من مميزات الشريعة الإسلامية ذلك الترابط الشديد بين جوانبها المتنوعة مما يؤكد أنها وحدة واحدة ولا يمكن أن تتجزأ , وهذه سمة أساسية في دين الله تعالى الذي أنزله على المرسلين جميعا مع اختلاف شرائعهم .
والالتزام ببعض الشريعة والتحلل من بعضها شيء عابه الله تعالى على اليهود فقال : ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون﴾ سورة البقرة من الآية 85.
ولمزيد من الإيضاح فإن هناك ارتباطا وثيقا بين العبادات المحضة مثل الصلاة والصيام والحج وذكر الله وبين الأخلاق النفسية والاجتماعية وبين الحياة المادية وما يكسبه الإنسان من حلال أو حرام ، فكل هذه العناصر بينها تكامل قويٌّ بحيث يؤثر كل منها في كمال الآخر وقبوله عند الله فإذا أُدِّيت على الوجه الأتمِّ أو قريبا منه فإنها مُرشَّحة للقبول من الله سبحانه , وإذا تخلَّف أحدها كان الباقي مردودا على صاحبه .
وقد يبدو في هذه النظرة شيء من الغرابة وقد تثير علامات استفهام كثيرة عند البعض , ولكنها ليست ( نظرة ) ولا هي من بنات الفكر ولا من مخترعاته إنما هي حقيقة عقدية ناصعة دلت عليها النصوص الشرعية وأكدتها .
ويتشعب الحديث في هذا الموضوع في فجاج شاسعة لا تكفي هذه العجالة للاندياح في كل مرابعها ولكن كما يقول أبو عثمان الجاحظ رحمه الله ((.. وهذا باب كبير وقد يُكتفى بذكر القليل حتى يُستدل به على الغاية التي إليها يُجرى )) البيان والتبيين ج1 77.
فمن أمثلة ذلك ما تلحظه من ترابط بين العبادة ومصدر الكسب , فقد ترى شخصا يؤدي الخمس بنوافلهن ، وربما أدى فريضة الحج أكثر من مرة , وربما تعطَّف على المحتاج والمسكين بما سمحت به نفسه ,ولكنه لا يتورع عن مال مشبوه , ولا يبالي محتجَّا بأن أكثر أهل الزمان يفعلون ذلك , وأن هذه الطريقة هي ديدن هذا العصر وأنه لولا ذلك ما استطاع أحد أن يحيا حياة كريمة !!!.
ومع تفاهة هذه الحجج التي لا تثبت أمام العقول المتزنة السوية فإن كل ما فعله من خيرات , وما اجتهد فيه من حسنات مردود عليه , وإلا فقل كيف يكون البناء على غير أساس؟.
ولنقتبس شعلة أخرى من نور نبينا صلى الله عليه وسلم نتهدَّى بها في طريقنا , تأمَّل معي في الأحاديث النبوية الآتية :
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ لَهُ صَلَاةً مَادَامَ عَلَيْهِ "، قَالَ: ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ في أُذُنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " صُمَّتَا إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ " مسند الإمام أحمد ج10 ص24 ط الرسالة .
ألا يدل هذا الحديث على العلاقة الشرطية بين قبول العبادة ونوع الكسب وطبيعته ؟
كما يدلنا الحديث الآتي على أن من يحج بمال حرام حجه مردود عليه :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بنفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَلالٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلالٌ، وَحَجُّكُ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ وَنَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ غَيْرُ مَبْرُورٍ )) . المعجم الكبيرج 20 ص40.
والحديث الآتي حديث جامع في هذا الموضوع :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(( إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ قَالُوا وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ. وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ , وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيث)) مسند الإمام أحمد ج6 ص 189.
وهكذا يظهر بوضوح تام أن الكسب من طريق غير مشروع يفسد حياة المسلم , ويجعله بغيضا عند ربه مهما فعل من خيرات فإن صلى فصلاته غير مقبولة , وإن زكى وتصدق من ماله كان كمن يتطهر بماء غير طاهر , وإن حج بشره الملك بالرسوب قبل الخروج من بلده , وإن أنفق على نفسه وأهله فلا بركة وكان كمن يأكل ولا يشبع , وإن مات كان ما تركه زادا يتزوده رحلته إلى جهنم .
ألا يدل ما سبق على ذلك الارتباط العضوي الحيوي بين أجزاء الشريعة الإسلامية المشار إليه في بداية الكلام ؟.
ألا يدل هذا على خسران : الحكام الظالمين , وأولي الأمر الفاسقين والمرابين , والمرتشين , وآكلي المال العام , والمطففين , والموظفين الذين يحسنون أخذ رواتبهم ولا يراعون الله فيما ولاَّهم من أعمال أيا كانت ,والغشاشين الذي غشوا كل شيء حتى الدواء ؟
ومن أمثلة هذا الارتباط الحيوي أيضا ذلك الارتباط بين الإيمان والعمل الصالح والحياة الاجتماعية . وتأمل النصوص الآتية :
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (( وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ ثَلَاثًا "، قَالُوا: وَمَنَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "، قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ، قَالَ: " شَرُّهِ ")) شعب الإيمان للبيهقي 12/86.
فالذي لايأمن جاره من أذاه لا يكتمل إيمانه وهل هناك شيء أعز من الإيمان؟ إنه قاعدة الأعمال الصالحة كلها ومع هذا يؤثر فيه شيء يحسبه كثير من الناس هينا بسيطا وهو عند الله عظيم . وهو أذي الجار.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " تُفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا امْرَءًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، قَالَ: فَيَقُولُ: أَنْظِرْ هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا " . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ . شعب الإيمان 5/379.
وإليك الحديثَ برواية أخرى :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ قَالَ فَقِيلَ لَهُ قَالَ فَقَالَ إِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ أَوْ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ فَيَقُولُ أَخِّرْهُمَا. المسند 14/98.
وكيف يكون الحال إذا كان الخصام وكان الهجران بين الابن وأمه والابن وأبيه؟ هل يقبل الله معه عبادة أو يصعد إليه كلم طيب ؟ أو يرفع إليه عمل صالح ؟.
من هذا يتأكد لك أخي الكريم أن الشريعة التي تؤمن بها لا تتجزأ ولا ينفصل بعضها عن بعض ولهذا فإنها – لو طُبِّقت - تصنع الشخصية المتكاملة من كل جوانبها فالمسلم السوي يؤدي عبادته لربه في خضوع وإخلاص , فهو متزن روحيا ونفسيا . ولا يأكل حراما فهو سوِيٌّ اقتصاديا ، ويؤثر المسالمة والحياة المطمئنة , فهو متزن وسوي اجتماعيا .
وإن أردت أن تشاهد هذا النموذج حيا أمامك فاقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقد كان خلقه القرآن .