من معالم القدس الشريف

عبد المؤمن كامل الحكيم

من كتاب رحلة مصري إلى فلسطين ولبنان ومناظر المسجد الأقصى وجميع المشاهد الدينية والأثرية، القاهرة: المطبعة السلفية، 1924.

بعض معالم القدس وجانب من ذكريات المجد العربي

متى وصل المسافر في طريق القدس إلى "وادي صرار" مستقبلاً بيت المقدس، موجهاً وجهه نحو قبلة المسجد الأقصى تنفعل نفسه انفعالات شتى، مرجعها إلى طبيعة الأرض التي بارك الله حولها، وقد ورد في القرآن الكريم: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ...(1)}(الإسراء) . يرى الراكب- في القطار- الجبال الكثيرة السامقة وعليها الشجر القائم من الزيتون والأراك والتين والبرتقال والليمون. ويرى العنب بين طيات الجبال ومرتفعاتها، على أبواب المغارات أو في أنفاق بعيدة... ويرى أن الجبال الصفر والسود والغرابيب من الأرض مورد رزق لأهل "دير الشيخ" وسكان "بتير" وسكان القدس والبلاد المجاورة لها. ويرى الخضر، على اختلاف أشكالها، تنبت وتثمر في أحواض من الأرض تكتنفها الجبال. ويرى الزراع يحرثون الأرض وهي غير مستوية ويقيمون عليها "البتون"، وهي كلمة اصطلح عليها الزراع في الوجه البحري بدلا من كلمة الحد أو الحدود، حتى لا يتسرب الماء منها إلى الزراعة التي بجوارها أو أسفل منها. ويرى الرجال يملأون الروايا أو "التنكات" من الآبار يبيعونها لسكان المدينة، ويرى النساء والبنات وهن يحملن المشنات بالخضر أو الفاكهة على رؤوسهن. كل ذلك من هذه الأرض التي باركها الله.
فإذا أشرفت على المدينة ولاحت لك منارات المسجد الأقصى وقباب مسجد الصخرة وكنيسة القيامة والأماكن المقدسة، ثار في نفسك ثائر ذكرى ذلك المجد العربي القديم، ذكرى خروج أهل مكة والطائف وهوازن وقبائل اليمن من بلادهم تحت إمرة الفاتح العظيم عمرو بن العاص بوصية من الخليفة أبي بكر الصديق جاء فيها: "اتق الله في سرك وعلانيتك، واستحيه في خلواتك، فإنه يراك في عملك. وقد رأيت تقدمي لك على من هم أقدم منك سابقة، وأقدم حرمة فكن من عمال الآخرة، وأرد بعملك وجه الله. واسلك طريق ايلياء، حتى تنتهي إلى أرض فلسطين وإياك أن تكون وانياً عما ندبتك إليه، وإياك والوهن، وإياك أن تقول جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو، ولا قوة لي به. واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك، ولا تداخلك نخوة الشيطان فتقول أنا ولاني أبو بكر لأني خيرهم .

