إن الوضع الدولي الراهن يفتح أفق السياسة نحو بعد جيو إستراتيجي واسع للنشطاء السياسيين والجمعيات الحقوقية والإنسانية وحركات التحرر في العالم. إذ أن حركات المطالبة باستقلال إقليم كتالونيا وقبله الباسك في الجزيرة الإبيرية، يبعث بإشارات قوية للأنظمة في الجنوب. فالمغرب نموذجا مهدد بالانقسام بناء على مطالب الصحراويين الانفصاليين وحركة الأمازيغيين المغاربة، فمقارنة و مقاربة الوضع بين أسبانيا و المغرب، مرورا إلى الوضع في شمالي مالي، والمحاولات الجادة من أمريكا للتدخل قصد حسم الموقف لصالح باماكو بدعم من مدريد والرباط سيواجه بامتناع جزائري ستعارضه بالضرورة باريس، لذلك إن خلطا للأوراق سيعقد الوضع في إقليم الصحراء ومهام المنيرسو بعد محاولات المغرب لتغيير اسم المبعوث الأممي في ملف الصحراء الغربية، غير أن واشنطن ترى في وضع الإقليم مساحة تحرك حيوي لمصالحها أمام تهديد وتحدي تنظيم القاعدة في منطقة الصحراء الكبرى والساحل، فرؤية واشنطن متطابقة مع رؤية الإليزيه، الشيء الذي يجعل الاشتراكيين في فرنسا يعيدون حسابات المرحلة حول مستقبل سياستهم في الشمال الأفريقي، فتراجع الحزب الاشتراكي أمام بعد الأهداف يخدم المرحلة لصالح الرباط.
لذلك إن محاولات عزل حركات الانفصال بسحب الدعم الدولي لها ، سيعمل على تقويتها أكثر، وبسبب الدعم الشعبي لها، فالشعوب تريد الاستقلال عن سلطات مركزية نهبت مقدرات تلك البلدان ..إلى ذلك ، إن تطورا لهكذا أوضاع سيدفع بأكراد العراق نحو المطالبة الجادة بالاستقلال عن سلطة بغداد، إذ أن ذلك يعتبر النتيجة المنطقية لحصولهم على حكم ذاتي في مرحلة سابقة، فالحكم الذاتي هو خطوة أولى في طريق الاستقلال التام، لذلك منحى تصاعد حركات الانفصال في كتالونيا والباسك والصحراء ومناطق الأكراد في تركيا، وسوريا في مرحلة قادمة، والأمازيغيين في الشمال الأفريقي، ينذر بتقسيم جديد للأراضي تغذيه الإثنية العرقية والاختلافات الثقافية، مما يعيد نظريات العلوم السياسية، إلى مربع رسم خرائط جديدة في وضع يلفه الغموض حول مستقبل السياسة الدولية. إذ أن دويلات جديدة تلوح في الأفق، مع نهاية القرن الحالي. مما سيجعل ملامح سياسات جديدة تتضح ومعها تغييرا لمواقع الدول العظمى، في هذا السياق سيبرز وضع متقدم لحلف "بريكس" وتراجع للولايات المتحدة،وانحصار لمد الاتحاد الأوروبي بسبب تدهور اقتصادات دول من مجموعته الاقتصادية..إلى ذلك، إن هذا الوضع سيخدم منطقة آسيا الكبرى، غير أن هذه التغييرات التي قد توجدها السياسة في منطقة الشمال الإفريقي، يمكن أن تستثنى منه أنظمة أصبحت توصف بالشرعية ، كالأنظمة الجديدة في تونس ومصر وليبيا. إلا أن طرح برنامج ثاني لحركات الاحتجاجات المستمرة من جديد ، قد يغير من هذه الملامح لكن في منطقة الشرق الأوسط. غير أن الهوليدنغ العالمي أو الحكومة العالمية المكونة من رؤوس الأموال الضخمة، بزعامة الرؤساء الأمريكيين، قد ترى في ذلك تهديدا لمصالحها الاستراتيجية ، وتوسعاتها الاقتصادية. مما يكرس لخبطة لمواقع النفوذ الاقتصادية، ويجهد أقسام الاستخبارات التي تنشط في دراسة الأسواق. لذلك لوحظ أن مدريد ومعها عواصم أوروبية متأزمة اقتصاديا حولت جزء كبيرا من مهام مكاتبها الاستخبارية إلى أولوية دراسةالأسواق العالمية. فتحول أولوية الدول نحو هذا البعد يكشف أن واشنطن غير مهتمة بتقدير الموقف، رغم وثوقها من عدم تعافي اقتصادها.مما يؤكد أن جدلية الدولار تنعكس باستمرار على الأورو، ويجعل مستقبل الين الصيني والروبل الروسي في حالة انتعاش دائم. فهل ستستفيد بكين من أخطاء الولايات المتحدة المتعلقة بسوء الإنفاق و نمط الحياة الرأسمالية التي لا حدود لها في تغيير أنماط الحياة. ليتبين أن مفاتيح الحلول مفقودة في واشنطن، وهو ما يجعل بكين و موسكو تمتلكان مفاتيح الاقتصاد العالمي.غير أن اليابان وألمانيا ينافسان في هذا ملفات، لكن البعد الجغرافي بينهما ، يجعل الضغط حول طوكيو كبيرا من روسيا والصين و حليفتهما كوريا الشمالية. فصعود الصين كقوة اقتصادية أولى في العالم، وقد تكون العسكرية أيضا بتمدد حلف "بريكس" هو ما دفع بفلاديمير بوتن في هذا الاتجاه بعد كشف ورقة ضمت مختلف الفاعلين الروس بتطوير الاقتصاد الروسي في حدود العشرية القادمة. مما ينعكس على السياسة الدولية في الموقف السوري الراهن، والذي يثبت أن إرادة موسكو وبكين باتت أقوى من إرادة واشنطن، وفي ذلك يتنافس الكبار، ويبرز صراع الإرادات. فهل تستطيع الدول الصغرى والمتوسطة ممارسة ألعاب الكبار في مرحلة تحولات دولية؟ ربما ، لكن بصعوبة كبيرة ، ومخاطر أكبر.
نزار القريشي
*باحث مغربي في العلوم السياسية