بشار الأسد وحكاية العصابات المسلحة

الدكتور محمد أحمد الزعبي

في الثامن عشر من شهر آذار 2011 ، وفي ماأطلق عليها " جمعة الكرامة " ، اندلعت شرارة الثورة السورية في مدينة درعا ، وانطلقت معها رصاصة عائلة الأسد الثانية ( الأولى كانت عام 1982 في حماة ) التي أودت بحياة أول شهيدين في تلك الثورة ،هما (محمود قطيش الجوابرة ،وحسام عبد الوالي عياش ) ، ثم توالت سلسلة المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية والكرامة ، لتشمل معظم قرى ومدن الجمهورية العربية السورية ، وتوالى معها مسلسل إطلاق الرصاص الحي على تلك المظاهرات ( لقد وثق المناضل سميح شقير هذه المرحلة بأغنيته المعروفة " ياحيف " ) ، وليبدأ عدد المصابين برصاص بشار الأسد وشبيحته الحي ، بالتزايد يوماً بعد يوم ، ثم يفاجئ " سيادة الوريث " الشعب السوري ، بل والعالم أجمع ، في خطابه الأول بعد اندلاع ثورة آذار المطلبية ، وذلك بتاريخ 30.03.2011 ، أي بعد أسبوعين من إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين والذي أودى بحياة المئات من الشهداء .
اعتذر بشار عن تأخره الخروج على الشعب ، ولكنه أشار إلى أن هذا التأخر كان متعمداً (حتى تتضح الصورة !!) ، وبعد أن اتضحت لديه الصورة ، تبين له أنه إنما يواجه 64000 إرهابي(عصابات مسلحة) موجودين على الأراضي السورية ، وأنه لن يوقف القتل والذبح قبل أن يقضي على هؤلاء الإرهابيين !! .

إن مانرغب توضيحه حول موضوع العصابات المسلحة ، والتي كانت بمثابة " قميص عثمان " بالنسبة له ولشبيحته ، لكي يذبحوا ويقتلوا ويدمروا ماطاب لهم الذبح والقتل والتدمير ( وهو مانشاهده اليوم ) ، وبعد أن أوشكت الثورة السورية المجيدة على طي عامها الثاني ، وبعد أن اتضحت الصورة للجميع ، مايلي :

1. لم يكن بشار الأسد غبياً ، ولا وحيداً ، ولا متسرعاً ، عندما برر إطلاقه الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين في درعا يوم 18.03.2011 ، بوجود العصابات المسلحة ، ذلك أن موضوعة هذه العصابات ( مكافحة الإرهاب !! ) إنما تمثل القاسم المشترك ، بينه وبين الدول العظمى ، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية ، ورأس حربتها في الوطن العربي " إسرائيل " ، وبالتالي فهو في رفعه لشعار مكافحة العصابات المسلحة ، إنما يقدم نفسه ، كوكيل عربي لهذه الدول العظمى ، في الحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية في الوطن العربي ، وأيضاً في حماية إسرائيل ، سواء من الشعب الفلسطيني نفسه ، أو من أية جهة عربية أو إسلامية لاتعترف بشرعية وجودها في فلسطين . إن تصريح بشار الأسد في أحد خطاباته ، بعد اندلاع ثورة آذار 2011 ، بانه ليس رئيساً لكل السوريين ، وإنما هو رئيس لمن انتخبه منهم ، أي لمن يقبل به رئيساً فقط (!!) ، إنما كان بهذا يهدد واقعياً بتقسيم سورية ، وهو مابتنا نقرأه ، في الرسائل المشفرة ، التي بدأت ترسلها البراميل المتفجرة ، والقنابل العنقودية والفراغية ، والصواريخ المدمرة من جميع الأنواع .والشبيحة المتوحشون من مختلف الأعمار . أي إنه سيحقق في القرن الواحد والعشرين مافشلت عن تحقيقه فرنسا في القرن العشرين . إن تبنيه المتواصل لأكذوبة " العصابات المسلحة " ، وإصراره على ذلك في جميع خطبه وتصريحاته ومقابلاته ، إنما يشير بصورة لا تقبل الالتباس ولا الشك ، إلى صحة توصيف الثوار لموقفه وموقف عصابته الأمني والعسكري من ثورة الشعب السوري التي انطلقت في شهر آذار 2011 بـعبارة : " نحكمكم أو نبيدكم " !! .

