القروض الأجنبية والنزيف الإقتصادي المترتب عليها
تعتزم مصر الإقتراض من صندوق النقد الدولي على أن يكون إجمالى القرض 4.8 مليار دولار، وأن يكون استرداده على خمس سنوات، بفائدة 1,1%.، من أجل الإصلاح وتنفيذ برنامج اقتصادي إجتماعي بين الجانبين كما صرح بذلك رئيس الوزراء المصري والذي أكد في كلامه أحد شروط صندوق النقد الدولي المنصوص عليها، وهو إجبار حكومة مرسي على خفض الإنفاق المتعلق برعاية شؤون الشعب المصري، فقال: "إنّه برنامج مصري سيعمل على خفض الإنفاق واتخاذ تدابير أخرى معينة"، وخوفا من رد فعل عنيف، اختار قنديل عن عمد عدم ذكر الشروط الصارمة الأخرى، ولكن من المعروف جيدا أنّ هذه الشروط هي: رفع الضرائب وزيادة الأسعار على المواد الأساسية، والمزيد من القروض من المؤسسات الأخرى، وكلها أمور تجعل الناس يعانون كثيراً وتضيف مزيدا من البؤس على بؤسهم، وفي الواقع فقد أكدت صحيفة فاينانشال تايمز هذه التدابير، ففي 22 أغسطس 2012، ذكرت الصحيفة "يريد صندوق النقد الدولي من مصر رسم خطط لخفض العجز في الميزانية من خلال تعزيز الإيرادات وتقليص كلفة القطاع العام، بما في ذلك وقف دعم الوقود والغذاء، ويجب أيضاً على مصر تأمين تمويل مؤسسات الإقراض الأخرى كجزء من شروط القرض"، وأنهى كلامه بعبارات لا لبس فيها تدل على أنّ مصر وشعبها سيصبحان رهينة لشروط صندوق النقد الدولي المذلة على مدى السنوات الخمس المقبلة، حيث قال: "على كلا الطرفين الاتفاق على شروط وأحكام معينة، وهذه الشروط والأحكام ستكون ملزمة للبلاد عند التوقيع على هذا القرض".
ولتسليط الضوء على هذا الموضوع، لا بد من معرفة واقع مؤسسات الإقراض الدولية، وحقيقة التنمية الإقتصادية والنزيف الإقتصادي في بلدان العالم الإسلامي نتيجة هذه القروض. لهذا نقول: انعقد في نهاية الحرب العالمية الثانية مؤتمران مهمان:
الأول: سياسي، وهو مؤتمر يالطا، والذي بموجبه تم تقسيم تركة الحرب بين الحلفاء.
الثاني: اقتصادي، وهو مؤتمر (بريتون وودز) وهو الذي أفرز صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
انعقد هذا المؤتمر المالي والنقدي في منطقة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير (أمريكا) في 22 تموز(يوليو) سنة 1944م، حضره ممثلو (44) دولة، إضافة إلى مجموعة من الخبراء الاقتصاديين الكبار وتم التصديق على إنشاء الصندوق في ديسمبر 1945، ويقع مقر الصندوق في واشنطن العاصمة، ويديره أعضاؤه الذين يشملون جميع بلدان العالم تقريباً بعددهم البالغ 187 بلداً.
وتتمثل القيادة المركزية للنظام الاقتصادي العالمي في ثلاث ركائز: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأُضيف إليهما منظمة التجارة الدولية.
وصندوق النقد الدولي وإن كان هو القلب النابض المحرك للنظام النقدي الدولي، فإنه في حقيقته هو الأداة الرئيسة لتنفيذ عملية الانتقال إلى الاستعمار الجديد، والمحافظة عليه، وبالنظرة العميقة إلى بنود ميثاق الصندوق يتبين أنه إنما وُجد لخدمة الدول الاستعمارية عموماً والولايات المتحدة بشكل خاص (حصتها 17.6% من إجمالي الحصص) في سعيها لتنفيذ مخططها الجديد الذي رسمته في نهاية الحرب العالمية الثانية لاستغلال العالم الثالث أولاً، ثم تكريس سيادتها لتكون هي الدولة الأولى في العالم. فكان البنك الدولي توأماً للصندوق تولدا من رحم بريتون وودز. ثم جيء بمنظمة التجارة الدولية، لتكوّن إطاراً شرعياً تدور في داخله بقية الدول الأعضاء في المنظمة الدولية.
