|
بسم الله الرحمن الرحيم |
من الكتب القيمة النافعة التي كتبها الإمام العلامة ابن الجوزي رحمه الله كتاب (( تلبيس إبليس )) ، والتلبيس معناه التخليط والخداع بالقول وتصوير الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق بحيث يصعب التميز بين هذا وذاك ، والإمام ابن الجوزي رحمه الله قد بيَّن الأساليب الإبليسيَّة في خداع كل طوائف الناس من العلماء والعامة على السواء ، وتلبيسه على الناس بحسب أعمالهم ووظائفهم .... إلخ ، وقد كان هذا العمل من الإمام ابن الجوزي عملا قيما نفع الله به كثيرا من الناس . |
والإمام ابن الجوزي إنما قام بهذا العمل بدافع تصحيح المفاهيم الخاطئة التي يُلبِّس بها الشيطان وأعوانه من الجن والإنس على الناس فيغير لهم منظار الحكم الذي يطلون منه على الأشياء في مواضعها الطبيعية ، فينتج من هذا اختلال في الرؤى وجور في الأحكام وتشويه للتصور الصحيح . |
وإذا كان الإمام ابن الجوزي رحمة الله عليه قد قام بواجبه ففكك هذه الشبهات وفضح هذه التلبيسات فإن الله تعالى يقيض لهذه الأمة في كل مرحلة زمنية من يحمل هذا العبء ويقوم بهذا الواجب ، فيرفع إصبعه مشيرا إلى منافذ الخطر ، وصور الخلط في المفاهيم لعلهم يتذكرون. |
وممن أعطاهم الله تعالى الفهم الصائب والبيان الكاشف في هذا المجال الأستاذ الكبير عمر عبيد حسنة ، وأقول ذلك لأنني أتابع كتاباته منذ عدة سنين ، وكانت المقدمة التي يسطرها لكل كتاب يصدر في سلسلة (كتاب الأمة)الذي تصدره وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر – كانت علامة إرشادية إلى إنتاجه الفكري الثمين ، وفي أحيان كثيرة أكتفي بقراءة المقدمة التي يكتبها الأستاذ عمر عبيد حسنة وأستغني بها عن بقية الكتاب فأجد من عمق الفكر ويقظة الرصد وألمعية الفهم ما يجعلني أردد قول شوقي |
كشف الغطاء له فكل عبارة |
في طيِّها للقارئين ضمير |
ومؤخرا يسر الله لي الاطلاع على مقدمته لكتاب (( دعوة الجماهير مكونات الخطاب ووسائل التسديد ) للدكتور عبد الله الزبير عبد الرحمن ، وفي مقدمة الكتاب لفت الأستاذ عمر عبيد حسنة الأنظار إلى قضية في غاية الخطورة في مجال الوعظ والدعوة هي قضية ((تنزيل الخطاب القرآني على الواقع الدعوي)) أو بمعنى أبسط قضية فهم الآيات القرآنية ومعرفة مواضع تطبيقها بالضبط في الواقع الذي نعيشه ، فكيف نفهم الآية ؟ ومتى نطبقها وأين بالضبط ؟ هذه مسألة جد خطيرة ؛ لأن الخطأ فيها يعني ((التلبيس)) الذي حاربه من قبل الإمام ابن الجوزي ، وفي حالتنا هذه يمكن أن يكون هذا التلبيس عمدا أو بحسن نية عند من لا يدققون النظر في الفهم ويعتمدون على الارتجال والعشوائية في إطلاق الأحكام . |
تشخيص المشكلة |
يحدد الأستاذ عمر عبيد حسنة أبعاد المشكلة بقوله : (( وقد تكون المشكلة كل المشكلة في فهم مواصفات الخطاب القرآني محل العطاء والاقتداء , والتعامل معه بقدر كبير من البساطة أو السذاجة والتعميم أو العامية ، وإن شئت فقل عمى الألوان ؛ ذلك أن مواصفات الخطاب القرآني تنوعت وتعددت بحسب الأغراض وبحسب محل الخطاب وموضوعه والقرآن عربي الخطاب وإنساني الرسالة كما هو معلوم ...والبلاغة بأبسط مدلولاتها عند العرب مطابقة الكلام لمقتضى الحال فإذا لم ندرك الحال أو محل الخطاب أو طبيعة المخاطب ومشكلاته وتاريخه وعقيدته فكيف يأتي الخطاب لمقتضى الحال ؟ ! والحكمة في أبسط مدلولاتها أيضا وضع الأمور في مواضعها ووزن القضايا بموازينها , فأين تصبح الحكمة إذا افتقدت المعايير والموازين واختلت النسب ولم تدرك مواضع التنزيل أو محل الخطاب ؟!)). |
