من أقوى الشواهد التي اعتمدها العقلاء من قديم الزمان شهادة الواقع ..أعني الواقع الحي ، والتجربة المعاشة التي يتفاعل الإنسان مع معطياتها ونتائجها في لحظته الماضية والآنية ، وليس بعد شهادة العين شهادة وقديما قال القائل :
وهبني قلت هذا الصبح : ليل أيعمى العالمون عن الضياء؟.
جاءني هذا الخاطر بينما أتريض مع الأستاذ سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن , عند قوله تعالى :
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) لقد قام الأستاذ سيد رحمه الله برصد موجز لحركة التاريخ في الإسلام ، تلك الحركة التي تشهد من خلالها حجم الهجوم الضاري على أصول الإسلام بغية خلخلة أسسه وزلزلة أركانه ، ومع هذا يظل القرآن الكريم الأصل الوحيد الذي لم يتعد الهاجمون خطه الأحمر ولم يدلوا بدلائهم في نصوصه بأي وجه من الوجوه ، ومن ثم لم يحتج مطلقا لعملية تنقية أو غربلة أو تطهير نصِّي أو تقعيد علمي حاكم على مصداقية آياته وغير ذلك مما يستعمل في نقد الآثار والمرويات ، أليس هذا بمعلم واضح على أن يد القدرة الإلهية من وراء حفظه ؟
نعم هو كذلك ، خاصة إذا ما قارنَّا ذلك بالسنة النبوية التي حاول كل فريق من الخصماء أن يُدخل فيها ما ليس منها لحسابه الخاص ، ولولا لطف الله بأن يسَّر لها من العلماء ما أزال نقاب الباطل عن وجه السنة المُقمِر لما نجت من التَّحريف والتَّصحيف والزيادة والنقصان ، أما القرآن فلم نشهد فيه هذه الحركة الدِّفاعية الهائلة التي قامت من أجل السنة والتي أثمرت تراثا علميا في جانب نقد النصوص والتثبت من صحتها يعد - هذا التراث - بحق مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية وكان كل ما في الأمر أن الصَّحابة رضي الله عنهم أعادوا نسخه من صُحُف كُتَّاب الوحي فجعلوه في مصحف واحد فما يقرأه صبيُّك الصغير الآن في المصحف الشريف هو هو ما كان رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يتعبد به لربه آناء الليل وأطراف النهار.
يقول الأستاذ سيد رحمه الله :
(( وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر؛ فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربَّانية هذا الكتاب إلى جانبِ غيرها من الشَّواهد الكثيرة ونرى أن الأحوالَ والظروفَ والملابساتِ والعواملَ التي تقلَّبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصوناً محفوظاً لا تتبدل فيه كلمة ، ولا تُحرَّف فيه جملة ، لولا أن هنالك قدرةً خارجة عن إرادة البشر ، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل ، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل ، وتصونه من العبث والتحريف .
لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق ، وكثر فيه النزاع ، وطمَّت فيه الفتن ، وتماوجت فيه الأحداث . وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود خاصَّة ثم من « القوميين » دعاةِ « القومية » الذين تسمّوا بالشعوبيين!
ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين لتحرير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغربلتها وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين )).
فلم يستطع هؤلاء النيل من السنة ولا من القرآن الكريم ، ولما تعذَّر عليهم تحريف نص القرآن تحريفا مباشرا لجأوا إلى حيلة أخرى , هي محاولة تأويل آياته وفق أهوائهم مصالحهم ، ليزعموا أن مراد الله في صالحهم ، وليقولوا هو من عند الله وما هو من عند الله ، ولكن من سوء حظهم أن باءوا بفشل ذريع ، وأخرى يحبونها ..غضب من الله وعذاب شديد !!.
يقول الأستاذ سيد :
((كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تُؤَوِّلَ معانيَ النصوص القرآنية ، وأن تحاول أن تَلْوِيَ هذه النصوصَ لتشهدَ لها بما تريد تقريرَه من الأحكام والاتجاهات . .
ولكنها عجزت جميعاً وفي أشدِّ أوقات الفتن حلوكة واضطرابا أن تحدث حدثاً واحداً في نصوص هذا الكتاب المحفوظ؛ وبقيت نصوصُه كما أنزلها الله؛ حجةً باقية على كل مُحرِّف وكل مُؤَوِّل؛ وحجة ًباقية كذلك على ربَّانيَّة هذا الذكر المحفوظ )).وما زال القرآن بين أيدينا غضَّا طريَّا وكأنما نزل من السماء الآن ..