وقد كانت الدول المستعمرة وبحكم سيطرتها العسكرية، تستغل البلاد الإسلامية استغلالاً مباشراً، ناهبةً خيراتها، جاعلةً منها سوقاً لتصريف فائض إنتاجها. أما الأسلوب الأميركي الجديد فبرز بملاحقة الدول المستعمرة ـ إنجلترا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، البرتغال ـ لانتزاع مستعمراتها منها عن طريق إعطاء هذه المستعمرات استقلالها، فَمَدَّتها بالمعونات والمساعدات العسكرية والمالية وقدمت تغطية دولية لتمردها على الدول المستعمرة، فكانت تحركات هيئة الأمم ضد إنجلترا في أفريقيا، وسلسلة الثورات والانقلابات في البلاد الإسلامية. وبعد نيل البلاد المستعمرة لاستقلالها، بدأت أميركا تفرض سيطرتها عليها بواسطة القروض والمساعدات، والبلد الذي يمتنع عن أخذ القروض تثير أميركا فيه القلاقل، وتوجد له المتاعب حتى تخضعه لها فتضطره لأخذ القروض منها. كما حصل مع إندونيسيا، فإنها حين استقلت سنة 1947 امتنعت عن أخذ القروض من أميركا في أول الأمر مما جعل أميركا تثير ضدها الثورات والقلاقل إلى أن خضعت سنة 1958 فارتبطت بأميركا بالقروض والمساعدات. كذلك رفضت المكسيك أخذ القروض على شروط البنك الدولي، فما كان إلا أن حدث انقلاب أُغْرِقَتِ المكسيك على أثره بالديون. غير أن أخذ الدولة المستقلة للقروض على شكل يربطها بأميركا لا بد أن توجد مبررات لأخذها ومن أجل ذلك أوجدوا الرأي العام عن التخطيط الاقتصادي والتنمية الاقتصادية في البلاد التي كانت مستعمرة أو تحت النفوذ الغربي لإيجاد حافز عند أهل البلاد لرسم المخططات الاقتصادية والتنمية الاقتصادية، وكان التخطيط الاقتصادي بمعظمه مطبقاً تبعاً لتوجيهات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي .
ولسائل أن يسأل، ماذا يحدث عند قبول دولة ما بمساعدة أو دين:
أولاً: المساعدات العسكرية يتبعها لزاماً تبعية للدولة المصدرة إذ أنَّ نقصاً في قطع الغيار يشلُّ قدرات الدولة العسكرية أي يهدد أمنها. كما أنَّه عادةً ما يرسل المستشارون والخبراء كجزء من المساعدات العسكرية يتبع ذلك تغلغل في صفوف الجيش وكسب العملاء، وتجري مساعدات الدولة لعقد صفقات خاصة لتحديث ما قُدِّم لها كمساعدة وللشعور بالحاجة لتدعيم أمنها بوجود المتغيرات الخارجية والداخلية. فمثلاً: في سنة 1949 بلغت قيمة المساعدات العسكرية لإيران مليار دولار، تبع ذلك في سنة 1950 شراء إيران ما قيمته 66 مليون دولار من الأسلحة وأخذت واردات الأسلحة بالنمو سنوياً فوصلت 105,7 مليون دولار سنة 1956 و465,7 مليون دولار سنة 1968 و2,01 مليار دولار سنة 1973 أي في عام واحد اشترت إيران ما يقدر بثلث مشترياتها في عشرين عاماً.
ثانياً الديون: بالنسبة لظاهرة الاستدانة في العالم الثالث عموماً وفي البلاد الإسلامية خصوصاً ليست نتيجة شعور طبيعي بحاجة البلد لتمويل المشاريع، إنما هي وكما أسلفنا نتيجة توجيه خارجي من المؤسسات الاقتصادية الغربية ( البنك الدولي، صندوق النقد، الخ).