وهذه بعض أمثلة للتوضيح : |
أولا : خطاب المعركة والتلبيس في فهمه . |
عندما لا يكف أعداء الإسلام عن محاربة المسلمين ويصل الأمر إلى المواجهة العسكرية حسما للداء -وآخر الدواء الكيُّ- فإن الله تعالى يخاطب المؤمنين آمرا بالثبات ومرغبا في القوة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:123) وقال جل ثناؤه : |
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال:65) ويبين ثواب الشهداء ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران:169, 170) يبين كيفية تقسيم الغنائم بعد إحراز النصر ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (لأنفال:41) فهذا الخطاب خاص بحالة الحرب ، ومن(( التلبيس )) المشار إليه أول المقال أن تخرج جماعات من الشباب تنتسب إلى الإسلام ويزعمون أن المجتمع قد كفر وأن قتاله واجب وأن غنائمه لهم حلال ويستدلون بالآيات السابقة ويحاولون اجتذاب أكبر عدد من المخدوعين زاعمين أن القرآن يحكم بهذا ويستنصرون بهذه الآيات !! |
إذن فقد وضعت الآيات في غير موضعها , ونقلت إلى غير ميدانها والجهاد الذي شرع أساسا لصد العدو أصبح بهذه الطريقة وسيلة في يد العدو ، والجهاد الذي شرع في الأصل لحقن الدماء أصبح بهذا الأسلوب الاستدلالي المزيف وسيلة لإهراقه بغير حق . |
ثانيا : خطاب الدعوة والتلبيس في فهمه . |
وخطاب الدعوة قائم على الحكمة والموعظة الحسنة وإن كان لا مناص ولا مفر من الجدال الذي يتطلب لونا من الشدة أحيانا في إلزام الخصوم فليكن جدالا مهذبا مقلم الأظافر بالتي هي أحسن ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل:125) فهذه الأساليب الثلاثة : الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، تستخدم في وضعية معينة هي وضعية الاستعداد للسماع والتلقي والقبول ، أو الرفض والأخذ والرد ، وهي وضعية السلام الآمن والحرية في التدين ومن التلبيس نقل هذه المفاهيم إلى ميدان المعركة فنصر على أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة مع المحاربين المصرين على الحرب النافخين في أوارها لا ينفكون إلى يوم القيامة. |
ثالثا : خطاب العقيدة. |
من الأمور التي يكثر فيها اللغط والغلط خاصة من جانب التيارات الرافضة لتوجهات الإسلاميين في المجال السياسي مسألة وصف المخالفين في الدين بالكفر ويعتبرون ذلك عقبة في سبيل إقامة مجتمع المواطنة ويعتبرونه عدوانا على الحريات ، ويقولون إن القرآن حماَّل أوجه وأن الإسلاميين يلجأون إلى أسوأ التفاسير ليتخذوا منها ما يعكر الصفو العام في المجتمع بوصف المخالفين في الدين بأنهم كفار .. |
وموطن الخطأ في هذا الطرح هو عدم الفهم الذي أدى إلى التداخل بين مستويات الخطاب في القرآن ، فالخطاب على مستوى العقيدة يقوم على أساس تأكيد الذاتية العقدية ، بمعنى التحديد الكامل لمفهوم العقيدة ومضمونها والتأكيد على نقاط الاختلاف بينها وبين غيرها وإلا اختلط الإيمان بالكفر , فالله تعالى عندما يصف الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة بالكفر ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (المائدة:73) فإنه - تعالى شأنه – يضع الحدود الفاصلة بين التوحيد والتثليث تمييزا لهذا عن ذاك ويؤكد ذلك بدعوة المثلثين إلى التوبة والرجوع