ثلاثة أمور :
    الأول : قول اللسان . الثاني : اعتقاد القلب . الثالث : العمل . فلابد من العمل، والعمل من الإيمان. لا نقول : شرط في الإيمان ، بل نقول : العمل من الإيمان . ولذا قال الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم  أي : صلاتكم .
    أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا ، وأن يتقبل من الجميع طاعتهم .
    بارك الله فيكم ، وأحسن إليكم ، وأترككم في حفظ الله ورعايته.
    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
    والسلام عليكم رحمة الله .


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم (4)
    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
    المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
    هذه هي الحلقة الرابعة من برنامج (قصص رواها رسول الله  ) ..
    الموعد اليوم مع قصة خرَّجها الإمام مسلم في صحيحه، في باب فضل الحب في الله .. ساق الإمام مسلم إسناده إلى أَبِي هُرَيْرَةَ  ، عَنْ النَّبِيِّ  :«أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ ؟ قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لَا ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» .
    أجمل بها من قصة ! وأعظم بها من بشارة !!
    وقبل أن أتكلمَ عنها ، وأجُولَ في ميدان دروسها وعبرها لابد أولاً من وقفة لشرح الغريب ..
    أرصده : أَقْعَدَهُ يَرْقُبهُ .
    الْمَدْرَجَة : الطَّرِيق ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاس يَدْرُجُونَ عَلَيْهَا ، أَيْ يَمْضُونَ وَيَمْشُونَ .
    هل لَك عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَة تَرُبُّهَا: أي : تَحْفَظُها ، وتُراعيها ، وتُرَبِّيها ، كما يُرَبِّي الرجل ولده والفارس فَلُوَّهُ.
    هذه القصة العظيمة فيها أنّ رجلاً لما زار أخاه بسبب أنه يحبه في الله أرسل إليه ملكاً ليخبره بأن الله يحبه كما أحبّ أخاه فيه.
    وهي مشتملة على فوائدَ عديدةٍ ، ودروسٍ كثيرة ، وعبرٍ غزيرة .
    تعلمنا هذه القصة فضل الزيارة ..
    والزيارة في الإسلام لها أنواع عديدة ليس هذا محل ذكرها .. هناك زيارة الله ، وزيارة رسول الله ، وزيارة بيت الله ، وزيارة المشاعر المقدسة ، وزيارة الرحم ، وزيارة القبور ، وزيارة المريض، وزيارة الجيران ، وزيارة الكافر .. ولكنَّ القصةَ دلت على فضلِ زيارة الإخوان ..
    ألا يكفي -أيها الأحبة في الله - أنّ النبي  جعل زيارتك لأخيك في الله من موجبات الجنة ؟ قال عليه الصلاة والسلام :« ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة ؟ النبي في الجنة ، والصديق في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله عز وجل» [أخرجه الطبراني في معاجمه الثلاثة] .
    وثبت عند الترمذي وابن ماجة أنّ نبينا  قال :« مَنْ عَادَ مَرِيضًا ، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ ، نَادَاهُ مُنَادٍ : أَنْ طِبْتَ ، وَطَابَ مَمْشَاكَ ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» . يقول له ملك - أمره الله بذلك – طبت : أي طاب عيشك في الدنيا والآخرة، وطاب ممشاك لأن الله يحب هذا السعي منك . وتبوأت : تهيأت لدخول الجنة .
    إنّ الرجل إذا زار أخاه قال الله : " عبدي زار فيَّ ، وعلي قِراه". قال  :«فلم يرض له بثواب دون الجنة»[خرّجه أبو يعلى بإسناد جيد] .
    وعلى الزائر أن يلتزم بآداب الزيارة : كالاستئذان ، وعدمِ الإثقال ، وغض البصر، وأن ينزه مجلسه عن الغيبة والنميمة ، فهي زيارة في الله لا ينبغي أن يكون فيها شيء يغضب الله .
    زيارة الإخوان في الله من جواهر عبادة الله ، وفيها القربة الكريمة إلى الله ، مع ما فيها من ضروب الفوائد وصلاح القلوب .
    لقد ندب النبي  إلى القيام بهذه الزيارات ، وقام  بذلك بين أصحابه ، ففي المعجم الكبير للإمام الطبراني عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ  قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يَقُولُ لأَصْحَابِهِ : «اذْهَبُوا بنا إِلَى بني وَاقِفٍ ، نَزُورُ الْبَصِيرَ» ، قَالَ سُفْيَانُ : بنو واقف : حَيٌّ مِنَ الأَنْصَارِ ، وَكَانَ الْبَصِيرُ ضَرِيرَ الْبَصَرِ.
