اضحك أنا عراقي!
هيفاء زنكنة
2012-10-19




لا يمكن وصف العراقي بانه صاحب نكتة. فالكآبة معجونة بروحه، منذ الأزل، حتى باتت سمة من سماته. وكيف لا وهو من سكن على ضفاف نهرين متعكري المزاج، وعاش تاريخا شبه دائم من الاحتلال والهجمات الهمجية؟ وكيف لا وتاريخه وحاضره لايخلوان من مجيء هولاكو مبيد لحضارته ومدمر لانسانيته، عبر العصور، من التتار الى المبيد الامريكي؟
غير ان العراقي المهموم ابدا، غناء وشعرا وجلسات عزاء، يمر، حاليا، بمرحلة تستحق المتابعة والتوثيق. فلا يمر يوم بدون ان نتلقى جرعة كبيرة من النكات العراقية، واحيانا، الاجنبية المتعرقنة، بواسطة البريد الالكتروني او على المواقع الالكترونية المتنوعة ولمختلف الأعمار. هناك موقع، مثلا، يشترط شرطا خاصا وهو: 'أي واحد يدخل يحكي نكتة ها ها ها'. بينما تؤكد منتديات حشاشة العراق ' الضحك ويانا بلاش ( معنا مجانا)'. ويفتخر الموقع بانه يضم 'اكبر مكتبة للنكات العراقية' بينما يطلق موقع آخر على نفسه، وتماهيا مع قصص ألف ليلة وليلة اسم 'ألف نكتة ونكتة عراقية'. ومن المعلومات الغريبة التي قرأتها أخيرا، ولايمكن تصديقها بسهولة اشارة الحكيم البابلي، في موقع الحوار المتمدن، 19/1/2010، الى 'أن أول نكتة مكتوبة تم إكتشافها كانت مدونة من قِبَل السومريين سنة 1900 ق. م، في موقع أثري جنوب العراق، والطريف إنها كانت نكتة جنسية. وتم إكتشاف ثاني أقدم نكتة كتبت سنة 1600 ق. م وكانت فرعونية مصرية'! وكأن التنافس الثقافي العراقي- المصري القديم يمتد الى النكتة أيضا، وهذه نكتة بحد ذاتها لو إعتبرنا التفوق المصري فيها منذ عقود.
واذا ما اتفقنا مع علماء الاجتماع والجهاز العصبي (في بحث نشر في مجلة نيتشر نيوروساينس 2006) بان لروح الفكاهة أو الحس بالدعابة دورا معقدا في عملية التفكير والتواصل بين البشر وكذلك في عملية التفاعل الاجتماعي، وأن سبب انعدام روح النكتة عند بعض الأشخاص يعود الى تلف جزء معين من دماغهم، فما هو تبرير ظاهرة انتشار روح النكتة بين العراقيين الآن؟
ان تسليط الأضواء على الأسباب البيولوجية العصبية، وبالتالي النفسية، لروح الفكاهة، قد يكون ضروريا لفهم الوضع العراقي الذي يستحق بحوثا اجتماعية طالما عانى من شحتها وتتطلبها المرحلة الحالية بامتياز. اذ تزخر المرحلة الحالية بالنكتة والسخرية من النفس، كتعبير غير مباشرعن القرف من ضعف النفس البشرية، ومشاركة الناس في مصيرهم أو دورهم أنفسهم في تعاستهم. ونرى ما يصاحب ذلك من تفنن برسوم الكاريكاتير والكولاج المبني على التناقضات السياسية والاقتصادية المضحكة المبكية التي يعيشها المواطن العراقي. وهي نتاج مرحلة لايمكننا الادعاء بانها انبثقت فجأة ومن العدم، بل تأسست وتطورت تدريجيا في ظل حروب قاسية وحصار جائر ونظام قمعي، فلم يبق امام العراقي من منفذ غير الهرب بانواعه. فبينما اختار البعض الهرب الى خارج الوطن، بقي آخرون ليهربوا الى حضرة الدين. الدين القادر على توفير ما يعجز الآخرون عن توفيره أي طمأنينة اليوم الآخر وحتمية القدر والطقوس الفردية والجماعية، وكل ما يخفف ان لم يمح عن الانسان مسؤوليته فيما يجري حوله، سواء من قبله شخصيا او ممن حوله. في هذه الاجواء العصيبة، هرب البعض خارج محيط ' المقدر والمكتوب'، الى خلق النكتة. فولدت النكتة، مجهولة المؤلف، ابنة الاحباط واليأس والخوف والفقر والجوع والظلم، لتنمو وتترعرع كأداة للمحافظة على البقاء. واختلط التلاعب اللفظي بالحشرات والحيوانات والوضع السياسي، ليصبح للنكتة، حديثة الولادة، مصطلحاتها وتعابيرها ونكهتها السياسية الخاصة. مؤكدة بان العراقي كائن لا يعرف معنى للحياة بلا سياسة وليستهدف رمز السلطة بلا رحمة بواسطة مشاعية النكتة.
وان كان رمز السلطة صدام حسين، رئيس النظام السابق، نفسه، صاحب نكتة كما يخبرنا الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في الجزء الأول من مذكراته، التي سرد فيها تفاصيل زيارته الى بغداد، حين كان وزيرا للخارجية، وكيف تم استقباله من قبل الرئيس العراقي السابق، واصفا اياه: 'بدا لي الرجل ذكيا ولا يخلو من روح النكتة وهو لطيف وعاملني كصديق'.
وجاء الغزو والاحتلال في عام 2003 ليقصم ظهر المواطن المنهك من سنوات الحروب والحصار. وتلاه تأسيس الطائفية واقطاعيات ساسة الاحتلال، الذين فتحوا ابواب الوطن للغزاة وميليشياتهم المتفننة بالتعذيب والغدر، ليصاب بالصدمة والترويع كل من تطلع او توهم الديمقراطية. واذا ما اضفنا الى ذلك حجم الكارثة اليومية التي يعيشها المواطن وعالمه المنغمر بقيم واخلاقيات ما كان يظن بانه سيشهدها يوما ما، لفهمنا مغزى التشبث بالنكتة، مهما كانت طبيعتها. فالهدف منها هو خلخلة الواقع الخانق من خلال استهداف مركز السلطة سواء كانت سياسية او دينية، وتسجيل نفاق رجال الدين والسياسيين، والسخرية من الغيبيات والشعارات والمواقف التي تعلن لتنقض أو تقلب رأسا على عقب. أنها بالفعل مرحلة غنية بالسخرية من المفارقات والمنطلقات المتناقضة وتشخيصها باسلوب ممتع من السهل استقباله من قبل المتلقي. ويقارن الكاتب آرثر كوستلر في كتابه ' فعل الابداع' أو الخلق سيرورة
الاكتشاف والاختراع والمخيلة والابداع في الفكاهة والعلم والفنون، مبينا ان ما يجمع ما بين هذه الجوانب الابداعية الجادة والنكتة هو استنادها الى وجود العناصر المتناقضة. ففي النكتة، تتم قيادة المستمع الى توقع نتيجة معينة تتوافق مع مجرى السرد العام الا انه يفاجأ بنقطة او حدث مختلف تماما وغير متوقع مع المسار العام بشكل ساخر ومضحك يقلل، بالنتيجة من قيمة الحدث ويكسر المحرمات المحيطة بالمحور سواء كان المحور شخصية او سلطة او فكرة لايمكن مسها عادة.
وتكاد معظم النكات العراقية السياسية اليوم تدور بلا ملل حول 'رئيس الوزراء' نوري المالكي ورئيس حزب الدعوة المعروف بملامحه المكفهرة الصالحة، بشكل طبيعي، لرسوم الكاريكاتير. وكان مجلس محافظة نينوى ( شمال العراق) 'قد أمر بإغلاق صحيفة 'المجتمع المدني' الصادرة في الموصل، على خلفية كاريكاتير اعتبره المجلس يسيء لرئيس الوزراء نوري المالكي. يصور الرسم المالكي وهو جالس في حجر وزيرة الخارجية الأمريكية رايس ويرضع. لكن قائم مقام الموصل المحامي عامر جهاد رفض تنفيذ الأمر حيث اعتبره تكميماً للأفواه و تقيداً للحريات'. أما 'رئيس الجمهورية' جلال الطالباني الذي يصفه البعض بانه صاحب نكتة، فأن المواطنين، عموما، لا يرون فيه غير نكتة مجسدة موضوعة على كرسي ضخم.
وتكمن قوة النكتة، كسلوك معرفي، في كسرها حاجز الخوف والاضطهاد والقمع عن طريق تحطيم سطوة الشخصيات المهيمنة ووضعها بحجم يصبح من السهل الضحك عليه. انها، بمؤلفيها المجهولين، وشيوع استخدامها، من قبل الجميع بلا تفرقة، واحدة من اقوى الادوات الاجتماعية لمقارعة الظلم والاستبداد، وتقوية العلاقات الاجتماعية التي فرقتها السياسة، وهذا ما يبتغيه المواطن العراقي من خلال تبادله النكات بشكل لم يعرفه من قبل.

' كاتبة من العراق