مسجد الصخرة وبعض معالم جبل الطور

إن الصخرة كانت في بداءة الأمر بيدرا لأحد اليبوسيين من سكان فلسطين الأقدمين، فجاء النبي داود عليه وعلى الأنبياء الصلاة والسلام وبنى عليها مذبحاً لتقدمة القرابين، ثم بنى سليمان الحكيم هيكله المشهور حيث قبة الصخرة، وهي التي ورد بشأنها الحديث الشريف: "مسجد الصخرة قطعة من الجنة". وقد عرف قدره سلاطين بني عثمان فرمموه عدة مرات، وغير السلطان سليمان القانوني نوافذ الصخرة فصارت آية من الآيات الفنية، ولا تزال باقية للآن تشهد للمصلحين بالفضل العميم. وفي الجهة الشرقية لمسجد الصخرة يوجد قبة بها منبر ومحراب. وقد كتب على المنبر اسم صلاح الدين الأيوبي أيام الحروب الصليبية. وفي الجهة الشمالية قبة أخرى بها منبر ومحراب، وكذلك الحال في الجهتين الغربية والجنوبية. وبالجنوبية محلات للصلاة وللإقامة، فإذا نزل الزائر من سلم صغير إلى أرض المسجد الأقصى يجد آثار أشجار قديمة. وقبل الوصول إلى المسجد يرى بئرا كبيرة مزدحمة بالناس. ومنها يستقي أكثر سكان القدس. والسقاءون يتساعدون في جر الدلاء بطريقة جميلة، وقد شربنا من مائها في يوم صائف فشعرنا بلذة، كما نشرب من الماء المثلج في القاهرة ويحيط بالمسجد سور عظيم كان سياجا للمسلمين في أيام الحرب.
ويرى الناظر فيه في الجهة الشمالية كنيسة السيدة مريم، وهي من الكنائس الأثرية الفخمة. ويرى جبل الطور، وهو يطلق عليه اسم جبل الزيتون بعد صعود المسيح عليه صلوات الله، وكنائس الروس وهي من أبدع الكنائس وقبابها السبع مغطاة بالذهب. وللمسلمين عدا ذلك مقامات الأنبياء ومزاراتهم. فعسى أن مصر التي اشتهرت بالإحسان من قديم الزمان، والتي لها الأثر الخالد في الحرمين الشريفين والمزارات والمساجد، تمد يدها أولا لترميم الحرم الشريف القدسي ومسجد الصخرة، ولبناء تكية ومدرسة في القدس الشريف، يلجأ إليهما الفقراء فيجد العاجز منهم بلغة تقيه شر الجوع ومكانا مصريا يأوي إليه ومدرسة يتعلم فيها الأبناء العلم، وتقر بها عين الشرق كما قرت بها عين الغرب بما فيها من معاهد العلم التي أشرنا إليها. بارك الله في همة أبنائها الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.

جمال الحرم القدسي وجلال مبانيه

للمبانى التي منها الحرم الشريف جمال وجلال يشعر بهما حالا كل من يتاح له التمتع بمشاهدته أيا كان، سواء في ذلك العالم والجاهل، الكبير والصغير، المسلم وغير المسلم. فإذا سرح الطرف متأملا في عجائب صنعتها ازداد تأثره واتسع شعوره، وحلق وجدانه مرتقيا من الحسن إلى الأحسن، ومن السامي إلى الأسمى، فيخشع قلبه وتحل عليه روحانية لطيفه تسمو بنفسه إلى إدراك حقائق الدين ودقائق معانيه ونبيل مقاصده، إلى غير ذلك مما يدل على بلوغ فناني العرب والمسلمين الغاية القصوى في الإتقان والإبداع.
فالداخل إلى الحرم المكرم من أي باب من أبوابه المباركة تأخذه روعة المقام الشريف، إذ ينبسط أمامه مشهد من مشاهد السعة والصفاء رحب فسيح، ينشرح له الصدر، وينجلي بمرآه الذهن، فلا يلبث النظر أن يرسل رائده إلى ما حوله من المباني الفخمة المتنوعة بتناسب تام، من مربع إلى المسدس إلى المثمن إلى مستطيل إلى كروي إلى أسطواني... على أشكال وأوضاع متلائمة آخذ بعضها برقاب بعض تسر الناظرين، وتسبح بحمد رب العالمين.
وترى أروقة ممتدة على جوانب الساحة يتخللها النور والهواء فتنزل على النفس السكينة والهناء، وقبابا عظيمة تحنو على ما تحتها من المعابد ولا حنوّ الأم على فطيمها، وأساطين شاهقة ترفع ما فوقها بقوة ومتانة، وأعمدة هيفاء مختلفة الأشكال والألوان، قامت صفوفا متزاوجة توحي إلى القلوب الاحترام وحب النظام، ومآذن تخترق الفضاء، وتمعن في العلاء لتكون رسولا بين الأرض والسماء، ومناديا ينادي الناس كل يوم خمس مرات (بحي على الصلاة، حي على الفلاح) ومقاصير وفساقي، وأدراجا ومراقي، ومنابر خاشعة، تتلى عليها المواعظ الحسنة، ومحاريب ساكنة يستقبل فيها المصلون وجه ربك ذي الجلال والإكرام، ويذكرون فيها اسمه تبارك وتعالى في الغدو والآصال.
وكل ذلك قد أحكم بناؤه من حجر منقوش، أو مرمر مسنون، أو خزف مصقول، أو خشب منجور، أو صفر مطلي بالفضة أو مكسو بالتبر، أو فص مذهب يعلوه التزيين والتلوين، والتشجير والتزهير، والتذهيب والترصيع، والوشي والزخرفة والتنميق. فإذا أشرقت الشمس وامتزج نورها بتلك التراكيب الهندسية البديعة رأيت لها لألاء يأخذ الأبصار ويملأ الجوانح وينقل النفوس إلى نعيم قدسي لا يدرك كنهه، ولا يعرف سره، فتبارك الله أحسن الخالقين