إلى بساطة التوحيد . ولكن هذا الوصف بالكفر إنما هو على مستوى الاعتقاد فقط وهو أمر لازم لا ينفك عن مؤمن أيا كان إيمانه فالمسلم مؤمن بالتوحيد كافر بالتثليث والمثلث مؤمن بالثالوث كافر بالتوحيد – وهذا أمر معروف بين أبناء الدين الواحد وليس مبتدعا في القرآن ، فمثلا قرر رجال الكنيسة في مجمع نيقية سنة 325م لعن آريوس وتكفيره وحرمانه وتكفير أتباعه لأنه خالف معتقدهم بقوله إن الابن مخلوق ولم يكن قديما مع الإله الآب ، وقد تلا هذا المجمع مجامع كثيرة لم يخل مجمع منها من لعن المخالف وتكفيره وطرده من الرحمة الإلهية ولا يتسع المقام للدخول في هذه التفاصيل ، فقط أردت بيان أن الحكم على المخالف في العقيدة بالكفر حكم بدهي طبعي – ولكن هل ينسحب هذا الوصف على العلاقات الاجتماعية والتعايش بالبر والمعروف بين المسلمين وغير المسلمين ؟ الجواب في النقطة الآتية : |
رابعا : خطاب العلاقات الاجتماعية مع غير المسلمين |
كلا .. فالخطاب الاجتماعي له وضعية أخرى غير الخطاب على مستوى العقيدة قال تعالى ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8) فأمرنا الله تعالى بالبر والمعروف مع من نعايشهم في وطن واحد وهم يخالفوننا في الدين ، والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه عايش اليهود في المدينة وعاهدهم على التعايش السلمي والدفاع المشترك عن المدينة , وتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي يقال له أبو الشحم ، وعاهد نصارى نجران على التعايش بالبر والمعروف مع أنهم جادلوه في عقيدتهم وأصروا عليها ومن طريف ما جاء في ذلك أن وقت صلاتهم حان وهم في المسجد النبوي فأرادوا أن يصلوا جهة المشرق حيث قبلتُهم فأراد بعض الصحابة منعهم فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركوهم ، وأدوا صلاتهم في المسجد النبوي ، ومن الطريف أيضا أن يقول الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد تعليقا على هذا الموقف : (( وفيه جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين وأداء صلاتهم فيها إذا اعترضت الحاجة على ألا يعتادوا ذلك )) . |
إذن فالخطاب على مستوى العقيدة غير الخطاب على مستوى الدعوة ولا يصح الخلط بينهما فيُضطهد غير المسلم لأنه غير مسلم أو يظن ظان أن الوصف بالكفر يستلزم التأثير السلبي على التعايش الاجتماعي الآمن . |
عود على بدء |
ولأهمية الموضوع أعود إلى تحديد المشكلة وأكرر قول الأستاذ الجليل الذي أتهدَّى بكلامه المنير في هذه العجالة : |
(( والمشكلة أننا نتوهم أننا نستشهد بالقرآن لكن لا ندرك تنزيله ومواضعه ومحله من الخطاب التي لابد من تحصيلها قبل البدء باختيار نوعية الخطاب وتحديد مواصفاته )). |
(( وهكذا فقد لا يتسع المجال للاستقراء الكامل لهذه القضية على أهميتها وضرورتها اليوم ، خاصة بالنسبة لبعض العقول الضيقة والمتأزمة ، وصور التدين المغشوش والفقه الحسير والمبتسر ، التي بدأت تطفو على الساحة ، وتعبث بالأحكام الشرعية ، وتختلط عندها مواصفات الخطاب ، فيكون نفس الخطاب لكل الأحوال والمواضع والمجالات ، فتحدث النكبات ونسيء إلى الإسلام ودعوته ونعجز عن إيصاله إلى المسلمين والآخرين , ونحن نحسب أننا نحسن صنعا)) . |
وعلى مثل هذا النهج الواضح يجب أن يسير المسلم ولا سيما الدعاة إلى الله تعالى ، فمن الواجب رد كل شيء إلى أصله ، ووضعه في موضعه لكيلا يحدث الخلط والتلبيس . |
المفضلات