وإذا كان للمسلمين دور فاعل في حفظ القرآن ، وجهود غير منكورة بل هي مشكورة فإن مسلمي اليوم لم يعودوا كسابق عهدهم من مسلمي السلف الصالح الذين كانوا يرون في القرآن كتابا يُتلى تعبُّدا وقربى إلى الله ، ومنهجا تقوم به الحياة في كافة مناحيها فكنت تسمع القرآن من الأفواه ، وتراه قائما يأمر وينهى في كل نشاطات الحياة ، وكان هذا من دواعي حفظه ، أفرأيت إن تخلى المسلمون عن التطبيق واكتفوا بالتلاوة بعد الغزو الفكري والعسكري العنيفين الذين تعرضوا لهما من الغرب الهمجي الكافر هل يؤثِّر ذلك على حفظ الله له ؟
تأمل أخي الكريم قول الأستاذ سيد :
((ثم جاء على المسلمين زمان ما نزال نعانيه ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم ، وعن حماية عقيدتهم ، وعن حماية نظامهم ، وعن حماية أرضهم ، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم . وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم ، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم . . كل منكر من العقائد والتصورات ، ومن القيم والموازين ، ومن الأخلاق والعادات ، ومن الأنظمة والقوانين . . . وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقُّح والتعري من كل خصائص « الإنسان » وردُّوهم إلى حياة كحياة الحيوان . . وأحياناً إلى حياة يشمئز منها الحيوان . . ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عناوين براقة من « التقدم » و « التطور » و « العلمانية » و « العلمية » و « الانطلاق » و « التحرر » و « تحطيم الأغلال » و « الثورية » و « التجديد » . . إلى آخر تلك الشعارات والعناوين . . وأصبح « المسلمون » بالأسماء وحدها مسلمين . ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير . وباتوا غثاء كغثاء السيل لا يمنع ولا يدفع ، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقوداً للنار . . وهو وقود هزيل! ولكن أعداء هذا الدين بعد هذا كله لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها . ولم يكونوا في هذا من الزاهدين . فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ ، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تنال!))
ويضيف الأستاذ سيد رحمه الله :
((ولقد بذل أعداء هذا الدين وفي مقدمتهم اليهود رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين الله . وقدروا على أشياء كثيرة . . قدروا على الدَّسِّ في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى تاريخ الأمة المسلمة . وقدروا على تزوير الأحداث ودسِّ الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدُّوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون . وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين . وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون ، وبخاصة في العصر الحديث :
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد والظروف الظاهرية كلها مهيأة له . . لم يقدروا على إحداث شيء في هذا الكتاب المحفوظ ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه ؛ وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع ؛ فدل هذا مرة أخرى على ربَّانيَّة هذا الكتاب ، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقاً تنزيل من عزيز حكيم .
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد وعد . أما هو اليوم من وراء كل تلك الأحداث الضخام ؛ ومن وراء كل تلك القرون الطوال . فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب ، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول :
{ إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون } . . وصدق الله العظيم .))
وإذا كان الأستاذ سيد قد استنصر بالتاريخ لإبراز دور العناية الإلهية في حفظ القرآن ، فإن حفظه ضرورة بحكم العقل أيضا .
نعم لقد شهد الله لكتابه القرآن الكريم أنه خاتم الكتب السماوية المهيمن عليها الحافظ لأصولها ، ومن ثَمَّ فقد أُغلق باب الرسالات إلى يوم القيامة ، ويشهد التاريخ والواقع أنه لم يظهر في الأرض بعده كتاب ذو أصل إلهي ، فلم يكن بد من حفظه وإلا انقطعت البشرية عن كلام باريها سبحانه وتعالى ، وتُركت سدى.
كما أن الله تعالى أيد أنبياءه بمعجزات يتحدون بها المنكرين لتدل على صدقهم في دعوى النبوة ، وكانت المعجزات غيرالكتب المنزلة ، فكتاب موسى عليه السلام التوراة ، ومعجزته في العصا واليد ، وكتاب عيسى عليه السلام الإنجيل ومعجزته في شفاء المرضى وإحياء الموتى بإذن الله ، أما النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم فلأنه الخاتم فكان لا بد أن تستمر معجزته لتراها أمته إلى نهاية الزمان ؛ فجعل الله تعالى معجزته التي تحدّى بها هي القرآن الذي أنزل عليه ولم يستطع أحد من البشر أن يؤلف مثلها ولن يستطيع أحد ، فكان من المنطقي أن تدوم هذا المعجزة وأن تحفظ من التغيير والتبديل ليراها كل مقصود بالدعوة إلى يوم القيامة ، وهذا ما يعبر عنه الحديث الشريف الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
ومن نافلة القول أن هذه ليست دعوة للتناوم والتكاسل عن حفظ القرآن والدعوة إليه ، ولكن أردت أن أذكر شهادة الواقع التاريخي كما رصدها واحد من المجاهدين الفكريين في مسيرة الدعوة الإسلامية ، ولكي نستنطق التاريخ ليشهد مقدما على خيبة كل محاولات تحريف القرآن أو تبديله فنحن المسلمين لا ننزعج عندما نسمع أن نفرا من متعصبي الغرب الحاقدين يريدون جعل يوم الحادي عشر من سبتمبر يوما عالميا يحرقون فيه القرآن أو أن قسا مأفونا أصدر كتابا هابطا أسماه الفرقان الحق ليكون بديلا عن القرآن أو غير ذلك من ضروب الهمجية الفكرية والسفالة اللاحضارية . فهذا وإن أحزننا فإنه لا يخيفنا ؛ وإذا كان من واجبنا أن نرابط على ثغورنا متسلحين باليقظة الراصدة لكل هذه المحاولات ، آخذين حذرنا ممن يحاول العبث في حصوننا من داخلها أو خارجها ؛ فإن من دواعي سعادتنا كون هذه الهجمات علامات مرورية تهدي الحائرين إلى صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض .
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طُويت أتاح لها لسن حسود
ولولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود .