حدثنا يحيى بن جعفر قال: جاء رجل من أقصى المدينة، في وفد السفينة. حسن المنظر، مجهول المخبر. ولما أن بلغ مجمع الأدباء، وندوة البلغاء قال: يا ابن أبي اليماني، أبْلَغك الله الأماني! بلغني أنكم تسألون عن معالم ذوي البطولة، ومآثر الرواة أهل الفحولة. قال ابن أبي اليماني: الأمر ما بلغك، فهل نجد عندك شفاء، أو نلقى عندك دواء؟ وهؤلاء أهل الكفاية، فأقبلْ نبلغ الغاية! لكن مَن الرجل؟ واعذرْ من جهل! قال: أنا الأصلع، من بني أجدع. إن شئتم حدثتكم عن أبي زيد السّروجي، ولي عليكم مُؤنة مقامي وخروجي. قال ابن أبي اليماني: لك ما شرطت، إن وَفيت. فقلْ نسمعْ! يا أصلع! قال: هو شحاذ بليغ، كلامه كالتنبيغ. مُكدٍ فصيح، ذو نهْض نجيح. داهيةٌ حُوَلة، خَبَّ مَن لا حول له. جُرْبُزٌ ماكرٌ، خداع ماهر.
قال ابن أبي اليماني: أفمعروف أبو زيد هذا؟ وما مَكْرُه ولماذا؟ قال الأصلع: قيل إن السّروجي ورد البَصرة، وعزم أمره. ثم دخل مسجد بني حرام، وما فيه غير عالم بالحلال والحرام، وطالبُ نَحو، تاركُ لَهو. فقام كهل وأظهر التوبة من ذنبه، وسأل عن كفارته، وقال:
فيا قوم هل كفارة تعرفونها ؞؞؞ تُباعد من ذنبي وتُدْني إلى ربي
ثم إنه بهر الناس بفصاحته، وأعجبهم بملاحته. والوالي يومئذ حاضر، وفضلاء القوم وذوو المنابر. فكان أن قام أبو زيد، ينتهز الصيد. وأنشأ نظما يحكي تَبدُّل الحال، وسوء المآل، بعد غزو الرّوم، ذوي الشؤم، واستباحتهم الحريم، وإتيانهم العظيم، مما لا يعلمه غير العليم. وكان مما أنشأ قولُه:
وتُرى بي خصاصةٌ ؞؞؞ أتمنى لها الرَّدى
والبلاءُ الذي به ؞؞؞ شملُ أُنسي تبدَّدا
اسْتِباء ابنتي التي ؞؞؞ أسروها لتُفتدى
فانطلت الحيلة على طالب الكفارة، فأعان أبا زيد وأجاره. ولا يبهرنَّكم العجب، فديدن أبي زيد الخَبَب. أليس القائل:
عشْ بالخداع فأنت في ؞؞؞ دهرٍ بنوه كأُسْدِ بِيشَهْ
وأدِرْ قناة المكر حتى ؞؞؞ تستدير رَحَا المعيشهْ
ثم إن المستظهر بالله، أشار بما رآه، على الحريري أبي محمد، وكان ذا أدب يُحمد. فنظَم الحريري مقامة، بزينة وشامة. وتلك هي المقامة الحرامية، أولى المقامات الحريرية. فلما أقرأها الأعيان، ألفى الثناء والاستحسان، وإعجاب ذوي البيان. وفي ذلك يقول الحريري:"فأشار من إشارته حُكم، وطاعته غُنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تِلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأوَ الضليع". وذي رواية أبي العباس الشريشي، المُشرَّف بالبيان، وفصاحة اللسان، عن الشيخ بن أزهر، عن الفقيه بن جَهْور.
قال يحيى بن جعفر: ولما حكى الأصلع حَكْيه قال: أوَفَّيْتُ أيها الفضلاء؟ قال ابن أبي اليماني: نَعم يا ابن الكرماء! وشرطك محفوظ، وبلُقياك محظوظ. قال الأصلع: فهلّا مُحدِّثٌ عن أبي الفتح، بلا قدح ولا مدح، بطلِ البديع، حَسنِ الصنيع؟