    تعلَّمْنا من هذه القصة التي حدث بها رسولنا  فضلَ الحب في الله . فذاك الرجل الحاملُ له على هذه الزيارة : الحب في الله .
    واسمع هذه القصة التي ازدان بها موطأ إمامنا ، الإمامِ مالكٍ رحمه الله ورضي عنه ..
    عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ رحمه الله قَالَ : دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ ، فَإِذَا فَتًى شَابٌّ بَرَّاقُ الثَّنَايَا ، وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ ، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ قَوْلِهِ ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ ، فَقِيلَ : هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ . فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ ، وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي ، قَالَ : فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قُلْتُ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ . فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ . فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ . فَقَالَ : أَاللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : أَاللَّهِ . قَالَ : فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ : أَبْشِرْ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ :«قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» .
    فبالحب في الله ، وبالزيارة ينال المرء منّا محبة الله ، وإذا أحب الله عبداً كان سمعه فلا يسمع حراماً .. كان بصره فلا تقعُ دائرة بصره على حرامٍ ، كان رجله فلا يمشي إلى حرام ، وإذا سأل الله استجاب دعاءه .
    إنّ الحبّ في الله شجرة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، لا تنبت إلا في القلوب الطاهرة ، مادة بقائها : إحسان الظن ، وورقها : الزيارة وحسن المعاملة ، وثمرتها : الجنة .
    أتريد - أخي في الله – أن تنال أعلى الدرجات في الإيمان ، أتريد أن يتذوق قلبك حلاوة الإيمان ؟ أتعرف سبيل ذلك ؟ إن لذلك سبيلاً ، وسبيله الحب في الله ، لقول رسول الله ،  :« ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» [خرّجاه في الصحيحين] .
    إنّ الله ينادي يوم القيامة : (أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) [أخرجه مسلم] . ولما عدّد رسول الله  الخصال الموجبة للظلال بقوله :«سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » ذكر منهم رجلين تحابا في الله ، اجتمعا عليه ، وتفرقا عليه .
    فاملأ قلبك أيها المسلم بحب إخوانك ، واطرد عنه آثار الشيطان من البغض والحقد والكراهة والغل، فتلك رذائل وقاذورات لا ينبغي أن يكون قلب المؤمن محطاً لها .. املأ قلبك بحبهم لقول حبيبك  في معجم الطبراني الصغير :« ما تحاب رجلان في الله ، إلا كان أحبُّهما إلى الله عز وجل أشدَّهما حباً لصاحبه» .
    وقبل أن ابرح هذه النقطة إلى غيرها أذكر هذا الحديث عن رسول الله  .. يقول صلوات الله وسلامه عليه :«إن من العباد عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء» . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال :«هم قوم تحابوا بروح الله ، على غير أموال ، ولا أنساب ، وجوههم نور ، على منابر من نور ، لا يخافون إن خاف الناس ، ولا يحزنون إن حزن الناس ، ثم تلا هذه الآية :ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

    ونستفيد من هذه القصة فائدتين من الفوائد العقدية :
    الأولى : أنّ الملائكة يتشكلون ، وقد جاء في حديث جبريل الطويل ، أنه جاءهم في صورة بشر ، وقال الله عنه في سورة مريم : فتمثل لها بشراً سوياً  .
    الثانية : إثبات صفة المحبة ، وأن الله يُحب من شاء من عباده ، يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، والمتقين ، والمحسنين ، والمتزاورين ، والمتحابين فيه .
    فهذه الصفة وغيرها نثبتها بلا تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تفريض للمعني ، نثبتها ونثبت معناها ، وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين ، ولكنْ نفوض كيفيتها لا معناها . إذ اليف بالنسبة إلينا غير معلوم كما قرره إمامنا الإمام مالك رحمه الله .
    وفي القصة إثبات الأخوة بين المؤمنين ، قال :«زار أخاً له في الله» . ولقد اهتم النبي  بإرساء قواعدها وبذر حبها مذ أن وطأت قدماه المدينة صلوات ربي وتسليماته عليه .
    فالواجب مراعاة حقوقها ، وآدابها التي بينها رسولنا  . ولقد امتنّ بها الله على عباده بقوله : وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، ولقد كان اسلافنا رحمهم الله يعطمون من شأنها ..
    يقول محمد بن المنكدر - كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية - لما سئل : ما بقي من لذةٍ في هذه الحياة ؟ قال:"التقاء الإخوان ، وإدخال السرور عليهم"، وقال الحسن: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا".
