الجامع المشترك بين دعوة الإسلام وغيرها من الدعوات أنها حركة انطلاق لمبادئ معينَّة انطلقت من موطنها الأصل إلى مواطن أخرى ، ومن قومها إلى أقوام آخرين ومن دولتها إلى دول أخرى ، وينطق التاريخ أن الدعوة الإسلامية افترقت عن غيرها من الدعوات في تمكُّنها واستقرارها في كل مكان أشرقت عليه بنورها ، وبقي تأثيرها العميق في نفوس متبعيها لم يتزعزع مع مرور الأيام وتقلبات الزمان .
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز : ( لقد نظرنا في تاريخ الحركات الدينية وتاريخ الرسالات الإصلاحية ، ونظرنا في تاريخ الدول الناشئة وتاريخ الدعوات الجديدة ، فما رأينا كرسالة الإسلام ، لا في تمكنها واستقرارها حيث بلغت من أقطارها ، ولا في عمق نفوذها وبعد آثارها .
لقد قام الإسكندر بفتوحاته الخاطفة قبل ميلاد المسيح فهل كانت تلك الفتوحات إلا نار الهشيم سرعان ما اشتعلت وسرعان ما انطفأت ؟ وهل اقتبست البلاد المفتوحة عقائد الفاتحين وموائدهم ، ونظمهم وآدابهم ؟ ألم يكن الأمر على العكس أن اعتنق الفاتحون أنفسهم ديانة البلاد التي فتحوها ؟
ولقد جرَّب الاستعمار الأوروبي الحديث حيله الواسعة وأساليبه الجبارة في بلاد الشرق ، لكي يغزو عقول أهلها وقلوبهم . كما غزا أرضهم وديارهم . فهل ظفر منهم إلا بالقشرة السطحية من صور الحياة ؟
ثم هو ذا يجلو عن ديارهم واحدة بعد واحدة في آماد مديدة أو غير مديدة ، فيخرج منها كما دخلها أول مرة لم يغير شيئا من جوهرها لا في عقائدها ولا في لغتها ولا في أسلوب تفكيرها.
أما رسالة الإسلام فحين بسطت جناحيها في أقل من قرن على نصف المعمور كانت كأنما أنشأته خَلْقا آخر؛ لقد بدَّلته من أوطانه المتفرقة وطنا واحدا ، ومن قوانينه المختلفة قانونا واحدا ومن آلهته المتعددة إلها واحدا ، لقد نفذت إلى جوهر نفسه فحولته تحويلا وبدَّلت أسلوب تفكيره تبديلا . بل عمدت إلى لغته فأضافت لغة القرآن لسانا إلى جانب لسانه . وكثيرا ما أنسته لسانه الأصيل وجعلت لسان الإسلام هو لسانه الوحيد ، ثم هي لا تزال في كل عصر تتلقى معول الهدم من أعدائها ، فتتكسر هذه الصدماتُ على صخرتها ، وهي قائمة تتحدَّى الدَّهر . وتنتقلُ من نصرٍ إلى نصر. فليحاولِ الباحثون ما شاءوا أن يعرفوا مصدر هذه القوة الغلابة وهذا الانتصار الباهر ) .
هذا هو حال الاستعمار الذي حاول تغيير الدين ، وعبث بمناهج التعليم ، وحاول تدمير القيم الإسلاميَّة في البلاد التي احتلَّها ، فكانت عاقبةُ ذلك جلاؤه عنها وقيام الصحوة الإسلامية على أيدي رجال لا تلهيهم زخارف الحياة وبهرجها الزائف عن الدعوة إلى الله وبثِّ روح الإسلام في نفوس الناس من جديد .
إن حركة الدعوة الإسلامية تختلف عن حركات الاحتلال في قديم التاريخ وحديثه وحاضره ، فلقد استقُبلت من الشُّعوب غير المسلمة بالحفاوة والترحاب ؛ وكانت سمعة الفاتحين العطرة تسبقهم حيث أرادوا أن يحلُّوا فيجدون التعاون والترحيب من الشعوب المقهورة ظلما من حكامها، لقد كانت هذه الشعوب تعلم يقينا أن هؤلاء الفاتحين لا يهدفون إلى حيازة الأرض ، ولا نهب الأموال ، ولا قهر العباد ، ولا حتى إكراههم على دين الإسلام ، كانت هذه الشعوب ترى من سيرة الفاتحين أنهم يريدون فقط تحرير الإنسان من العبودية والذل الذي ابتلي به من طواغيت الحكام المتجبرين ، ثم إتاحة الحرية لهذا الإنسان في اختيار دينه كما يشاء ، لقد كانت هذه الشعوب ترى هؤلاء الفاتحين وقد تركوا الناس على أديانهم في البلاد التي فتحوها فبقيت معابدُ اليهود وكنائسُ النصارى قائمة على أصولها لم يلمسها معول هدم ، ولم تغلق أبوابها يدُ متعصب ، لقد رأى أهل البلاد المفتوحة هؤلاء الفاتحين لا يمتصُّون دماء الناس بفرض الضرائب الباهظة كما كان يفعل حكامُهم السابقون ، إنما فقط كانوا يطالبونهم بضريبة يسيرة يسمونها الجزية مقابل حمايتِهم وحرِّيَّتهم وإذا عجزوا عن هذه الحماية ردوا إليهم أموالهم معتذرين .
إذن فقد كانت طبيعة التعاليم العادلة لدين الإسلام سرا من أسرار انتصاره ، وسرا من أسرار بقائه حيث نزل ، وسرا من أسرار قوته التي غالب بها كل محاولات الهدم الأثيمة .
وفي هذا يقول الدكتور محمد عبد الله دراز : ( إنها رسالة تدعو إلى نفسها بنفسها . يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار . رسالةٌ نزيهةُ القصد . مُجرَّدةٌ من كل غرض ، إنها ليست رسالةَ العلو والاستعباد ، ولا رسالةَ الطغيان والفساد . إنها رسالة النور والإيمان والعدل والإحسان . ورسالة الفطرة السليمة ، والأخلاق الكريمة ، والسياسة الحكيمة ، فلماذا لا تكون رسالةَ الإنسانية كلِّها ؟ لماذا لا تعتنقها البشريَّة جمعاء ؟ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56) .