هذه ورقة شاركت بها صباح اليوم 20 أكتوبر 2012م فى ندوة "حقوق الإنسان واللغة" بقاعة المؤتمرات بكلية الحقوق- جامعة القاهرة. وقد أعددتها قبيل إلقائها مباشرة نظرا لازدحام برنامجى فى الفترة الأخيرة. فالمرجو تسامح القراء عند مطالعتها، ولهم جزيل الشكر. وكل عام وأنتم جميعا بخير وسعادة

وضع اللغة العربية فى الدستور المصرى
د. إبراهيم عوض


فى الدستور الذى يتم وضعه الآن توصية بمادة تجرى على النحو التالى: "تحمى الدولة الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع المصرى، وتعمل على تعريب العلوم والمعارف. واللغة العربية مادة أساسية فى كافة مراحل التعليم. والتربية الدينية والتاريخ الوطنى مادتان أساسيتان فى التعليم قبل الجامعى بجميع أنواعه، وتلتزم الجامعات بتدريس القيم والأخلاق اللازمة للتخصصات المختلفة". وهو نص جيد فى مجمله، وإن كان هناك موضع لتحسينه وجَعْله يفى بتطلعات المجتمع المصرى إلى ما هو أفضل.
ومعروف أن "الأمة" فى المصطلح القانونى والسياسى، عبارة عن جماعة من الناس يرتبط أفرادها بروابط معينة مثل اللغة والتاريخ والجنس من ناحية، والمصالح المشتركة والغايات الواحدة من ناحية أخرى، ويقطنون بقعة من الأرض حتى لو لم يخضعوا لنظام سياسى معين. وتشمل الأمة أموات الشعب والأجيال التي ستأتى في المستقبل. فوحدة اللغة إذن عنصر من العناصر البالغة الأهمية التى يقوم عليها وجود الأمة، إذ لا بد أن يكون هناك وسيلة للتفاهم بين أفراد تلك الأمة وطوائفها، وإلا تحول الأفراد والطوائف إلى جزر منعزلة لا سبيل إلى التقائها فكريا وشعوريا، وهو ما يضرب وحدة الأمة فى الصميم، إن كانت هناك أمة أصلا فى تلك الحالة.
وعلى الدولة إذن الاهتمام بلغتها القومية الفصحى تعليما وتعميما بحيث يستطيع كل فرد متعلم أن يستخدمها فى كل أمور حياته بسهولة ويسر قراءة وكتابة فى مستوياتها العلمية والأدبية المختلفة التى تعلو فوق الآنى وتمتد إلى أبعد نقطة فى ماضى تاريخ الأمة وأبعد نقطة متخيلة فى مستقبل ذلك التاريخ، وإن لم يعن هذا أن الدولة وحدها هى التى يجب عليها الاهتمام باللغة والحفاظ عليها من الاندثار أو التخلف عن مسايرة ركب العصر فى العلم والأدب وما إلى ذلك، إذ الدولة ليست سوى شق واحد من شقى المقص، أما الشق الآخر فهو جمهور الشعب، الذى ينبغى أن يقوم هو أيضا بدوره فى الاهتمام بلغته والحرص على تعلمها وإتقانها وتجويدها والبلوغ بها إلى أرقى مستوى ممكن فى كل المجالات التى تستعمل فيها. وهذا بالنسبة للمتعلم، أما غير المتعلم فينبغى على الأقل أن يستطيع فهم اللغة الفصحى فى نشرات الأخبار والخطب والصحف والكتب التى تناسب مداركه واهتماماته ومستواه المعرفى، وأن يستعملها على نحو مقبول فيما يحبره من رسائل أو يكتبه من عرائض أو يصوغه من عقود مثلا.