سور وأبواب الحرم القدسي

يقع الحرم القدسي الشريف على مساحة مربعة طول الجهة الغربية منها 490 متراً، والشرقية 474 متراً، والشمالية 321 متراً، والجنوبية 283 مترا. يحيط بها سور يتراوح ارتفاعه بين ثلاثين متراً عند الزاوية الشمالية الشرقية، وأربعين متراً في الجنوب الشرقي، ويبلغ بعض الحجارة فيه نحو خمسة أمتار طولاً في أربعة أمتار عرضاً.
وحول السور من جهة الغرب والشمال أروقة فسيحة معقودة يتخللها بعض أبواب الحرم، وهي أربعة عشر باباً، المشروع منها أحد عشر، وهي: في الجهة الشمالية: باب الأسباط، وباب حطة، وباب شرف الأنبياء أو الدويدار (العّم). وفي الجهة الغربية: باب الغوانمة (وكان يسمى قديما باب الخليل) وباب الناظر أو البصير (كان يسمى قديما بباب ميكائيل) وباب الحديد، وباب القطانين، وباب المتوضأ، وباب السلسلة والسكينة (وهما متلاصقان) وكان باب السلسلة يعرف قديما بباب داود، وباب المغاربة (وكان يسمى بباب النبي). ومن الأبواب غير المشروعة بابا الرحمة والتوبة المعروفان بباب الذهب وهما في السور الشرقي للحرم الشريف، وباب آخر في السور القبلي