    وقبل كلمة الختام ..
    اعلم رعاك الله أنه لا سبيل للإبقاء على هذه الأخوة ، ولا سبيل إلى أن تبقى شجرة الحب في الله خضراء يانعة تسر الناظرين إلا بالعفو ، والتجاوز ، وإحسان الظن .. ولله در من قال :
    إذا كنت في كلِّ الأمور معاتبــاً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
    من ذا الذي تُرضى سجاياه كلُّها كفى بالمرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه
    إذا أنت لم تشرب مراراً على القَذَى ظَمِئْتَ وأي الناس تصفو مشاربه

    أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا ، وأن يتقبل من الجميع طاعتهم .
    بارك الله فيكم ، وأحسن إليكم ، وأترككم في حفظ الله ورعايته.
    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم (5)
    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
    المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
    هذه هي الحلقة الخامسة من برنامج (قصص رواها رسول الله ) ..
    أخرج الشيخان في صحيحهما ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، قَالَ : قال رسول الله  :« لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَوْلُهُ :إِنِّي سَقِيمٌ ، وَقَوْلُهُ :بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا . وبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ الْجَبَابِرَةِ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ : أُخْتِي . فَأَتَى سَارَةَ قَالَ : يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي ، فَلَا تُكَذِّبِينِي . فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ ، فقالت : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. فأُخذَ ، فَقَالَ : ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ . فَدَعَتْ اللَّهَ فَأُطْلِقَ . ثُمَّ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ الثَّانِيَةَ فدعت : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ ؛ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ . فَقَالَ : ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ . فَدَعَتْ ، فَأُطْلِقَ . فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ : إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ . فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ : مَهْيَاً؟ قَالَتْ : رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ.
    هذه قصة جليلة القدر عظيمة الشأن ..
    الجبار هو : سِنَان بْن عِلْوَان ، كان على مصر ، وقيل : الأردن. ومهياً : ما الخبر ؟
    أخبر النبي  في بدايتها : أنّ إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث مرات ثنتين منهما في ذات الله . جاء في رواية :« كلها في ذات الله» [أخرجه أبو يعلى]، وللترمذي :« مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِينِ» أي : جادل بها عن دين الله، وإنما خص النبي  اثنتين لأن الثالثة وإن كانت في ذات الله إلا أنَّ لنفسه حظاً فيها . ولكنّ الثلاث في ذات الله تعالى . الأولى : قوله : إني سقيم. أي سأسقم . كما قال تعالى : إنك ميت أي ستموت ؛ لأن الإنسان يمرض في الدنيا ويصح ، ويفرح ويحزن .. فهذه أمور لا شك أنها تجري علينا –نحن البشر- .
    وأما قوله :  فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، أي : إن كان ينطقون ففعله كبيرهم هذا ، ولكنهم لا ينطقون فكيف يفعله. وقيل أراد لهم ضرب المثل . كما قال الملكان لداود عليه السلام :إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ولم يكن أخاه وليس له نعاج ، وإنما جرى الكلام مجرى التنبيه لدواد عاى ما فعل ، والمراد ضرب المثل. قال ابن كثير رحمه الله في حديث :«كذب إبراهيم ثلاث مرات» :" ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا ، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً ، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب» " .
    هذا الجبار كان لا يتعرض إلا لذوات الأزواج ولذا لم يخبر إبراهيم عليه السلام بأنها زوجه والله أعلم.
    إن من أعظم فوائد هذه القصة الخالدة أنّ الله يدافع عن المؤمنين .. أما قال الله : إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحين ؟ أما قال الله : إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ؟

    ومما يوضح أهمية الاعتصام بالدعاء لتحقيق العفة هذه القصة ..
    استحكمت الشهوة بأحد الشباب فجاء إلى رسول  يطلب منه أن يأذن له في الزِّنا قائلاً : يا رسول الله ائذن لي في الزِّنا . فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه ! فقال  :((ادن)) ، فدنا منه قريباً ، قال : ((أتحبه لأمك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)) . قال :((أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)) . قال: ((أفتحبه لأختك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)) . قال :((أفتحبه لعمتك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)) . قال : ((أفتحبه لخالتك ؟)) . قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال : فوضع يده عليه وقال : ((اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه)). فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء "
    والشاهد دعا له النبي  فتحققت العفة . كما اعتصمت بالدعاء سارة فتحقق مرادها .