ولتفصيل ذلك نقول:
1- حين تستدين دولة ما قرضاً من أية جهة خارجية، لا يعطى هذا القرض إلا لأنواع معينة من المشاريع كالزراعة والطاقة والمواصلات وتعمير المدن والنقليات وهي بمعظمها ذات طابع استهلاكي ونسبة ضئيلة من القروض تتوجه إلى الصناعة ذات الطابع الإنتاجي. وهذه الصناعة في الغالب من الصناعات الخفيفة.
2- يشترط البنك الدولي إشراف الشركات الأجنبية على المشاريع مثلاً، فإن نشاطات الشركات الأجنبية في تخطيط وبناء شبكة طرق في الباكستان كانت متسعة إلى حد أنّ الأشغال العامة الباكستانية قد أبقيت بمعزل عن المشروع.
3- كما أنَّه يَشْتَرِط الانتساب إلى صندوق النقد الدولي محدداً بذلك قيمة عملة البلد المدين ويفرض تعرفة مرتفعةً لخدمات المشاريع لتغطية التكاليف وتأمين الأرباح وسداد فوائد الدين، وبالتالي يرهق البلد بمصاريف التشغيل.
4- يتدخل البنك في ما على البلد من ديون فارضاً عليه دفع فوائد الديون المترتبة عليه للمؤسسات والدول الدائنة ليحصل على أهلية أخذ القروض، فمثلاً اشترط البنك الدولي على الجزائر التعويض عن الشركات المُؤَمَّنة الفرنسية.
5- يشترط شراء المواد المطلوبة للمشاريع من شركات أو دول محددة وبأسعار أعلى بكثير من قيمتها.
6- يتدخل ببقية المشاريع القائمة فيوقف ما يرى أنّه يجب إيقافه ويجمِّد ما يرى تجميده.
أما البلد المدين فيرهق من مجرد دفع فوائد الديون ويزداد النزيف لتغطية كلفة الصيانة وقطع الغيار. علاوة على ذلك يصيب المشروعات الشلل بسرعة أو هي تعمل بمستوى إنتاجي منخفض بسبب نقصان قطع الغيار في مخزون الموَرِّد أو بسبب عدم توفر وسائل الدفع الخارجية لشراء هذه القطع، أو كذلك بسبب عدم توفر التقنيين الأجانب القادرين على اكتشاف طبيعة الأعطال التي تتعرض لها التجهيزات بصورة دورية، نظراً لانعدام الصيانة وفق المواصفات المطلوبة. لهذا تضطر كثير من البلدان إلى طلب تدخلات مؤسسات التمويل الخارجية سعياً وراء تأمين حدٍ أدنى من الجدية والاستمرارية في تنفيذ المشاريع. وهكذا نرى الإدارات المحلية مجرد أجهزة لإعداد ودفع فواتير الشركات الأجنبية العاملة محلياً.
أما المساعدات فغالباً ما تكون مشروطة بتسهيل عمل الشركات الأجنبية في ذلك البلد، أو تكون على شكل استثمارات. تُتَّخذ القرارات بشأن هذه الاستثمارات والمشاريع من قبل السلطات الحكومية معتمدةً في ذلك على المستشارين الأجانب وهم إما خبراء لدى المنظمات المالية الدولية، كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية إلخ... أو لدى مكاتب تنظيمية أو مكاتب استشارية هندسية أجنبية أو مصارف الأعمال الأميركية إلخ... وهم جميعاً يفرضون تدريجياً أساليبهم الخاصة في العمل واختيار المشاريع مشكلين قناة رئيسية لتوجيه الاقتصاد والمال نحو الخارج بصورة مفرطة، ومظاهر نزيف موارد البلاد يظهر في:
1- هجرة أرباح الشركات الغربية الناتجة عن استثماراتها من العالم الثالث، إلى الوطن الأم.
2- المدفوعات لقاء براءات الاختراعات ورخص استعمالها.
3- المدفوعات لقاء الخدمات (إعانة تقنية، مكاتب استشارية هندسية، تأمين نقليات).
4- الخسائر الناجمة عن الممارسات التجارية المقيدة التي تفرضها الشركات الأجنبية.