مسجد الصخرة وقبته وأهم معالمه

شيد جامع الصخرة الشريفة على صحن مربع مفروش بالبلاط المصقول طوله من القبلة إلى الشمال أكثر من عرضة من المشرق إلى المغرب، وارتفاعه ثلاثة أمتار، يصعد إليه بأدراج من الجهات الأربع: اثنان منها في الجهة الشمالية، وواحد في الجهة الشرقية، واثنان آخران في الجهة الجنوبية، وثلاثة في الجهة الغربية. وقد عقد على كل درج من أعلاه قناطر هيفاء، محمولة على أعمدة من رخام وأركان من البناء، فكأن كل قنطرة منها إطار يبدو منه للرائي عن كثب منظر جامع للقبة وبدائعها الرائعة. والقبة قائمة على بناء فخم مثمن، ذرع كل تثمينة منه تسعة وعشرون ذراعاً وثلث الذراع أو عشرون متراً وأربعون سنتيمترا. وقد كسي القسم السفلي من ظاهره بالرخام الأبيض المشجر القاشاني البديع الذي يترقرق فيه ماء الألوان المتزاوجة من لازوردي وأخضر صاف قاتم، وأبيض ناصع، يعلو ذلك شبه إفريز رسمت عليه آي القرآن الكريم بخط جميل، وقد صنع هذا القاشاني العجيب في أيام السلطان سليمان القانوني سنة 969 للهجرة. وللقبة سقفان من خشب (التنوب) أحدهما فوق الآخر بينهما خلاء متسع فأما الخارجي منهما فمكسو بشقائق الرصاص من الخارج وأما الداخلي فمدهون مذهب، وسيأتي وصف ذلك. وتحتوي كل تثمينة من البناء على سبع طاقات للتي لا باب فيها وعلى ست للتي لها باب والطاقات المحاذية لأطراف التثمينات مسدودة كلها والأخرى مركب عليها الزجاج والشبابيك الحديد وشكلها الحاضر يدل على أنها جددت في القرن العاشر الهجري (أي في القرن السادس عشر للميلاد).
ولجامع الصخرة أربعة أبواب مزدوجة داخلاً وخارجاً مربعة الشكل بعقود مقوسة وهي: باب الجنة في الشمال، وباب النساء في الغرب، وباب داود أو باب السلسلة في الشرق، وباب القبلة في الجنوب. وأمام هذا الباب الأخير من الخارج رواق مفروش بالرخام عليه سقف مكسو بالقاشاني في وسطه قنطرة معقودة والسقف محمول على ثمانية أعمدة من الرخام مختلفة في النوع واللون، وللباب المذكور مصراعان ملبسان بالنحاس الأصفر المنقوش، عليها أقفال نفيسة متقنة الصنع وأما الأبواب الثلاثة الأخرى فيرجح أنها كانت مثل الباب القبلي وهي الآن لا أروقة لها. ويبلغ دور البناء من الداخل 53 مترا، وهو مقسم إلى ثلاث دوائر يفصل بعضها عن بعض صفان مستديران من الأعمدة والأركان يتألف الأول منهما من ثماني سواري مسدسة الأضلاع وستة عشر عموداً منها (أبيض وأزرق) عشرة، و(أخضر مرسيني) ثلاثة، و(شحم ولحم) ثلاثة (المراد بالشحم واللحم ما كان حجرها ذا بقع بيض وحمر على هيئة الشحم مع اللحم). والصف الثاني مؤلف من أربع سوار مربعة الأضلاع، أثنى عشر عموداً، منها سبعة ( أخضر مرسيني) وخمسة (شحم ولحم). والسواري ملبسة بالرخام المشجر والملون البديع، والأعمدة قديمة جدا وأكثر تيجانها تدل على أنها من الطراز الروماني أو البيزنطي القديم، ويربط أعمدة الصف الأول بعضها ببعض وبالسواري (بساتل)، جمع (بستلة) وهي عارضة من حديد تصل ما بين الأعمدة ولعلها فارسية. وقد وردت في كتاب مسالك الأبصار في الممالك والأمصار لابن فضل الله العمري، ملبسة بالنحاس الأصفر المنقوش المذهب وتحمل هذه الأعمدة مع جدار الجامع سقفاً مائلاً بعض الميل مدهوناً بأنواع الدهان قائماً على قناطر مرصعة بالفص المذهب متصلاً طرفة الأعلى بكرسي القبة. ويزين باطن القبة مجموعة لا نظير لها من الفصوص الملونة تمثل 64 شكلا من الزخارف على نحو ما كان يصنعه فنانو البيزنطيين، وهي مركبة على سطح موشى بالذهب يأخذ ببصر الناظر ولبه. وفي كرسي القبة ست عشر طاقة زجاج مذهبة، يعلو كلا منها طبقة من الجبس مقسمة عيونا مغطاة بقطع الزجاج المختلفة الألوان والأشكال تنفذ منها أشعة الشمس صافية ملطفة بفضل ألواح الزجاج الخارجية والمشبكات المصنوعة من القاشاني. وعلى هذه الطاقات نقوش تدل على أنها صنعت في زمن السلطان سليمان سنة 945 هجرية، كما أن المرمر الذي يكسوها إنما ركب في زمن السلطان صلاح الدين، وجدد في أيام السلطان سليمان المذكور.
والصخرة الشريفة واقعة داخل درابزين (كلمة أعجمية يمكن أن يجعل محلها كلمة كفاف بالكسر) من خشب منقوش مدهون بأنواع الدهان طولها 70 ,17 مترا وعرضها 50 ,13 مترا وارتفاعها عن الأرض، يبلغ نحو 25 ,1 متر إلى مترين، وينزل إلى المغارة التي تحتها بإحدى عشرة درجة من جهة القبلة. وعند باب المغارة قنطرة معقودة بالرخام العجيب على عمودين وبباطنها محرابان كل محراب على عمودي رخام لطيفين، وأمام المحراب الأيمن صفة تسمى مقام الخضر، يواجهها عمود رخام قائم للسقف وآخر راقد، وفي الركن الشمالي منها صفة تسمى مقام الخليل. وجميع باطن أرض الصخرة والمغارة مفروش بالرخام وفي وسط المغارة بلاطة مستديرة ينبعث عنها إذا نقر عليها رنين تتجاوب أصداؤه وهذا يدل على خلو ما تحتها. وحول الدرابزين الخشبي مصلى للنساء، وهو محاط بالقضب الحديدية من جميع جهاته، وله أبواب أربعة لا يفتح منها عادة إلا الباب الغربي الموازي لباب النساء، وهو من عمل الصليبيين أبان احتلالهم بيت المقدس

