الفلحس
أو شيخ المشايخ عند قدماء العرب
كان للرومان في أيام عزهم قطعة من بلاد العرب ضموا إليها ديار حوران واصطلحوا عليها (بالكورة الرومانية العربية) فامتدت في عهد انبساطها من حوران إلى بصيري (تصغير بصري) في عربة. وكان في هذه الكورة، أو هذا الإقليم، جماعات من أمم مختلفة من عرب ويونان ورومان وسريان ونبط إلى غيرهم. إلا أن الجماعة الغالبة كانت للعرب وكانوا ينقسمون إلى قبائل وأفخاذ ويعيشون عيشة أهل البادية. وكثيراً ما كان يندفق سيلهم من أراضيهم فيغزون ربوع الرومان وغيرهم وكان يسميهم اليونان والرومان (أهل الخيم) ومنها الكلمة الفرنسية ولما كان أغلبهم من الشراة أطلقوا عليهم جميعاً اسم الشرويبن أكانوا من الشراة أم لم يكونوا، وباللاتينية
وأقام الرومان على أبناء عدنان وقحطان رؤساء من جنسهم سموا الواحد منهم (فلرخس) أي ومعناها شيخ القبيلة. وكان الشيخ مسؤولاً أمام حكومة الرومان عن كل ما يجري من الغزوات أو من الأضرار في تلك القبيلة. وقد تم هذا النظام في المائة السادسة للميلاد. وأول (شيخ أعظم) أو (شيخ مشايخ العرب) إقامة الرومان كان شيخ قبيلة غسان، وكان هؤلاء الرومان مراراً وضع أساليب مختلفة ليتفقوا مع العرب فلم ينجح معهم إلا الأسلوب المذكور أسلوب (شيخ القبيلة) أو شيخ المشايخ وكانوا

(8/584)

قبل ذلك اعترفوا بين ظاهر ومقدر بعدة رؤساء عرفوا بلقب (شيخ) حتى قر رأيهم على جعل الأمارة الكبرى في قبيلة غسان. وقد ذكر مؤرخو الرومان واليونان عدة شيوخ لعدة قبائل وفي واحد وكل ذلك قبل إقرار لقب (الأمارة الكبرى لغسان) القبيلة النصرانية العربية المشهورة.
وكثيراً ما كان الرومان يستنهضون العرب وشيوخهم للقيام على أعدائهم - وكانوا الفرس في أغلب الحيان - فكان يثور الشيخ ومعه جيش عظيم وهم في أبلهم في بعض المواقع وعلى جيادهم في مواقع أخرى وهذا إذا كان دفع الخطر مما يجب أن يكون بسرعة عظيمة. أما إذا ذهبوا غازين فكانوا يذهبون راكبين هجانهم.
وكان الشيخ إذا انحطت حالته لضعف ألم به أو لقيام شيخ آخر أدهى منه واشد بأساً كان
الضعيف يبقى في عقر داره ويطلب مطالب جليلة مغتراً بما كان له من العز والأباء حينما كان في سابق العهد آمراً ناهياً ومعترفاً بإمارته. وكذلك كان يفعل أبناؤه.
ولا بد من أن اللقب اليوناني (فلرخس) أتخذه أيضاً الرومان بلفظة في لسانهم. ونظن أن السلف منا جاروا القومين المذكورين وأدخلوه في لسانهم
والذي عندنا أنهم خففوه ليحملوه على وزن عربي فقالوا فيه (فلحس) (كجعفر) بحذف الراء. أما حرف الروم فكثيراً ما نقله الناطقون بالضاد تارة إلى الخاء وطوراً إلى الحاء المهملة. وقد ذكرنا لذلك شواهد فلا حاجة لنا إلى العودة إليها. (راجع لغة العرب 8: 190 و 191) أذن نقلوه هنا إلى الحاء المهملة وهذا اللقب كان معروفاً عندهم في زمن الجاهلية.
ومن غريب ما بلغ إلينا من هذا القبيل المثل القديم الشائع عند كثير من الأدباء والمؤرخين واللغويين وهو: (أسأل من فلحس) قال الميداني في مجمع أمثاله (1: 305 من طبعه بولاق الأولى): أسأل من فلحس، ويروى أعظم في نفسه من فلحس. وهو رجل من بني شيبان كان سيداً عزيزاً يسأل سهماً في الجيش وهو في بيته فيعطى لغزه. فإذا أعطيه، سأل لامرأته فإذا أعطيه سأل لبعيره. قال الجاحظ: كان لفلحس أبن يقال له زاهر بن فلحس. مر به

(8/585)