5- الخسائر الناجمة عن التحويل المعاكس للتكنولوجيا وتظهر بصورة هجرة الكوادر أو التقنين نحو البلاد الغنية.

من كل ذلك نرى أن أخذ الأموال الأجنبية (ديون أو مساعدات) ولا سيّما الأميركية تفتح الأبواب للسيطرة على البلاد ولاستغلالها وعليه كانت الدعوة إلى التخطيط الاقتصادي والتنمية الاقتصادية دعوة مشبوهة أريد منها فتح الطريق للأموال الأجنبية لتحل محل الجيوش والقوى العسكرية في فرض السيطرة.ومن أمثلة ذلك:
نشرت الأهرام القاهرية في سنة 82 سلسلة من المقالات حول تزايد نشاط مراكز الأبحاث والبعثات الأميركية عامة والوكالة الأميركية للإنماء العالمي خاصة ومما في تلك المقالات:
أولاً: في مصر ما يقارب 10000 أميركي وأقوى مؤسستين أميركيتين الجامعة الأميركية ـ القاهرة ـ ومؤسسة الإنماء العالمي.
ثانياً: تم إيجاد هذه الوكالة في مصر سنة 1975 بحجة التنمية والإعمار ووجود نقص في الخبراء والفنيين في مصر مع تخرج 1600 حامل دكتوراه كل سنة.
ثالثاً: كان مايكل ستون مدير الوكالة في مصر قد طلب معرفة الكثافة السكانية في كل شارع بل لمّح إلى ضرورة معرفة سكان كل بيت والحصول على خرائط تفصيلية إلى ما لا نهاية من المعلومات بحجة إصلاح نظام المجاري. وقد جاء في الأهرام على لسان كاتب المقالات لطفي عبد العظيم رداً على ذلك «بصراحة، أعتقد أن كل هذه المعلومات تذهب إلى دوائر المخابرات».
رابعاً: لقد وصف وزير التخطيط المصري السابق إسماعيل صبري الوكالة الأميركية للإنماء العالمي بأنها الحكومة الثانية في مصر.
ومثال آخر من باكستان:
أحد القروض والمساعدات الأمريكية للباكستان كان القروض المعطى لباكستان من أجل التطويرات الداخلية (طرق وحدائق ومناظر جمالية في الشوارع إلى كل ما يتعلق بالمواصلات والخدمات العامة)، وقد جعلت على قسمين قروض ومساعدات.
بعد فترة من بداية دفع هذه الأموال أرسلت أميركا وفداً ليراجع هذه المساعدات وكيفية صرفها ثم وضع تقديراً عن ذلك ولنا أن نشير إلى فقرة جاءت في التقرير ـ ونشرته مجلة نيوزويك ـ يقول التقرير «باكستان من أغنى دول العالم بما لديها من ثروات».
ثم جاءت لجنة الإشراف والمتابعة لموضوع القرض المتعلق بالتطويرات الداخلية ولنا أيضاً أن نشير هنا أن انتخابات البلديات في باكستان عقدت في 30/11/87 وقد ترشح لهذه الانتخابات رجالات من الحزب الحاكم أو الرابطة الإسلامية وكذلك رجالات من المستقلين أو المعارضة، وجُعلت هذه اللجنة الأميركية هي المشرف على هذه الانتخابات فأرسلت اللجنة إلى المرشحين المتوقع أن يستلموا رئاسة البلديات «أنه إذا كنتم تريدون السير بحسب رأيكم وأن تطرحوا سياسيات مستقلة فلن يصل لبلدياتكم أي مساعدة أما إن سرتم حسب ما تريد الدولة وحسب سياستها فستنعمون بالمساعدة».
بقي أن نشير إلى ما يقوله من يعطي هذه المساعدات من أن قروضهم سببت الفقر للبلدان التي اقترضت منهم. فهذا القاضي وليام دوغلاس ـ أحد قضاة المحكمة العليا الأميركية ـ وبتاريخ 12/07/1962 يلقي خطاباً في اجتماع ماسوني في سياتل يعلن فيه «بأن هناك دولاً كثيرة ازدادت حالتها سوءاً نتيجة لتلقيها مساعدة أميركية» وقال: «لقد أصبح كبار المسؤولين في تلك الدول أثرياء نتيجة للمساعدة الأميركية، وفي الوقت ذاته أخذ أفراد عامة الشعب يهلكون جوعاً».