المسجد الأقصى وآثاره المهمة

يقع المسجد الأقصى جنوبي جامع الصخرة، وطوله 80 متراً، وعرضه 55 متراً، ماعدا ما أضيف إليه من الأبنية. وأول ما يقابلك من المسجد الأقصى رواق كبير أنشأه الملك المعظم عيسى بن أبي بكر ابن أيوب صاحب دمشق سنة 634 هجرية، وجدد من بعده، وهو مؤلف من سبع قناطر عقدت على ممر ينتهي إلى سبعة أبواب، كل باب يؤدي إلى "كور" من "أكوار" المسجد السبعة، وللمسجد عدا هذه الأبواب باب في جهة الشرق، وآخر في جهة الغرب ومدخل إلى المكان المعروف بجامع النساء، فيكون مجموع ما للمسجد من الأبواب عشرة. والبناء قائم على خمسة وأربعين عموداً، منها ثلاثة وثلاثون من الرخام، واثنا عشر مبنية بالأحجار، وهي تحت "الجملون" (من أوضاع العامة وهي تعني السقف المحدب)، والعمود الأخير مبني بالحجارة أيضاً، وموضعه عند الباب الشرقي تجاه محراب زكريا. وهذه الأعمدة قديمة نقلت في الغالب من أنقاض أبنية متنوعة أقدم عهداً من الحرم. وفوق الأعمدة قناطر عريضة حديثه العهد يربط بعضها ببعض أخشاب ضخمة مستطيلة، وفوق القناطر صفان من الطاقات، العلوية منها تفتح على الخارج، والسفلية على "الأكوار" داخل المسجد، وباطن السقف مكون من عوارض كلها من الخشب. وعدة ما في المسجد من السواري أربعون، وهي ضخمة مربعة الشكل مبنية بالحجارة.
وبأقصى البناء من جهة الجنوب قبة مزينة بالفصوص الملونة المذهبة، وهي مم رممه صلاح الدين الأيوبي، وذلك في سنة 584 هجرية، كما إنه رمم أكبر جناحي المسجد. والقبة والجناح على الغالب إنما صنعا في خلافة المهدي بعد تهدم المسجد بفعل الزلازل. وهي كقبة الصخرة من خشب مكسوة بصفائح الرصاص من ظاهرها وبالفص المذهب من باطنها. ومجدد هذه التزيينات هو الملك الناصر محمد بن قلاون سنة 728 للهجرة كما يفهم ذلك من الكتابة التي عليها. وهناك آيات قرآنية كتبت بخط كوفي على جانبي المحراب. والمحراب قائم على أعمدة لطاف من المرمر وبجانبه المنبر وهو من الخشب المرصع بالعاج والابنوس، أمر بصنعه خصيصا لبيت المقدس الملك العادل نور الدين الشهيد وهو بحلب سنة 564 هجرية، فلما فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين أمر بإحضاره ونصبه في المكان الموجود به حالاً.
ويقابل المنبر دكة المؤذنين، وهي على عمد من رخام في غاية الحسن، وبداخل المسجد من جهة الغرب جامع النساء أو الجامع الأبيض، وهو عبارة عن عشر قناطر على تسع سوار في غاية الأحكام بناه الفاطميون. ومن جهة الشرق جامع عمر وهو معقود بالحجر والجير سمي بذلك لأنه بقية من الجامع الذي بناه عمر رضي الله عنه حين الفتح. وإلى جانب هذا البناء إيوان كبير معقود يسمى مقام عزير وبه باب يتوصل منه إلى جامع عمر وبجوار هذا الإيوان من جهة الشمال إيوان لطيف به يسمى محراب زكريا عليه السلام وهو بجوار الباب الشرقي. وفي صحن المسجد الأقصى شمالا بركة مستديرة من رخام سورت بالقضب الحديدية يقال لها الكأس يأتيها الماء بأنابيب خاصة من عيون جارية بالقرب من برك المرجيع المسماة ببرك سليمان أهمها عين عطاب ووادي الآبار وغيرهما. ومنها يتوضأ المصلون.
ومن الآثار المهمة في الحرم الشريف: البناء السفلي المعقود بالحجر والجير المعروف عند الإفرنج بإسطبل سليمان عليه السلام وهو عبارة عن مهد عيسى ومحراب مريم والعقود الواسعة التي يقوم عليها المسجد الأقصى. وكذا البراق الشريف، وهو في السور الغربي وجامع المغاربة، والمدرسة النحوية (المعظمية) وفيها اليوم دار كتب المسجد الأقصى، وهي من أبنية الملك المعظم (سنة 304هـ)، ومنبر القاضي برهان الدين بن جماعة ومحرابه وقبة السلسلة، وهي شرقي قبة الصخرة وعلى شكلها، صنعت في أيام عبد الملك بن مروان. وقبة المعراج (سنة 597هـ) وسبيل قايتباي (سنة 887هـ) وما يحيط بالحرم الشريف من المدارس القديمة كالمدرسة التنكزية وفيها اليوم المحكمة الشرعية، والمدرسة المنجكية، وفيها المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والرباط المنصوري في باب علاء الدين وغير ذلك من الآثار الإسلامية والأماكن التاريخية. كل ما أوردناه من وصف الحرم القدسي مأخوذ من البيـان الذي نشره المجلس الإسلامي الأعلى في القدس