ودائما ما يرانى القراء أركز كلامى على أن الشعوب هى الفيصل فى كل شىء، إذ لو أن الدولة مثلا قد بذلت كل جهودها فى أمر من الأمور وأتت بالعباقرة لهذا الغرض ثم انصرف الشعب فلم يبذل الجهد المطلوب من جانبه ولم يهتم الاهتمام اللازم فحينئذ فلا أمل فى إنجاز أى شىء. وعلى هذا فما لم يستجب الشعب إلى الاجتهاد فى تعلم لغته على النحو المطلوب وإتقانها والاعتزاز بها والمفاخرة بمعرفتها والحرص على استعمالها الاستعمال الذى يليق بشعب متحضر فلا فائدة تذكر من وراء الجهود التى تبذلها الدولة. أما لو افترضنا أن الحكومة قصرت فى هذا السبيل لسبب أو لآخر، ثم كان للشعب موقف يختلف عن موقف حكومته، فأنا واثق تمام الثقة أنه سوف ينجح فيما يريد، وسوف يتقن تلك اللغة على نحو أو على آخر رغم أنف الحكومة، التى قد توالس مع الأعداء وتعمل على تنفيذ مخططاتهم الهادفة إلى طمس هوية الأمة اللغوية والثقافية والدينية.
ولكننا الآن بصدد واجب الحكومات نحو لغة البلاد. وهذا الواجب يتمثل فى تعليمها لأفراد الشعوب وطوائفه، واحترامها ونشرها بين جماهير الشعب بكل سبيل من إذاعة أو تلفاز أو كتاب أو مجلة أو صحيفة أو خطب أو بيانات أو محاضرات ودروس ولافتات... إلخ. وبالنسبة للتلاميذ والطلاب لا بد أن يتعلموها طوال حياتهم الدراسية بدءا من الحضانة حتى التخرج من الجامعة أيا كان التخصص الذى يتخصصه الطالب فى تعليمه العالى، إذ لا يعقل أن يكون المتعلمون ضعفاء فى لغتهم القومية، بل لا يد أن يتقنها كل فرد منهم قراءة وكتابة كل واحد منهم، وأيا كانت الطائفة أو الجماعة التى ينتمى إليها داخل المجتمع الكبير الذى يضم مختلف الجماعات والطوائف.
وقد يظن بعضٌ أن مرسوم القانون رقم 126 لسنة 2011م، الذى أصدره رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى ذلك الوقت المشير حسين طنطاوى لمكافحة التمييز، والذى يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن ثلاثين ألف جنيه ولا تتجاوز خمسين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من قام بعمل أو بالامتناع عن عمل يكون من شأنه إحداث التمييز بين الأفراد أو ضد طائفة من طوائف الناس بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة وترتب على هذا التمييز إهدار لمبدأ تكافؤ الفرص أو العدالة الاجتماعية أو تكدير للسلم العام، قد يظن بعض أن ذلك القانون يقتضى أن تعلم الدولة فى المدارس والجامعات كل لغة تستعملها أية طائفة من طوائف المجتمع كما تصنع ذلك مع اللغة العربية الفصحى. لكن مثل هذا الظن باطل ولا معنى له، إذ الدولة مسؤولة عن اللغة القومية وحدها، أما اللغات الأخرى فمن يرد أن يتعلمها فليتعلمها كما يحب، لكن بطريقته الخاصة، وبمجهوده هو، ودون أية محاولة لفرضها على غيره، وإلا فلن ننتهى، وسوف يطلع لنا من يقول إن على الدولة أن تعلم مواطنيها لهجاتهم العامية أيضا. ذلك أن اللغات الأخرى غير اللغة القومية تشبه فى وضعها اللهجة المحلية، إذ هى مقصورة على جماعة بعينها لا تعدوهم إلى سائر جماهير الأمة. كما أنها لا تستعمل فى أى لون من ألوان الخطاب الرسمى.
وعلى هذا فليست الدولة مسؤولة عن تعليم تلك اللغات لمواطينها كلهم أو بعضهم، كما أن تعدد اللغات الرسمية داخل المجتمع الواحد من شأنه أن يعمل على تفكيك هذا المجتمع إن عاجلا أو آجلا لأن اختلاف اللغات فى هذه الحالة من شأنه أن يشكل حواجز تفصل المواطنين بعضهم عن بعض. وبالنسبة إلى مصر لم يحدث أن قامت الدولة على أساس من تعدد اللغات الرسمية. واللغة العربية هى اللغة الرسمية منذ أكثر من ألف عام، ويستعملها الشعب المصرى كله بوصفها لغته القومية أيا كان الدين أو الطائفة أو المنطقة أو الحرفة أو الطبقة التى ينتمى إليها أفراده.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فلا مناص هنا من لفت الأنظار إلى ما تفعله موسوعة "الويكيبيديا" للأسف من وضع ما يسمى بـ"اللغة المصرية" بين اللغات التى يتم تحريرها بها رغم ما هو واضح جلى للعيان من أن تلك اللغة المصرية ليست شيئا آخر سوى خديج غير متناسق من اللهجات العامية المصرية. ومنذ متى تفسح "الويكيبيديا" مكانا لعاميات اللغات التى تُحَرَّر بها؟ إذن فلم لا تفعل هذا مع الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية... إلخ؟ ولماذا العربية بالذات، وفى هذا الوقت الذى يتحدث الجميع عن المخططات التى وضعتها أجهزة الاستخبارات فى بعض الدول الأجنبية المشهورة بمعاداة العرب والمسلمين لإثارة القلاقل والاضطرابات من كل شكل ولون: دينية كانت أو عرقية أو لغوية أو سياسية؟
ولعل هذا الموضع يكون مناسبا للإشارة إلى زعم المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث، الذى كتب فى بحثه عن "أصول الشعر العربى: The Origins of Arabic Poetry" أن العرب أنفسهم لم تكن لهم لغة قومية قبل ظهور الإسلام تصهرهم جميعا فى بوتقة واحدة، غافلا أو متغافلا عن الحقيقة التى تفقأ عين كل مكابر والتى عبر عنها القرآن المجيد حين كرر فى عدة مواضع منه أنه قد نزل بلسان عربى لا بلهجة قرشية أو هذلية أو غطفانية مثلا بما يدل دلالة قاطعة لا تقبل نقضا ولا إبراما أنه كانت هناك لغة عربية قبل الإسلام تعلو فوق اللهجات القبلية، مثلما أشارت إليها الأحاديث الشريفة كما هو الحال فى النص على أن ورقة بن نوفل "كانَ يكْتُبُ الكتابَ العربِيَّ، ويكتُبُ من الإنجيلِ بالعربيةِ ما شاءَ اللهُ أن يكتُبَ"، وأن "العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا بأمٍّ. إنما هي لسانٌ. فمن تكلمَ بالعربيةِ فهو عربيٌّ"، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل خطاباته إلى الملوك والزعماء بالعربية. ونصوص تلك الخطابات والمعاهدات موجودة. وفى الرواية الخاصة برسالته عليه السلام إلى هرقل أن العاهل البيزنطى قد استدعى الترجمان ليترجم الرسالة إلى لغتهم، فضلا عن أننا لم نسمع قط أنه كانت هناك أية صعوبة لأى عربى آنئذ فى التفاهم مع أى شخص من أية قبيلة أو منطقة مغايرة لقبيلته أو منطقته بما فى ذلك اليمن حيث ينتمى اليمنيون وجيرانهم فى جنوب بلاد العرب إلى فرع مختلف عن فرع عرب الشمال.
وبطبيعة الحال سوف يكون الأسلوب الذى تعلَّم به العربية للصغار مختلفا عن الطريقة التى يعلَّم بها الكبار: فبالنسبة للصغار ينبغى التركيز على الأناشيد اللطيفة التى تناسب سنهم وتثير فضولهم ورغبتهم فى حفظها، وبعض الآيات القرآنية القصيرة التى تخلو من الألفاظ الصعبة عليهم. ولقد فوجئت دَهِشًا أشد الدهشة، وفَرِحًا غاية الفرح، حين سمعت بالمصادفة منذ عدة أسابيع لالة حفيدتى التى تبلغ من العمر أربع سنوات وهى تردد عفو اللحظة أمام التلفاز بعضا من العبارات الفصيحة التى تمس حياتها الصغيرة الساذجة، فسألت أمها فقالت إنها تلتقط مثل تلك العبارات من الحلقات التمثيلية التى يذيعها التلفاز بالعربية الفصحى لها ولأمثالها. إذن فالأمر ليس صعبا لمن يريد تعليم الصغار لغة القرآن المجيد والنبى الكريم عليه السلام. المهم الهمة!