و هذا ما أكده الكاتب المصري (محمود عوض) بالأرقام في مقاله في جريدة الحياة (03/11/90).
حيث قال: "الدين العسكري المصري المستحق للولايات المتحدة يمثل ثلاثة قروض تمت في سنوات 1979 ـ 1981 لتمويل بيع أسلحة أميركية إلى مصر. وفي ذلك الحين لم تعلن أبداً شروط تلك القروض، وعلى العكس تماماً جرى التبشير بأنها دليل ثقة من «العالم المتحضر» في مصر وقياداتها وسياساتها. والآن فقط نعرف أن تلك القروض تمت بفائدة مرتفة تماماً (12 ـ 14 في المئة) وأن مصر ظلت تسدد للولايات المتحدة نحو ألفي ومئتي مليون دولار سنوياً عن الدين وفوائده، بما يعني في الواقع أن أصل الدين قد تم تسديده فعلاً، وأكثر. لكن الأغرب من ذلك أنه كان من شروط هذا الدين أن تستمر مصر في تسديد الأقساط حتى سنة 2006 وأن الولايات المتحدة ترفض قيام مصر بتسديد المبلغ قبل هذا التاريخ إلا في حال واحدة هي قيام مصر بتسديد واحد وعشرين بليون دولار دفعة واحدة، بحجة أن هذا هو الرقم الاجمالي المستحق في نهاية المدة. ربما من أجل هذا نستطيع أن نفهم مجموعة ظواهر تم إغراق مصر فيها طوال الخمس عشرة سنة الأخيرة على الأقل. مظاهر تبدأ لفتح باب الاقتراض الخارجي من دون ضوابط، إلى محاولة إدخال جرثومة الطائفية في مجتمع مصري لم يعرف الطائفية مطلقاً، إلى إفتعال الخصومة بين العروبة والاسلام، إلى شركات توظيف الأموال، إلى المطالبة بهدم السد العالي وتفكيك الصناعات الكبرى، إلى الدعوة لربط مستقبل مصر ورغيف خبزها بمدى تدفق السياح الأجانب بدلاً من ربطه بتنمية حقيقية"، ويستطرد الكاتب قائلا: " ولعل الموجز هنا لهذا كله هو أن إجمالي ديون مصر الخارجية حتى 1975 لم يكن يتجاوز 2,2 بليون دولار. تلك هي كل مديونية مصر الخارجية على الرغم من حرب 1967 وحرب الاستنزاف وحرب تشرين الأول (أكتوبر)، وعلى الرغم من بناء السد العالي ومجمع ضخم للألمينيوم وعشرات الصناعات الأساسية الأخرى في سنة 1990 ـ أصبحت مديونية مصر الخارجية نحو خمسين بليون دولار، على الرغم من معاهدة صلح مع إسرائيل وإيرادات قناة السويس والبترول والعاملين المصريين في الخارج وبليونين من الدولارات تحصل عليها مصر سنوياً من الولايات المتحدة تحت عنوان «معونة» اقتصادية وعسكرية.إنها إذن مفارقة كبرى، إذ أصبحت سنوات انكفاء مصر على ذاتها هي بذاتها سنوات القروض الخارجية والمديونية التي تقفز حمساً وعشرين مِثْلاً ولا تبدو في الأفق نهاية لها أو حتى تجميد لأعبائها".
فى يناير 2011 عند خلع الرئيس مبارك وصل الدين الخارجى إلى 34.9 مليار دولار والدين الداخلى 962.2 مليار جنيه، بما يعنى أن إجمالى «ديون مبارك» التى تدفع الثورة فواتيرها وصل إلى تريليون و172 مليار جنيه.
بقي أن نشير إلى أن القروض إمّا أن تكون قروضاً (قصيرة الأجل) وهذا ببساطة يتنافى مع فلسفة التنمية (طويلة الأجل) أي المتعلقة بالقطاع العام أو بتعبير أعمّ القطاعات الاقتصادية المشتملة على استغلال الثروات الطبيعية كالمناجم والزراعة وقطاع الصناعة والخدمات الإدارية والنقل والتجارة.