تاريخ الحرم القدسي الشريف

للمكان الذي شيد عليه المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة "تل موريا"، منزلة دينية سامية من أقدم أزمنة التاريخ يقدسها المسلمون والمسيحيون واليهود، حتى الوثنيون. ويظهر من شكل الساحة التي عليها قبة الصخرة أنها كانت في بداءة الأمر بيدرا لأحد اليبوسيين (سكان فلسطين الأقدمين)، وقد بنى فوقها سيدنا داود عليه السلام بعد فتحه البلاد مذبحا تقدم فيه القرابين لله تعالى. وفي سنة 1013 ق. م (حسب الأساطير اليهودية) أمر سيدنا سليمان عليه السلام بإنشاء قصر له حيث المسجد الأقصى، وهيكل فخم حيث قبة الصخرة الشريفة، ولم يكمل البناء إلا بعد وفاته بمدة طويلة. وقد دمره الكلدانيون سنة588 ق. م. ، فحاول اليهود عقب عودتهم من الأسر تجديده سنة 516 ق. م. فلم يصنعوا شيئا مذكوراً.
وفي السنة العشرين قبل الميلاد شرع هيرودس الكبير بتشييد هيكل فخم وبرج عال (انطونية) في المكان نفسه فلم يوفق إلى إتمامه وبقى إلى سنة 70 ميلادية، إذ دمره جنود الرومانيين حرقا أبان محاصرة الإمبراطور طيطوس بيت المقدس واستيلائه عليها. وبناه الإمبراطور أدريان سنة 130 م في مدينة إيلياء، وأمر بتشييد زون (نصب) كبير للمشتري (إله الحرب) اثني عشري الشكل، كالذي ترى على صورته بعض النقود القديمة، فنصب فيه صنما للمشتري وآخر (لدبوسقورس) أو صنم التوأمين (كاستور وبلوكس)، وأقام تمثالا لنفسه بالقرب من الصخرة المباركة