    ولذا كان نبينا  يدعو ويقول :« اللهم إني أسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف ، والغنى» ، ولما قال ابن حُمَيد للنبي  علمني دعاءً ، قال له : «قل : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي ، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي ، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي ، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي ، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي»[أخرجه أبو داود] .
    والمعنى كما قال في عون المعبود :" وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ ماؤه عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ فِي الزِّنَا أَوْ مُقَدَّمَاتِهِ ، يَعْنِي مِنْ شَرّ فَرْجِهِ".
    إن من فوائد هذه القصة أنّ إبراهيم لما أُخذت زوجته ، وحلّ الظلم بساحته لجأ إلى ربه بالصلاة ، وهذا هو هدي نبينا  ، كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ..
    ولما ظنت مريم عليها السلام أنّ جبريل بشر أراد بها سوء قالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً .. ما أحسنَ طنَّها بربها، ولذا ذكرت من أسمائه الرحمن ، وفيه من براعة الاختيار ما فيه .
    فإذا استحكمت الهموم ، وأظلمت الدنيا ، وتتابعت المصائب، وتوالت الأحزان ، وحلت الأزمات والنكبات ، فاعتصم بالله ، وأدمن طرق بابه ، وافزع إلى الله ، وأشكو إلى الله ولا تشكو الله لأحد من خلقه ، وازهد في الخلق وعظِّم الرغبة في الخالق .. فمن فعل ذلك فأيُّ مصيبة تقوى على البقاء عنده ؟
    وممن اعتصم به نبي الله يوسف عليه السلام : الدعاء ، قال تعالى :  وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ . قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره :" أي : أعوذ بالله معاذاً مما تدعينني إليه، وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه ، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه " ( ).
    ويوضح القرآن الكريم شدة تعوذه بالله من هذه الجريمة بكلمة واحدة جرت على لسان صاحبة القصة :فاستعصم .
    ولما رأى يوسف عليه السلام أنها غير مرعوية ، وهددته ، دعا مرة أخرى ، وزاد من تمسكه بحبل نجاته من كربه وعنائه ، فقال : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
    قال القرطبي رحمه الله :" وكأنه قال : اللهم اصرف عني كيدهن . فاستجاب له دعاءه ، ولطف به ، وعصمه عن الوقوع في الزِّنا "( ) .
    إنّ الأسى ليعتصر القلب وهو يطالع بعض الكتب في التفسير وهو يتحدثون عن قوله تعالى : ولقد همت به وهمّ بها  .. لقد جاؤوا بكلام لا يصلح في تقي من عامة الناس فضلاً عن نبي كريمٍ ابنِ كريم ، ابنِ كريم ابن كريم .
    لا جرم أيها المستمعون أنّ التفسير الذي لا يصح غيره هو : ولقد همت بها هما حقيقياً مؤكداً . وأما قوله : وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فتقدم خبر لولا عليها. فالمعنى : لولا أن رأى يوسف برهان ربه لهمّ بها ، ولكنه ما هم لإن العناية من ثم . من عند الله . لأنه رأى البرهان فلم يقع منه همٌّ ألبتةَ ، صلوات الله وسلامه عليه .
    إن الأنبياء خطوط حمراء .. احذر وراقب الله عند ذكرهم ، لئلا يحبِط عملك وتخسر آخرتك .
    إن من الدروس العقدية التي نستفيدها من أحداث هذه القصة أنّ من أنواع التوسل المشروع : التوسل بالعمل الصالح ، فقد قالت سارة عليها السلام : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ . فإذا أردت من ربك حاجةً فاجعل بين يديها عملاً صالحاً تسأل به ، قل : الله بقراءتي كتابك آتي نفسي تقواها .. قل : اللهم بإيماني بك أدخلني مدخلا كريماً .. وهكذا .
    لقد انتهى الكلام عن قصة سارة عليها السلام .. ولكن بقي أن أخبر بأحداث قصة جرت في هذه البلاد .. بيني وبين أهلها ثقة واحد .. إنها قصة فتاة وجدت امرأة طاعنة في السن وكانت العجوز تأتي بالفتيات إلى رجل فاجر لا يخشى الله رب العالمين ، فأخبرتها المرأة بأنه تحتاج إليها في بيتها ، فذهبت الفتاة الطاهرة معها ، فلما دخلت أدخلتها غرفة ثم خرجت لتجد الفتاة نفسها مع ذاك الفاجر ، فوالله ما زادت على أن قالت كلمةً واحدةً : أعوذ بالله منك . فتسمر الرجل مكانه ، وخرجت إلى بيتها ودمعها في خدها ، وأخبرت بالحادثة أباها ، فقال لها أبوها : والله ما خنت أحداً في عرضه ، أفيضيع الله عرضي . «احفظ الله يحفظك . احفظ الله تجده تجاهك» . ولما حدث أبو هريرة  قال : "تِلْكَ أُمّكُمْ يَا بَنِي مَاء السَّمَاء" يخاطب العرب ؛ لأن هاجر أمُّ إسماعيل . وماء السماء زمزم ، وإسماعيل عليه السلام رُبِّيَ بزمزم
    أكتفي بهذا القدر ..
