اغتيال الهوية

هناك شيء ما يشوش هذه الأيام على تفكيري، كلما حاولت النهوض والانبعاث، أحسست بشيء ما يجذبني إلى الوراء جذبا عنيفا، وإذا نظرت إلى المرآة. ازددت غرابة من هذه الصورة التي تظهر أمامي.
من هنا بدأ الجحيم يستعر. فصل بارد جدا، جدرانه مغطاة بطلاء رمادي قاتم، تتخللها نوافذ واسعة، يعلوها وسخ قديم. كلما مر معلم اللغة الفرنسية بين الصفوف. تتبعه رائحة كريهة، علمت فيما بعد أنها رائحة خمر رديئة.. منذ أول يوم أحسست بضيق شديد يحبس أنفاسي. لم أتعود الاقتراب من الذكور، أو مخالطتهم. أما الآن فقد أصبحت أشعر بما يشبه الإثم، حيث أجلسني المعلم بالقرب من حسن. هو الآخر لم تكن رائحته أفضل من رائحة المعلم، لكنها لا تبعث على القيء... لست أدري ما هو الذنب الذي ارتكبته؟ في سن العاشرة من عمري، ألبس ثيابا بالية، ذات ألوان باهتة، وأضع في رجلي نعلا شدت بعض أطرافه بمسامير. كانت تعجبني ثياب زميلاتي في الفصل. أحيانا أقترب كثيرا من إحداهن، حتى أقف إلى جانبها. أتخيل أنني ألبس ثيابها. ترى كيف أطلب من أبي أن يشتري لي مثلها، وكنت لا أراه إلا نادرا في المساء، جالسا يتابع أخبار الربيع العربي، منذرا، متوعدا كل من اقترب منه؟ قررت أن ألتزم الصمت، رغم كل ما أعانيه من شتم، وسب على يد حسن، وأصدقائه الثلاثة. بدؤوا معاملتهم الوحشية بالسخرية من ثيابي البالية، ثم تطور الأمر إلى الصفع والركل بدون رحمة ولا شفقة.
أخذ إحساسي بالذل، والكراهية ينسج من حولي قناعة بأنني أستحق الظلم. كرهت المدرسة كرها شديدا. أذهب إليها رهبة من غضب أبي، وليس رغبة في التعلم. لم أعد أرى فيها إلا عذابا لا ينتهي. هذه المآسي التي أعيشها في ضوء النهار، تتحول إلى كوابيس في الليل. تزداد شيئا فشيئا؛ فيزداد الحزن، ويكبر. كنت في البيت أغرق في صمت عميق، فلا أرى من أبي، وإخوتي شفقة في العين، والقلب، ولا أسمع قولا جميلا. تلك أنا، أمسيت في الدنيا بعيدة عن مرح الأطفال، بعيدة عن براءة الطفولة.
في مرحلة الإعدادي، بدأت أشعر بالثقة بنفسي تزداد، اكتشفت أنني لست الوحيدة التي تتعرض للسخرية، والاستهزاء، حيث سمعت قصصا مريعة من زميلات في الفصل. سرعان ما بعثرت الأحزان الدفينة، واشتبكت العزيمة مع الرغبة في تجاوز الخنوع، والركوع.
تطلعت إلي إحدى الزميلات يوما متسائلة: سعاد، لماذا لم تخبر أباك عما كنت تتعرضين إليه من مصائب في المرحلة الابتدائية؟
سخرت من سؤالها، لكنني أجبتها، وكأنني أخاطب الدنيا كلها: لو كانوا يعلمون أن الأسرة تحمي طفلها، ما تجرأ معلم أن يأتي المدرسة، ولحيته تقطر خمرا، ولما تعرض بعض الأطفال للإهانة، والضرب يوميا!.
قاطعتني ليلى؛ لتقول بغصة: ينبغي أن ندرك أن الأسرة هي عرض للمرض، وليست المرض نفسه. إنما هي جزء من نظام منهجي شامل، يغمض الحقيقة.
كانت ليلى تتحدث إلى نفسها. بدت الزميلات من حولها أجسادا متحجرة، فارغة من الحياة. تستمع، ولا تعي شيئا. حاصرهن الصمت منذ الصغر، ولا يزال يحاصرهن إلى اليوم. يحسب الجاهل أن بهن عشقا أو سقما.
أما أنا، فكنت مثل فرس جامح، ربطت أمام خيمة، يقدم لها الشعير بكرة، وعشيا. وإذا جيء لها بحمار من أطراف القرية، تلد منه بغلا خصيا.


13-01-2013