القدس في العهد العثماني

خليل الصمادي



بعد أن انتصر العثمانيون على المماليك في معركة مرج دابق سنة 921 /1511 م ، دخل السلطان سليم البلاد الشامية كلها دون مقاومة تذكر، وكانت مدينة القدس ضمن هذه البلدان والسلطان سليم الأول هو أول من اتخذ لقب خليفة المسلمين من العثمانيين. وبعد وفاة السلطان سليم الأول عهدت الخلافة إلى ابنه السلطان سليمان الملقب بالقانوني، وتمت في عهده الإنشاءات الكثيرة في حواضر العالم الإسلامي أنذاك في مكة والمدينة ودمشق وحلب والقاهرة وغيرها وكان لمدينة القدس اهتمام كبير من قبل السلطان ووزرائه لما لها من أهمية دينية عند المسلمين كافة, وامتد الإهتمام إلى زوجتة فقامت زوجته الروسية الأصل (روكسيلانة ) بإنشاء التكية المعروفة بتكية (خاصكي سلطان ), وقامت التكية بدورها الحضاري في إيواء طلاب العلم وتقديم وجبات الطعام للفقراء من مدينة القدس حتى أواخر العهد العثماني، وكانت نفقات التكية تدفع من ريع الأوقاف التي أوقفتها روكسيلانة . وفي سنة 936 هجري حول السلطان سليمان مقام النبي داود عليه السلام بعد أن كان محطة للمشعوذين وأهل البدع إلى مسجد تقام فيه الصلوات الخمس، كما اهتم منم جاء بعد السلطان سليمان بالمدينة المقدسة فأقاموا عشرات المشاريع الخيرية من سبل ومدارس وتكايا وأوقاف للفقراء وزوار الحرم القدسي
ووقعت القدس في قبضة جنود إبراهيم باشا بن محمد علي, وذلك سنة 1247 هجري ( 1831 م ) بضع سنين .

العثمانيون والهجرة اليهودية

حاول اليهود منذ القدم الهجرة إلى بيت المقدس , ولكنهم كثيرا ماكانوا يصطدمون بموقف السلطات التي كانت حائلا دون أطماعهم . ويرجع السبب في ذلك إلى وثيقة (العهدة العمرية ) التي يرجع تاريخها إلى سنة 15 هجري. عندما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس , كتب وثيقة لأهلها نصت صراحة «أن لا يسكن فيها معهم أحد من اليهود. . . . . ». وقد ظلت هذه الوثيقة متبعة ومحترمة منذ عهد الخلفاء الراشدين حتى عهد محمد علي باشا والي مصر إذ تمكنت عشر عائلات يهودية في عهده بوسائلهم المعروفة من دفع (الرشى) واتصالهم بالدول الغربية للضغط على محمد علي للسماح لهم بالإقامة بالقدس . وفي وقتها تعاظم نفوذ الجمعيات والمؤتمرات اليهودية التي كانت تدعو إلى إقامة اليهود في فلسطين ، ولكنهم اصطدموا بموقف السلطة العثمانية بعد أن آل إليها حكم بلاد الشام . وكان موقفها حازمأ وحاسمأ، وقد قامت قائمة اليهود في شتى أنحاء العالم للعمل ضد الدولة العثمانية .

ويرى كثير من المؤرخين أن موقف الدولة العثمانية من هجرة اليهود إلى فسطين عجل في نهايتها، ومن المعروف أنه حدثت اتصالات بين هرتزل رئيس (الجمعية الصهيونية ) والسلطان عبدالحميد بهدف إقناع السلطان بالهجرة اليهودية نظير مبالغ طائلة يدفعها اليهود للسلطان وللدولة ، إلا أن محاولات هرتزل لم تنجح. وعمل اليهود بعد هذا الموقف على إسقاط دولة الخلافة حتى يتسنى لهم التدفق على فلسطين . وانتقلت المعركة بعد ذلك بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية التي تبنت مواقف اليهود.

وبسبب خطورة الوضع في القدس قامت الدولة العثمانية بسلخ متصرفية القدس عن ولاية الشام وارتباطها مباشرة بوزارة الداخلية في استانبول.إلا أنه، ومع الموقف المتصلب للدولة العثمانية ، فقد قام في القدس الشريف عدد من المستعمرات.

وإزاء هذه المشكلة العظيمة , وخوف الدولة العثمانية من وقوع مدينة القدس تحت سيطرة اليهود قاموا بوضع حد للهجرة اليهودية , فقد صدرت قوانين الباب العالي عام 1882م , وكان مضمونها ألا يسمح لليهودي بالدخول إلى فلسطين إلا في حالة واحدة هي الحج والزيارة المقدسة ولمدة أقصاها ثلاثة أشهر, على أن يحجز جواز سفر الزائر, ويودع في مراكز الشرطة حيث يتم استبدال الجواز الأحمر به مؤقتا, ولكن اليهود اخترقوا هذه القوانين بمساعدة قناصل الدول الأوربية وصار عدد اليهود يزداد يومأ بعد يوم , مما أحدث صدامات بين الفلسطينيين واليهود عام 1886 م , إذ هاجم الفلاحون الفلسطينيون المطرودون من قراهم المغتصبة المهاجرين اليهود, ودفعت هذه الصدامات الدولة إلى اتخاذ إجراءات جديدة, إذ طلبت من متصرف القدس إجراء اتصالات مع قناصل الدول الأجنبية لإبلاغهم استياء السلطان والسلطات العثمانية لعدم قيام القنصليات الأجنبية في القدس بخطوات من جانبها لتسهيل إخراج رعاياها من اليهود الذين انتهت مدة إقامتهم . وكان رد القناصل على المتصرف أنهم لم يقبلوا بتنفيذ الأمر حتى يتلقوا تعليمات من سفاراتهم في إستانبول .