    سائلاً الله أن يحفظ أعراضنا وعِرض إخواننا من كل سوء ..
    أستودعكم الله ..
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد ، وعلى آله وصحبه .
    والسلام عليكم ورحمة الله .


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية السعيد ابراهيم الفقي
    تاريخ التسجيل
    30/11/2007
    المشاركات
    8,653
    معدل تقييم المستوى
    25

    افتراضي رد: قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

    الدكتور مهران ماهر
    بسم الله الرحمن الرحيم (6)
    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
    المستمعون الأكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
    هذه هي القصة السادسة من القصص التي رواها رسول الله  .. يتجدد عندها لقائي بكم ، شاكراً لكم حسن استماعكم .. نفعنا الله بسنة رسوله  ..
    ثبت في صحيح مسلم ، في كتاب الزهد ، باب الصدقة ، باب الصدقة في المسكين ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ : اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ ؟ قال : فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ ، فقال له : يا عبدَ الله ، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي ؟ فَقَالَ : إنِّي سَمِعْتُ صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ ، يقولُ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا ، فَقَالَ : أمَا إذ قلتَ هَذَا ، فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً ، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ » .
    ولنقف أولاً مع شرح الغريب ، ثم يمكن بعدها أن نُعرِّجَ إلى ما اشتملت عليه القصة من دروس وعبر ..
    الحديقة : الْقِطْعَة مِنْ النَّخِيل ، وَيُطْلَق عَلَى الْأَرْض ذَات الشَّجَر.
    والفلاة :
    قوله  :« فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ» : تَنَحَّيْتُ الشيء : قصدته . وَأَمَّا الْحَرَّة بِفَتْحِ الْحَاء فَهِيَ أَرْض مُلَبَّسَة حِجَارَة سُودًا.
    قوله :«فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ» : الشّرْجة : مَسِيل الماء من الحَرَّة إلى السَّهل ، والشَّرْج جنْسٌ لها والشِّرَاج جمعُها .
    والمِسحاة : المِجْرَفَة .
    هذه القصة اشتملت على دروس عديدة حان وقت الكلام عنها ..
    أعظمها : فضل الإنفاق في سبيل الله ..
    ولذا قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم :" وَفِي الْحَدِيث فَضْل الصَّدَقَة وَالْإِحْسَان إِلَى الْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل".
    النفقة أيها المستمع الكريم هي التجارة التي لا تعرف الخسارة ، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ .
    ومن أنفق فهو موعود بخلف رباني كريم ، لقول رب العالمين : وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ .
    هل تعلم أخي الكريم أنّ المفق يدعو له ملك كل يوم ، وأنّ الممسك الشحيح البخيل يدعو عليه ملك كل يوم .. فعن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ :«مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[البخاري ومسلم] .
    إنّ المال الذي تقدمه صدقةً هو الذي ستنتفع به ، هو مالك الحقيقي .. عن عائشة رضي الله عنها : أنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً ، فَقَالَ النبيُّ  «مَا بَقِيَ مِنْهَا» ؟ قالت : مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُها . قَالَ : «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرُ كَتِفِهَا» [خرّجه الترمذي] .
    واسمع إلى السؤال الذي تعجب الصحابة منه .. والسائل هو رسول الله  .. قال لهم :« أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ» ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ . قَالَ :«فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» [أخرجه البخاري] .
    ولذا كان سهل بن عبد الله التُّسْتَرِيُّ يكثر من الإنفاق ؛ فلامه بعضهم في ذلك . فقال لهم : أرأيتم لو أنّ رجلاً أراد أن يرتحل من دارٍ إلى دارٍ هل يُبقي في الأولى شيئاً ؟ قالوا : لا . قال : فإني مرتحل من الدنيا إلى الآخرة .
    والصدقة تدخل الجنة وتقي النار ..
    تبعد عن النار لقول النبي  :«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» [أخرجه البخاري] .