قبة الصخرة المكسوة بالذهب

في سنة 614 م اكتسح الفرس البلاد فخربوا بيت المقدس وقضوا على ما فيها من المعابد والكنائس، لكن جيوش المسلمين لم تلبث أن فتحت بيت المقدس سلما سنة 15 هجرية و637 م بحضور الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه. فلما دخلها ذهب توا إلى مكان الحرم الشريف وأزال ما كان فيه من الأقذار.
ولما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وحيل بينه وبين الحرمين الشريفين، لقيام خصمه إذ ذاك عبد الله بن الزبير خليفة في الحجاز، ولى وجهه شطر القبلة الأولى، فأمر بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة في بيت المقدس، ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين ووكل على العمارة أبا المقدم رجاء بن حيوة بن جود الكندي وكان من العلماء الأعلام ويزيد بن سلام مولى عبد الملك من أهل بيت المقدس وولديه. ويقال إن عبد الملك وصف ما يختاره من عمارة القبة وتكوينها للصناع فصنعوا له وهو في بيت المقدس القبة الصغيرة التي هي شرقي قبة الصخرة (قبة السلسلة) فأعجبه تكوينها وأمر ببنائها كهيئتها.
وبقيت بعد الفراغ من عمارة الحرم مائة ألف دينار فأمر بها عبد الملك جائزة لرجاء ويزيد فكتبا إليه: "نحن أولى أن نزيده من حلي نسائنا فضلا عن أموالنا، فاصرفها في أحب الأشياء إليك"، فكتب إليهما بان تسبك وتفرغ على القبة فسكبت وأفرغت عليها فما كان أحد يقدر أن يتأملها مما عليها من الذهب وهيئا لها جلالا من لبود توضع من فوقها فإذا كان الشتاء ألبستها لتكنها من الأمطار والرياح والثلوج. وكان الفراغ من عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في سنة 72 من الهجرة، وقد قرن اسم عبد الملك بهذا الأثر الخالد منقوشا بالفسيفساء عند مدخل الصخرة من الباب الجنوبي بعبارة هذا نصها: بنى هذه القبة عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين تقبل الله منه ورضي عنه آمين). يظهر من اختلاف الخط واللون فيما أشرنا إليه هلالين أنه من الإضافات التي حدثت بعد هذا التاريخ