وكانت الدول الأجنبية لا تذكر عقيدة رعاياها, مما ساعد ذلك على إخفاء عقيدة اليهود الزائرين وتحايلهم على القوانين , وفطن الباب العالي إلى هذا الموضوع فأصدر قوانين جديدة عام 1888 م نصت على ضرورة حمل اليهود الأجانب جوازات سفرتوضح عقيدتهم اليهودية ، كما أوعزت الدولة العثمانية إلى جميع قناصلها في البلدان كافة عدم التأشير على جوازات اليهود إلا بداعي الزيارة ولمدة محدودة .

وقد احتجت الدول الأوربية على هذه الإجراءات الجديدة , واحتجت أمريكا على قوانين 1883 م الجديدة التي تطلب من موظفيها القيام بحملات تفتيشية في القدس وغيرها لتجميع اليهود وتسفيرهم مباشرة عن طريق ميناء يافا. وكان احتجاج أمريكا أن اليهودي الأمريكي هو أمريكي أولأ وقبل كل شيء, وأنه لا يحق للدولة العثمانية منعه من شراء الأراضي والاستيطان في فلسطين .

وبسبب هيمنة اليهود على معظم الدول الأجنبية التي وقفت معهم وشجعتهم على الهجرة , حاول العرب حث الحكومة العثمانية على تطبيق القوانين بشكل فعال ، وكان منهم نائبا القدس في مجلس المبعوثان سعيد الحسيني وروحي الخالدي الأديب المعروف . قام هذان النائبان مع ستين نائبأ عربيا بحث الباب العالي على متابعة قضية الهجرة اليهودية إلى فلسطين , ومنع اليهود من شراء الأراضي, وفرض رقابة حكومية على مدارسهم وبرامجهم الدراسية وغيرها. إلا أن هذه الاقتراحات لم يؤخذ بها, وذلك بسبب خلع السلطان عبدالحميد 1908م , الرجل الذي وقف سدا في وجه الأطماع اليهودية . وبعد عزله أقام اليهود الأفراح والمظاهرات في أماكن وجودهم , وصارت الهجرات اليهودية تتدفق على القدس وغيرها من فلسطين ، واخترق اليهود جمعية الاتحاد والترقي التي لم تكترث بالأعداد المتزايدة من اليهود المهاجرين , وعلى الرغم من وجود السلطان العثماني محمد رشاد الذي صار رمزا فقط للعثمانيين .

سقوط القدس

في عهد السلطان محمد رشاد الخامس دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى ضد إنجلترا وحلفائها، فأوعز رجال الحكم التركي من جمعية الاتحاد والترقي إلى السلطان بإعلان الجهاد ظنا منهم أن الأوضاع الاجتماعية والعسكرية للبلدان تستطيع الوقوف أمام قوة الحلفاء آنذاك . ولكن السلطان محمد رشاد لم يستعمل الجهاد للتهديد بل أعلن (الجهاد الأكبر) وجرى احتفال مهيب عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة إذ أخرجت راية النبي, وتم نقلها إلى دمشق بالقطار في 15 ديسمبر/كانون الأول 1914 م ، وقد استقبلها الدمشقيون بمظاهر الحفاوة والتكريم , ثم نقلت الراية إلى بيت المقدس ووصلت في 20 ديسمبر- كانون الأول من العام نفسه ، فأقيم لها احتفال كبير في الساحة المحيطة بقبة الصخرة برئاسة جمال باشا والي سورية , وختم الاحتفال بإقامة الصلاة في المسجد الأقصى ووضعت الراية هناك ليتم إخراجها في اليوم الذي سيزحف فيه الجيش على مصر.

كانت الدولة العثمانية في ذلك الوقت في وضع لا يسمح لها بالقيام بحروب على جهات متعددة , وكانت تنتظر مساعدة الألمان لحماية بيت المقدس ولتجهيز جيشها إلى مصر لمقارعة الإنجليز. وانتظر الفيلق العشرون العثماني بقيادة اللواء علي فؤاد باشا صهر السلطان عبدالحميد المساعدات من الألمان ، ولكنها لم تصل , وأعد اللواء خطوطه الدفاعية عن القدس بمساعدة أحد الضباط الألمان الذي كان يمني المدافعين بالوعود والأحلام ، وكان من بين الضباط الأتراك ابن السلطان عبدالحميد العقيد عبدالرحيم , ولكن هذه الدفاعات لم تنجح ، فلم يستطع هذا الفيلق الصمود أكثر من أربع وعشرين ساعة أمام قوات الجنرال اللنبي صاحب مقولة : «الآن انتهت الحروب الصليبية ».

وهكذا دخلت القوات البريطانية مدينة القدس في الثامن من ديسمبر /كانون الأول 1917 م ، وغادرها كبار الأتراك طلبا للنجاة بعد أن دام حكم العثمانيين فيها أربعمئة عام (1517 -1917 م ).
وبعد خروجهم ينتهي الحكم العثماني للقدس لتبدأ مشكلة القدس الكبرى مع جيش الاحتلال البريطاني والتدفق اليهودي عليها, وبعدها الاستيلاء عليها من قبل اليهود عام 1917 م وفي يومنا هذا معركتهم مع المسلمين أجمعين في جعلها عاصمة أبدية لهم .
{ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21)}(يوسف) .

عن موقع رابطة أدباء الشام