    وتدخل الجنة لقول الله تعالى : وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 133-136]
    ولا تقل أخي في الله إنّ الحقوق كثيرة، لا تقل إنّ الفقر لم يبرح رحالنا منذ أمد . ونحو ذلك من الكلام الذي يلقي به الشيطان في روعك ، فتصدق بما تستطيع ولا تعجز ، فالعجر ليس من صفات أهل الإيمان ، ولقد قال رسول الله  :«سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» . قَالُوا : وَكَيْفَ ؟ قَالَ :«كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ ، تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا ، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» [أخرجه النسائي] .
    من فوائدها :
    إثبات الكرامات .. المسلم الحق لا ينكر الكرامة، ولكنه يُفرِّق بين الآية والكرامة والسحر .
    الآية ما أيد الله به نبيه .
    والكرامة أمر خارق للعادة يجريه الله إكراماً لولي من أوليائه .
    والسِّحر ما كان من خارق وجرى على يد فاسق فاجر مشرك.
    والكرامة تكون على يد ولي ، والولي يوافق الشرع لا يخالفه ، يفرد الله بالعبادة، لا يدعو الناس إلى أن يعبدوا غير الله ، بخلاف السحرة .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في سبعة مواضع :" قَالَ الْأَئِمَّةُ : لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا وُقُوفَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُهُ لَا يَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ".
    تعلمنا القصة أن الإنسان كما يدين يُدان ، والجزاء من جنس العمل ، ولا يظلم ربك أحداً .. فهذا أنفق فأنفق الله عليه ، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ » [خرجه الشيخان] . وقال  لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها :«لاَ تُوكِي فَيُوكى عَلَيْكِ» . وفي رواية: «أنفقي ، وَلاَ تُحصي فَيُحْصِي اللهُ عَلَيْكِ ، وَلاَ تُوعي فَيُوعي اللهُ عَلَيْكِ» [متفق عليه] .
    استفدنا منها :
    فضل الاكتساب من عمل اليد . وقد كان نبي الله داود عليه السلام يأكل من عمل يده ، وأفضل الكسب عمل اليد كما أخبر به النبي  . وفي صحيح البخاري قال نبينا  :«مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» . وسئل رسول الله  : أي الكسب أطيب ؟ فقال :«عمل الرجل بيده ، وكل كسب مبرور» . فهنئاً للعامل الذي يبيت متعباً من عمل يده قد أضناه العمل وأتعبه الكد .. هنيئاً له ثم هنيئاً له .
    مما يُستفاد من هذه القصة : فضل النفقة على الأهل والعيال . وهذه من أفضل ما يقرب به المسلم إلى ربه ..
    فعن أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :«دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» [أخرجه مسلم] . وليس معنى هذا أن نهمل المساكين بحجة الإنفاق على الأهل .
    وأحرج الطبراني في المعجم الكبير : عَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ  رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ  مِنْ جلده وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :«إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ".
    وقال  :« وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا ، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» [أخرجه البخاري ومسلم] ، وتأمل :«تبتغي بها وجه الله» لتخرج من أسر العادات ، أنفق على أهلك واحتسب ثواب ذلك من ربك ، لقول نبينا  في صحيح مسلم :«إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» . قال العرباض بن سارية  : سمعت رسول الله  يقول :«إن الرجل إذا سقى امرأته من الماء أجر» . قال : فأتيتها ، فسقيتها ، وحدثتها بما سمعت من رسول الله  . [أخرجه الإمام أحمد في مسنده] . ولقد حذر النبي  من إهمال النفقة على الأهل والولد فقال في سنن أبي داود :«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» أي : من يلزومه قوته ونفقته . وفي رواية للنسائي في الكبرى قال  :« كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُول» .
    وفي الحديث أنّ الله أوكل أمور تدبير الكون للملائكة الكرام عليهم السلام ، كما قال سبحانه : فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ، فأقسم الله تعالى بالملائكة الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة، والحيوانات، والجنة، والنار ، وغير ذلك.
    وفيه أنّ العبد الصالح يُرزق من حيث لا يحتسب ، فهذا المتصدق رزق أمرين :
    الأول : رزق من ماء السماء .
    الثاني : من يخبره بما يدل على مكانته عند الله . ولو شاء الله لما هيأ له هذا المخبر .
    أكتفي بهذا القدر ، سائلاً الله أن يجعلنا من خير عباده المنفقين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد ، وعلى آله وصحبه . والسلام عليكم ورحمة الله .


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •