الثغر الأعظم
بقلم إسماعيل علالي

اجتمع السكوت والكلام في أحد المقاهي المسماة بالعقل في مدينة الإنسان العربي، وكان الزمن زمن سكون ، وبعد تصافحهما بالوجه، واستفسارهما عن حال الأهل والأحبة، دار بينهما الحوار التالي:
السكوت:إني أشفق عليك أيها الكلام
الكلام: لم يا نقيضي؟
السكوت:لأنك مذموم عند البشر، في كل مرة تورطهم ، وتهدم جبال الحسنات التي حصلوها بعبادات وأفعال مباحة ، إذ تأتيهم بنية من بناتك لم تبلغ الحلم ،تهوي بهم في جهنم ، ثم يجيئون عندي لأكون خلاصهم وطريقهم إلى التبرؤ من مكرك وخديعتك.
الكلام:يا نقيضي، صدقت في قولك، لكن لبناتي اللفظات وعماتهم الكلمات ،جوانب نفعية،أخرجت البشرية من همجيتك وهمجية الرمز الجاف.
السكوت:أ تزدريني وأنا سيد الحسنات التي تغنت بها أشعار البشر؟ دلني –إذن -على شيء ينقص من فضلي، فأعترف لك ؟
الكلام: إن جل ما قيل فيك من مدائح، تنمحي في رمشة العين ، بمقولة واحدة.
السكوت:وما هي؟
الكلام: أستحي من نطقها، نظرا لمكانتك الرفيعة في قلبي، فأنت نقيضي الذي لولاه لما كان لوجودي قيمة .
السكوت: أعلم يا نقيضي أننا مقولتان متكاملتان لحد التناقض والتعارض.،ورغم هذا كله فأنت ملزم بالإفصاح عن الحقيقة التي وجدتها تشينني.
الكلام: مادمت ترغب في سماع الحقيقة ، فسأسمعك قولة الحق التي قيلت في شخصكم الكريم.
السكوت مستغربا :قلها ولا تتعبني بمراوغاتك المعتادة !.
الكلام : قيل في آفتك:"الساكت عن الحق شيطان أخرس".
السكوت-تحمر وجنتاه ويرد بتعلثم-:إي نعم، رغم أن المقصود بهذا الحديث ،هو صمت المداهن والمرائي لا أنا.
الكلام: كفاك مراوغة، فنحن آفتان عظيمتان، وإن كنت أنا الذي أذم.
السكوت:تظهر عليه علامات الهزيمة والإعتراف.
الكلام -تخبره ملامح السكوت بإذعانه وإقراره الضمني، فيحور النقاش إلى جهة أخرى-:
يا نقيضي مادمنا نتوفر على مزايا ونقائص تشيننا، فلابد لنا من البحث عن العلة الرئيسة التي تفرعت عنها هذه المعرة.
السكوت متعجبا: ربما الإنسان باعتباره مالك أمرنا والمتحكم فينا !.
الكلام:هذا هو الظاهر، بيد أن إنسان هذا العصر أبتلي مثلنا بصراعات غبية ومعاناة خفية نقلته من مقام القوة إلى مقام الضحية .
السكوت:صدقت، المسكين أضحى في منزلة بين المنزلتين،إذا سكت وسم بأنه شيطان أخرس،وإذا تكلم فهو شيطان ناطق.
الكلام ضاحكا: سلمت بلاغتك، فقد وقفت بفطرتك على هادم حسناتك، وسارق فضائلي.
السكوت: من هولأقتله ؟.
الكلام:إنه الشيطان يا نقيضي، هو عدونا و عدو الإنسان والبشرية جمعاء.
السكوت: لكن فيما أعلم، فإن للشيطان مداخلا أخر، كمدخل فتنة النساء.
الكلام: أجل، لكن له مداخل سوء أخرى فضلا عن التي ذكرت.
السكوت:وماهي؟
الكلام:إنه الثغر الأعظم
السكوت مستفهما و متعجبا:ومن هو الثغر الأعظم؟ !
الكلام:إنها ثغرة اللسان، فهي عند الخناس بمثابة الثغر الأعظم الذي ينفذ من خلاله إلى الإنسان، ليزيغه عن الصراط القويم بواسطة لفظ محظور أو صمت مذموم.
السكوت: الآن عرفت علة ذ منا ،ولا مناص من الاتحاد، حتى نجنب الإنسان حصائد اللسان التي يتصيدها الشيطان.
الكلام: الحل في أن يتعلم الإنسان الحيطة من قوارص الصمت.
السكوت مقاطعا : ومن قوارص الكلام
الكلام: إي نعم، على الإنسان تحصين وجدانه ولسانه بالإستقامة، لكي يغلق الثغر الأعظم في وجه الشيطان، فيتجمل اللسان باللفظ النافع والصمت الحسن.
السكوت: لا فض فوك، لقد خلصنا إلى نتيجة مهمة، كانت من حسنات هذا اللقاء ،
فماذا تقترح يا نقيضي؟.
الكلام:أقترح رفع بيان إلى البشر نطالبهم فيه بالحرص على استقامة اللسان، قصد عرقلة مخططات الخناس.
السكوت: هيا على بركت الله ،هاك الورقة واكتب البيان لأرسله غدا إلى مختلف نقابات أعضاء الجسد.
الكلام: أرى ضرورة إرسال البيان أولا إلى اللسان لأنه سيد الثغر الأعظم
السكوت:وماذا ستقول له؟
الكلام : سأكتب له"اتق الله فينا ،فإذا استقمت استقمنا وإذا اعوججت اعوججنا".
السكوت:تربت يمينك، ودامت فضائلك، التي ما عرفتها في السابق .
الكلام:عفوا نقيضي، فأنت الحليم الحكيم، وبفضل تلاحمنا سنكبل مساعي الشيطان، وأتباعه.
السكوت:في اتحادنا قوة، ولي يقين بأن حال البشرية سيصير أفضل حالا عما كان عليه، بفضل استقامتنا واستقامة الثغر الأعظم.
الكلام: طبعا، ستكسر شوكة الخناس، إذا ما رأى اللسان قد استقام، وأشاع في الناس سكوت الحلم وحديث المنفعة، حيث السكوت في موضع الصمت والكلام في موضع الحق.

(وبعدما انتقل الزمان من السكون إلى الحركة، خرج النقيضان من مقهى العقل، وكل همهما شيوع الاستقامة في الكون...)