وبالنسبة للكبار ينبغى أن يتعلموا قواعد النحو والصرف والبلاغة مع دراسة أكبر عدد من النصوص الممتازة المنتمية للعصور المختلفة، وتكليفهم بحفظ أكبر عدد منها، فضلا عن القرآن الكريم والحديث الشريف، مع الاهتمام بالتطبيق قراءة وكتابة والابتعاد ما أمكن عن أسلوب الحفظ والتلقين والترديد الآلى والمذكرات المختصرة التى تقتل العقل والذوق وتمسخ الشخصية، والإلحاح الذكى على أن العربية هى مظهر هويتنا، ووعاء ثقافتنا، ومحور تاريخنا، وحاضنة كتاب ربنا وأحاديث نبينا وإبدعات شعرائنا وكتّابنا العباقرة العظام، الذين تعكف أوربا وأمريكا وأستراليا على دراستهم وتذوقهم وتحليل أعمالهم، فلا أقل من أن نكون مثل الغربيين فى الاهتمام بهم، وإن لم يَكْفِ هذا فى الحقيقة لأنهم أسلافنا وليسوا مجرد أدباء عاديين لا صلة تربطنا بهم كما هو الحال بالنسبة للغرب.
ولا ينبغى أن يُعْفَى دارسو الطب والصيدلة والهندسة وأمثالهم من الدراسة بالعربية: أولا لغرس الاعتزاز باللغة القومية فى نفوسهم. وثانيا لأن ذلك من شأنه إغناء العربية بالتأليف فيها فى تلك المجالات العلمية التى جرى العرف الفاسد على استخدام الإنجليزية فيها بدلا من لغة القرآن. وثالثا لاختصار الجهد والوقت الضائعين فى التعلم من خلال لغة أجنبية لا يمكن أن يحسنها الشخص كما يحسن لغته القومية. ورابعا لأن العربية قادرة تمام القدرة على التعبير عن أى علم أو فن أو عاطفة بكل سلاسة وسهولة، وإلا فكيف كان أسلافنا من العلماء يعملون؟ أوكانوا يفكرون أو يؤلفون أو يحاضرون بالإنجليزية؟ لقد كان أولئك الأسلاف سادة العلم والبحث العلمى فى عصورهم، فما عدا مما بدا؟ كما أن هناك دولا عربية تدرس الطب والصيدلة والهندسة باللغة العربية، ولم يَشْكُ أى خريج من خريجيها من شىء.
ثم لماذا نشذ نحن عن استعمال لغتنا القومية فى تلك المجالات عن سائر الأمم، التى تحرص كل الحرص على أن تكون لغتها القومية هى الوعاء التعبيرى لكل العلوم والفنون والعواطف؟ وها هى ذى إسرائيل على فركة كعب منا، وهى تستخدم لغتها القومية التى كانت أشبه بالميتة حتى وقت قيام دولة الصهاينة على أرض فلسطين ظلما وعدوانا وجبروتا. ولم يحدث أن سمعنا أحدا من الصهاينة يشكو من عجز تلك اللغة عن تأدية أى علم أو فن. فلماذا نحن؟ ألا يرى العقلاء أن هذا دليل آخر على سقوط همتنا وركوننا إلى الخنوع أمام الأوهام فى عجز ذليل، على حين قد أتى اليهود من رواء البحار واقتلعوا إخواننا من أرضيهم وأقاموا على أنقاض دولتهم دولة أخرى من العدم لم يكن لها أى وجود؟