2. وبدوره ، فإن الرئيس الأمريكي ، باراك أوباما ، لم يكن غبياً ، ولا وحيداً ، ولامتسرعاً ، عندما وصف " جبهة النصرة " بأنها منظمة إرهابية ، لأنه كان بذلك يتنصل من وعوده الكبيرة والكثيرة ، التي جاء معظمها على لسان وزيرة خارجيته ، هيلاري كلنتون ، بأن أمريكا تقف إلى جانب مبدأي حقوق الإنسان والديموقراطية في سورية ، وأن نظام بشارالأسد ــ بنظر حكومتها / أمريكا ــ قد فقد شرعيته بانتهاكه لهذين المبدأين ، وما على بشار الأسد إلاّ أن " يرحل " فوراً .
إن وصف الإدارة الأمريكية ، " جبهة النصرة " بالمنظمة الإرهابية ، إنما يشيرـ بنظرنا ـ إلى أمرين ( أحلاهما مرّ !!) ، الأول هو إعادة بشار إلى حضن أمه الحنون ( الولايات المتحدة ) معززاً مكرماً ، بعد فترة تردد دامت بضعة اشهر ، والثاني ، هو البدء " بشيطنة " الثورة السورية ، بهدف إجهاضها ، وإجهاض كافة ثورات الربيع العربي من خلال إجهاضها ، ولا سيما الثورتين التونسية ، والمصرية ، وبالتالي "عودة حليمة إلى عادتها القديمة " ، بوقوف الدول الموصوفة بـ " الديموقراطية " إلى جانب أنظمة الاستبداد والفساد الديكتاتورية ، ضد الجماهير والشعوب التي تحكمها هذه الأنظمة ، وأيضاً خلافاً للمبادئ التي يعلنونها ، ويتغنون بها ليل نهار ، بل ويجعلونها محور برامجهم الانتخابية أمام شعوبهم وجماهيرهم ، ألا وهي مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان .

إن هذا لايعني بحال أننا ، ندافع عن جبهة النصرة ، أو أننا نتبنى شعاراتها ومواقفها ، وإنما يعني أولاً وآخراً أننا نقف إلى جانب ثورة الحرية والكرامة ، في سعيها لإسقاط نظام الأسد الديكتاتوري الأمني واستبداله بنظام مدني ديموقراطي تعددي وتبادلي ، قائم على مبادئ المواطنة المتساوية ، والديموقراطية وحقوق الإنسان .ونعتقد آملين أن موقف الثورة السورية ، بجميع فصائلها وعناصرها ، سوف يتحدد لاحقاً ، في ضوءهذه المبادئ التي تلتقي عليها كل من الشرائع السماوية والأرضية على حد سواء .

3. يتقارب موقف العديد من الدول العربية ، ولا سيما دول النفط منها ، مع الموقف الأمريكي ، في التداخل والتخارج بين ماهو معلن وما هو مسكوت عنه لدى الطرفين ، وذلك في الموقف من الثورة السورية ( ثورة آذار 2011 ) ومن نقيضها ( نظام بشار الأسد ) . وكما يرى كثير من أطراف المعارضة السورية ، سواء كقوى أو كأفراد ، أن المسكوت عنه ، عند الولايات المتحدة وحلفائها من العرب والمسلمين ، هو مساعدة كل من الثورة السورية ونظام عائلة الأسد ، على متابعة الاقتتال والاحتراب ، أطول مدة ممكنة ، بحيث تتحول " الجمهورية العربية السورية " إلى جثة هامدة ، تحتاج إعادتها إلى دورها التاريخي ، عدة عقود من الزمن ، تكون إسرائيل والمصالح الغربية طوالها في مأمن من أي تحرك سلبي ( مفترض ، أو متوهم ) ضدها ، بغض النظر عمّن يمكن أن يكون حاكم سورية في هذه العقود . إن قاعدة " بطيخ يكسر بعضه " المعروفة ، هي التي تحكم موقف أمريكا وأيضاً مواقف العديد من الدول الغربية والعربية والإسلامية ، من الثورة السورية ، ذلك أن هذه الدول تخشى ، من جهة ، من انتصار الديموقراطية في سورية على مصالحها في سورية وفي المنطقة كلها ، وتخشى من جهة أخرى ، من انتصاربشارالأسد ، والذي سيمثل عملياً انتصاراً لروسيا وإيران والصين ، ليس على الشعب السوري والثورة السورية وحسب ، وإنما أيضاً على الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ، بل وعلى حلف الناتو نفسه أيضاً . وهكذا فإن خيار ( بطيخ يكسر بعضه ) يعتبر هو الخيار الأنسب ، لهذه الأنظمة ، التي تخاف على مصالحها ، سواء من الثورة الديموقراطية السورية ،أو من التحالف الروسي ـ الصيني ـ الإيراني ، في المنطقة . هذا مع العلم أن حماية " إسرائيل " من أي خطر محتمل ، إنما يقع تطبيقياً في صلب المصالح الأمريكية والأوروبية المعنية ، التي تقف وراء هذا الخيار .

4. إن الإشكالية الحقيقية ، التي تواجه ثورة آذار 2011 السورية ، هي إشكالية " الرفض المزدوج " ،
في العلاقة الملتبسة بينها وبين " الآخر " الداخلي والخارجي . ذلك أن " الديموقراطية " التي قامت الثورة من أجلها ، تعتبر بنظر ذلك الآخر سلاحاً ذا حدين ، فهي ( الثورة ) لاترفض الفساد والاستبداد في سورية وحسب ، وإنما ايضاً في الدول الأخرى ، إنها تعتبر نفسها النموذج السياسي الأخلاقي البديل ، لكافة أنظمة الفساد والاستبداد في العالم ، ولذلك كانت مقبولة في الظاهر ، مرفوضة في الباطن ، من قبل كافة الأنظمة الشبيهة بنظام بشار الأسد الفاسد والمستبد ، ولاسيما في العالمين العربي والإسلامي .
إن هتافات وصيحات المتظاهرين في كافة المدن والقرى السورية " مالنا غيرك ياالله " إنما كانت التعبير الواضح ، عن خيبة أمل الثورة السورية ، بالمجتمع الدولي ، بكل أطرافه الدولية والاسلامية والعربية .

5. إن وصول عدد ضحايا حرب بشار الأسد ضد الشعب السوري ، الملايين ، من القتلى والجرحى والمفقودين والمعتقلين والمهجرين والنازحين ، بما في ذلك ذبح الأطفال بالأسلحة البيضاء ، واغتصاب النساء بصورة قذرة وهمجية ، أمام سمع العالم المتمدن وبصره ، بل وأمام صمته وتفرجه المريب ، ومواقفه ذات الوجهين ، ولاسيما العالم العربي منه ، إنما يؤكد التدليس والكذب والبعد عن الشرف والأخلاق ، الذي يمارسه الآن كما كان يمارسه من قبل ، الغني على الفقير ، والمسلح على الأعزل ، والإنسان الآلي على الإنسان الطبيعي ، والعالم الأول على العالم الثالث ، وبرميل النفط على قلم الرصاص ، والرأسمال المالي على الرأسمال البشري ، والبسكويت والكاتو على رغيف الخبز ، والعملة الصعبة على العملة السهلة ، وكأس الخمرة على كأس الشاي ، والمصالح غير المشروعة على المصالح المشروعة ، والقوة الغاشمة على مكارم الأخلاق ، والتعصب الديني والعرقي والطائفي على التسامح والتعايش الوطني ، والعصابات الحقيقية على العصابات المخترعة ( بفتح التاء ) ، والفاسد على الشريف ،الخ !! ، أي عملياً ما تمارسه الدول المتطورة وعملائها من الحكام الفاسدين والمستبدين ، ضد شعوب البلدان النامية كلها ،ومن بينها ــ بطبيعة الحال ــ الشعب السوري ، صاحب ثورة الحرية والكرامة ، التي تودع هذه الأيام عامها الثاني وهي على بعد مئات الأمتار من قصر نيرون سورية ، المحمي بالبوارج الروسية ، والحرس الثوري الإيراني ، ومقاتلي حزب الله اللبناني ، وجيش ماهر الأسد " العقائدي!! " المدجج بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة ، والذين سينضم إليهم الآن " جيش الشبيحة " الذي جرى إعداده في إيران ( جيش الدفاع الشعبي !!) . إنه حشد ضخم بدون شك ، ولكن مالا تخطئه العين ، ومالا يخطئه العقل ، هو أن هذا الحشد العسكري الدولي والإقليمي الضخم ، إنما يشير ــ بدون شك ــ إلى أن نظام عائلة الأسد أصبح يعيش ساعاته الأخيرة ، وأنه بات قاب قوسين من السقوط أو أدنى .

إن شعب الثورة السورية الأولى بقيادة سلطان باشا الأطرش ، التي وضعت حجر الأساس لانتصار الشعب السوري على المستعمر الفرنسي عام 1946 ، هو نفسه شعب الثورة السورية الثانية ، ثورة آذار 2011 التي ستلقي بالمستعمرين الجدد ، إلى مزبلة التاريخ ، والتي تضع اليوم حجر الأساس لإقامة مجتمع الديموقراطية و العدل والمساواة الذي سوف نراه ونعيشه في الغد القريب ، إن شاء الله.

عن موقع رابطة أدباء الشام