عمارات الحرم القدسي منذ العصر العباسي

في سنة 130 هـ سقط شرقي المسجد الأقصى وغربيه في الرجفة التي حصلت في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي فخوطب بلزوم عمارته، فأمر بقلع صفائح الذهب والفضة التي كانت على الأبواب فقلعت وضربت دنانير ودراهم وأنفقت عليه حتى فرغ. ثم حصل زلزال سنة 158 هجرية، تهدم فيه البناء الذي كان أمر به أبو جعفر، فلما كانت خلافة المهدي أمر ببنائه فانقص من طوله وزيد في عرضه، وذلك في سنة 169هـ. وأخيرا جددت عمارة قبة الصخرة في أيام المأمون (216هـ) كما جاء في الكتابة المذهبة الواقعة على البابين الشرقي والشمالي من الداخل. ثم جاءت زلزلة ثالثة سنة 407هـ تهدمت من جرائها قبة الصخرة وبعض الجدران الواقعة في الشمال الشرقي من الساحة المحيطة بها فقام الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم بأمر الله برفعها وتجديد عمارتها سنة 413 هـ، على يد علي بن أحمد كما نقش على الأعمدة الواقعة داخل القبة. ومما زيد فيها في زمن الفاطميين البناء المسمى بجامع النساء.
ولما احتل الصليبيون بيت المقدس حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة والمسجد الأقصى إلى منزل لسكنى ملكهم وسموا ما تحت الأقصى من الأبنية باسطبل سليمان وربطوا فيه الخيل فجاء صلاح الدين الأيوبي وهدم ما أحدثوا من الأبنية والسواري وأعاد الحرم الشريف إلى ما كان عليه وذلك سنة 583هـ. وكان الملك العادل نور الدين الشهيد قد أعد منبرا عجيب الصنعة برسم القدس صنعه حميد بن ظافر الحلبي وسليمان بن معالي من خشب مرصع بالعاج والأبنوس، وعليه تاريخ يرجع إلى سنة 564هـ، وقد أدركته المنية قبل الفتح فأحضره صلاح الدين من حلب وجعله في المسجد الأقصى، وهو الموجود في عصرنا هذا. وأمر بترميم محراب الأقصى وكتب عليه بالفصوص المذهبة ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد هذا المحراب المقدس وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على النقوش مؤسس عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة وإجزال حظه من المغفرة والرحمة.
وفي سنة 634 قام المعظم عيسى بن أخي صلاح الدين بعمارة واجهة المسجد الأقصى الشمالية والرواق الموجود في مدخله من تلك الجهة. وفي سنة 668هـ اعتنى السلطان الملك الظاهر بيبرس بعمارة المسجد ورمم صدع الصخرة الشريفة وجدد فصوصها التي على الرخام من الظاهر والتي على قبة السلسلة. وعمر السلطان الملك المنصور قلاون الصالحي سنة 686 سقف المسجد الأقصى من جهة القبلة مما يلي الغرب، وفي أيام السلطان الملك العادل كتبغا في سنة 665 جدد عمل فصوص الصخرة الشريفة وعمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة. وفي أيام السلطان الملك المنصور لاجين جددت عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى، وعني السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون أبان سلطنته الثالثة بعمارة السور القبلي الذي عند محراب داود عليه السلام ورخم صدر المسجد الأقصى وفتح به الباكين اللذين عن يمين المحراب وشماله (731هـ). وجدد تذهيب القبتين قبة المسجد الأقصى وقبة الصخرة سنة 718هـ. وعمر القناطر على الدرجتين الشماليتين بصحن الصخرة التي إحداهما مقابل باب حطة والأخرى مقابل باب الدويدارية وعمر باب القطانين بالبناء المحك. وفي أيامه أيضاً عمر الأمير تنكز الناصري نائب الشام البركة الرخام بين الأقصى والصخرة، والرخام الذي في قبلة المسجد عند المحراب، وكذا الجانب الغربي سنة 728هـ. وفي أيام الملك الأشرف شعبان بن الأمير حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاون عمرت المنارة التي عند باب الأسباط بمباشرة السيفي قطلوبغا ناظر الحرمين الشريفين في سنة 768هـ. وكذا تم تجديد الأبواب الخشب المركبة على الجامع الأقصى والقناطر التي على الدرجة الغربية صحن الصخرة المقابل لباب الناظر في (778هـ). وفي سلطنة السلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق عمرت دكة المؤذنين التي بالصخرة تجاه المحراب إلى جانب المغارة بمباشرة ناظر الحرمين ونائب القدس الشريف الناصري محمد بن السيفي بهادر الظاهري في 789هـ. وفي أيام الملك الظاهر أبي سعيد جمقمق العلائي الظاهري احترق سقف القبلي من جهة الغرب، من جانب القبة فأخمدت النار وعمر السقف بأحسن مما كان. وفي سنة 877هـ أمر السلطان الملك الأشرف أبو النصر بعمارة الدرج الموصل إلى صحن الصخرة الشريفة تجاه باب السلسلة المجاور لقبة المدرسة النحوية، وفي سنة 884 جدد رصاص قبة الأقصى ولم يكن من حيث الجودة والإتقان كالقديم، وفي سنة 887هـ أنشئ سبيل قايتباي المقابل لدرج الصخرة الغربي على بئر هناك وكذلك الفسقيتان المجاورتان له.
وقد تمت في الحرم الشريف عمارات متعددة في زمن سلاطين بني عثمان، كزجاج شبابيك الصخرة العجيبة فإنه من آثار السلطان سليمان القانوني سنة 945 هـ، كما تدل على ذلك الكتابات المرسومة على زجاج فإنه صنع في زمنه 969 هـ. وهذا التاريخ مثبت في صدر محراب قبة السلسلة والنقوش والكتابات النفيسة.

عن موقع المسالك