لذا نقول أن القروض قصيرة الأجل لا تخدم هذا النوع من قروض التنمية لا من قريب ولا من بعيد.
والنوع الثاني من القروض وهي القروض (طويلة الأجل) تكون ذات فوائد مرتفعة مما يرهق الاقتصاد في البلد الفقير بسداد الفوائد فقط.
ومن هذا نخلص إلى القول: أن كل هذه القروض والمساعدات لا تصرف إلا بمعونة الدولة أو المؤسسة المقرضة ولا تصرف إلا في مشاريع استهلاكية وخدمات عامة (مد الطرق، فتح مستشفيات، بناء مدارس وحدائق عامة، تجميل المدن وفتح أسواق، تمديد مياه وشبكات مجاري...الخ) ولا تصرف في مشاريع إنتاجية. ومن هذا كله يتبين أن القروض إن لم نقل تضرب اقتصاد البلد فيكفي أن نقول لا تؤدي إلى تنمية الثروة وإنما إلى إخضاعها لسيطرة الدولة التي تعطي القروض.
على أنه لو فرضنا جدلاً أن هذه القروض تصرف للمشاريع الإنتاجية، فإن الخطر ما زال مستشرياً، ذلك أنه إن كان القرض قصير الأجل كان على الدولة المستدينة أن تسدّه بالعملة الصعبة بأسعار عالية وبالتالي لا بد أن تهبط عملتها وتضرب في السوق العالمي وليس لها إلا أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي فيتحكم حينئذ في عملتها حسب ما يريد أي حسب سياسة أميركا المتحكّمة به. أما إن كان القرض طويل الأمد فدائماً نجد المُدين يتساهل في تحصيل أمواله حتى تتراكم وتتضخم ليخضع البلد المستدين لسياسته ولما يريد ويتحكم به بالسياسة التي يريد ويكون باباً له لاستعمار ذلك البلد الذي يضطر في النهاية حين السداد وعدم وجود أموال منقولة لديه أن يسدد من الأموال غير المنقولة من مصانع وأراضٍ... الخ.
وفي الختام نقول:
إن وضع سياسة اقتصادية لتنمية ثروة البلاد وتوفير الحاجات المادية لها أمرٌ بديهي وضروري ولا يستغنى عنه، ولكن هذه السياسة لا تكون وفق توجيه من أعداء المسلمين وطبق مخطط استعماري معين مدروس يجعل البلاد رهينة في يد الدول الاستعمارية الغربية.
ونحن نعلم أن الإسلام قد جاء رسالة عالمية للناس كافة، وبدأت الفتوحات الإسلامية لنشر هذا المبدأ وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وضمان الحياة الهنيئة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
دخل الناس في دين الله أفواجاً في مشارق الأرض ومغاربها، واجتمعوا على عقيدة واحدة صحيحة، وذابت القوميات وتلاشت الفوارق الطبقية، ووضعت شؤون المال وأحكام الاقتصاد في موضعها، فما كان هناك من غني متكبر ولا فقير مستذل.
إنهم كانوا يدركون معنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وكانوا يدركون قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «والله لا يؤمن من بات شبعاناً وجاره جائع وهو يعلم» وكانوا يدركون معنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا ». الكَلّ: الثّقل مِن دَين وعِيال.
إن حرمة الربا صريحة في القرآن الكريم: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة/275]، وحرمة كنز المال صريحة في القرآن الكريم: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة]، وحرمة تداول المال بين فئة الأغنياء صريحة في القرآن الكريم: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر/7].
بعد هذا لا مجال لوجود احتكارات ضخمة، ولا لوجود ديون تستغرق الإنتاج المحلي أقساطها وفوائدها. ولا وجود لفئة تتربع على عرش المال والاقتصاد، وبقية العالم يئن تحت وطأة الجوع والفقر والذل.
وتحقيق كل ذلك مرهون بإعلان الخلافة وتطبيق الأحكام الشرعية، والتقيد بالحلال والحرام، والتطلُّع لليوم الآخر عند العمل للدنيا.

د. نبيل الحلبي