سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(7) سورة المجادلة

ذكرت أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة التي ظاهرها زوجها تشتكي إليه فلم تسمع ما قالت ، وسمع الله –سبحانه- شكواها : { قَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}(المجادلة).
فسبحانك يارب من إله عظيم تسمع كل شيء وترى كل شيء ، فسبحانك ، سبحانك ( إن الله يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء ).
فهو محيط بخلقه ،مطّلع عليهم يسمع كلامهم ويرى مكانهم حيثما كانوا وأينما حلّوا ، يعلم السرَّ وأخفى ،ومع ذلك تكتب رسُلُه من الملائكة ما يتناجى به عباده لتوثيقه ،فيُعرض عليهم يوم القيامة بتفاصيله كاملة وقد نبهنا الله تعالى محذراً : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}(الزخرف) ، فلا يغيب عنه من أمورهم شيء { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال الإمام أحمد رحمه الله : افتتح الآيةَ بالعلم واختتمها بالعلم .

يقول ابن كثير رحمه الله: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة وكانوا إذا مر بهم الرجل، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم ،فترك طريقه عليهم ،فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ،فلم ينتهوا وعادوا إليها ،فنزل قولُه تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّـهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّـهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}(المجادلة) .

والنجوى تَسارُّ اثنين بينهما ثالث لا يسمع ما يقولان ، فيُهيّأ إليه أنهم يقصدان به الشرَّ ، وقد نهى القرآن والسنّة عنه ، وما نُهي عنه عُدَّ في الإثم. وأما العدوان فتجاوز الحقوق مما يورث الخوف والكراهية .
أما معصية الرسول ومخالفته فقد اصر اليهود عليها فحين يرونه صلى الله عليه وسلم يحيونه بقول فيه ظاهره تحية وفي باطنه سبٌّ ودعاء عليه ، فقال تعالى فاضحاً سرّهم وموبخاً : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّـهُ } ، فعن عائشة قالت :
دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم ( والسامُ: الموتُ)
فقالت عائشة : وعليكم السام والذامّ واللعنة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش )
قلت ألا تسمعهم يقولون السام عليك" ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أوما سمعت أقول: وعليكم ) ، وقال ( إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا ) .

وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي فسلم عليهم فردوا عليه ،فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تدرون ما قال ؟ )
قالوا :سلَّمَ يا رسول الله .
قال : ( بل قال سام عليكم ) أي تسامون دينكم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ردوه )
فردوه عليه فقال نبي الله : ( أقلت سام عليكم
قال نعم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك ) ، أي عليك ما قلت.
والذي أتعجب منه أنه لم يُخف ما قاله ولا أنكره ، إنما قاله متحدياً ، وهذا دأبهم وسوء أدبهم يتكرر ويستمرّ.

يفعل اليهود هذا ويظنون أن الله تعالى سيعاجلهم بعذاب الدنيا لو كان محمد نبياً ، وإذ لم يعاجلهم بالعقوبة الدنيوية السريعة فهو – سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم – ليس نبياً بزعمهم.وهذا تجرّؤٌ فاجر على الله تعالى فقال الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)}(سورة المجادلة)

نُهي المسلمون عن التناجي المؤذي الذي اتصف به المنافقون وغيرهم من كفار أهل الكتاب وأمرهم أن يتناجّوا بفعل الخير وقوله، وأن تكون تقوى الله نصب أعينهم ومرضاتُه هدفَهم. فهو سبحانه مطّلع عليهم – ظاهرهم وسرائرهم- ويوم القيامة يعرضها عليهم .

عرض رجل لعمر رضي الله عنه فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنْ قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون { وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)}(هود). أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.

{ إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} (سورة المجادلة).

إنَّ المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءا إنما تصدر من المتناجين بتسويل من الشيطان وتزيينه ليسوء المسلمين، وبما أن النفع والضر بيد الله وحده فليستعذ المسلم بالله وليتوكل عليه ،ومن توكل على الله لم يضرَّه أحد. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه ) أخرجه مسلم.

من الآداب الإسلامية العالية أن لا يحدث التناجي الذي يورث حزناً وألماً للمسلم، فإن كان الحضور في المكان نفسه كثيراً وتناجى كل اثنين أو ثلاثة بأمر خاص بهم وانشغلوا عن الآخرين فلا تناجيَ إذاً . وينبغي أن تسود في المجتمع المسلم سمات الود والمحبّة والأُلفة ، نمتنع عما يسيء إلى إخواننا ونفعل ما يسرهم ويقرّب بعضهم من بعض.ويزرع السعادة والأمان في ربوعهم .

إنه سبحانه ينادينا إلى آفاق حياة الطيبة ويدعونا إلى سلامة الصدر ، فهل نحن واعون منتبهون؟

يتبع