غزي من بني شيبان فاعترضهم، وقال: إلى أين؟ - قالوا: نريد غزو بني فلان قال: فاجعلوا لي سهماً في الجيش. قالوا: قد فعلنا. قال: ولامرأتي. قالوا: لك ذلك. قال: ولناقتي. قالوا: أما ناقتك فلا: قال: فأني جار لكل من طلعت عليه الشمس ومانعة منكم. فرجعوا عن وجههم ذلك خائبين. ولم يغزوا عامهم ذلك. وقال أبو عبيد: معنى قولهم: (أسأل من فلحس) أنه الذي يتحين طعام الناس. يقال: أتانا فلان يتفلحس، كما يقال في المثل الآخر: (جاءنا يتطفل) ففلحس عنده طفيل). انتهى كلام الميدان بمبناه.
قلنا: وهذا ما يؤيد رأينا في أصل كلمة الفلحس ويثبت قدمنا فيه ويقوي رأينا أن الكلمة دخيلة في لغتنا. فتنحصر أذن الأدلة في ما يأتي:
1 - الفلحس ليس في أصله اسم علم إنما كان لقباً.
2 - ليس في مادة ف ل ح س ما يؤيد معنى هذا العلم لو كان في أصل وضعه علما.
3 - أن الأعلام كثيراً ما يكون أصلها نكرة ثم يسمي بها أناس أو تغلب على أناس ومن جملتها هذا.
4 - يظهر من كثرة سؤال فلحس أنه كان في الأصل شيخاً عزيزاً مطالعاً وقد وجد شيخ كثيرة في بني شيبان اعترف بهم الرومان ولعل هذا واحد منه. وشيبان كانت مصافية لبني الأصفر.
5 - إعطاء بني شيبان اسمها لفلحس لم يكن إلا عملاً بخضوعهم لإمارته عليهم وإلا جاز لهم أن يردوه أو أن لا يغزوا لكي لا يجيبوا طلبه.
6 - أن عمل زاهر أبنه يشبه عمل أبيه ويثبت ما نقله التاريخ عن تحكم شيوخ القبائل وأبنائهم في من ينتسبون إليهم من الأمراء.
7 - أن توسع اللغويين في معنى فلحس كتوسعهم في معنى طفيل وتطفل فتصرفوا في الكلام المعرب كما تصرفوا في غيره. ألم يقولوا نيرز من النيروز وتفلسف من الفلسفة إلى غيرهما مما لا يحصى؟.
8 - ذكر اللغويون الفلحس مرة بأداة التعريف ومرة بدونها وهذا يلمح إلى أن أصل وصفها كالحسن والحسين والفضل ونحوها.

(8/586)

9 - أننا في رأينا هذا لا نريد أن نكره أحداً على متابعته، إنما نبوح بما وقع في صدورنا بهذا الخصوص وكنا قد عرضنا هذا الرأي قبل نحو عشر سنين على الأستاذ الدكتور أرنست هر تسفلد فصوبه واستحسنه وكتب إلينا رسالة نحفظها في سجلاتنا.
10 - فسر أبن دريد في كتاب الاشتقاق جميع أعلام الرجال والنساء من العرب ولم يتعرض لتفسير الفلحس ونظن أن ذلك لاعتباره أعجمياً.
11 - أن الفلحس من الألقاب القديمة أو أعلام الجاهلية ولم نره علماً لواحد من الإسلاميين.
12 - لا يمكننا أن نتصور عدم وجود لفظة في لغتنا تعني شيخ المشايخ أو رئيس القبيلة أو الأمير الأكبر للقبيلة. ونرى أن هذه الكلمة هي التي كانت تعرف عندنا قبل الإسلام، إلا أنها دثرت مع ما دثر من الألفاظ القديمة التي مات من كان يعرف معانيها، فقد قال أبن فارس: (أن لغة العرب لم تنته إلينا بكلبتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيراً وأن كثيراً من الكلام ذهب بذهاب أهله. وذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل. ولو جاءنا جميع ما قالوا لجاءنا شعر كثير وكلام كثير.
وأحر بهذا القول أن يكون صحيحاً، لأنا نرى علماء اللغة يختلفون في كثير مما قالته العرب فلا يكاد واحد منهم يخبر عن حقيقة ما خولف فيه، بل بسلك طريق الاحتمال والإمكان). (راجع فقه اللغة طبع بولاق 1: 34).
13 - لو فرضنا أن كل هذا المقال مبني على خيال صرف لوجدنا في نفوسنا حاجة إلى لفظة تعني معنى (شيخ المشايخ أو أمير المشايخ) وأحسن كلمة تقوم بهذا الغرض (الفلحس) لاجتماع القوميين المتمدنين منذ القدم على اتخاذه ولا يمكننا أن نقول (فلرخس) لثقله بل نقول (فلحس) إفراغاً له في قالب عربي خفيف على الذوق وعلى السمع معاً.
النتيجة
فلحس كلمة قديمة أصل معناها (شيخ القبائل) ومنصبة يعرف بالفلحسة .....................المصدر ..المكتبة الإسلامية