معركة الولجة*


بلغت أخبار هزيمة الفرس في معركة المذار إلى المدائن ، فأرسل ملكها ( أردشير ) على عجل جيشاً يقوده ( أندَرْزَغرْ ) ، ثم أتبعه بجيش ثانٍ يقوده ( بهمن جاذويه ) وأمرهما أن يطبقا على جيش المسلمين المتوغّل في سواد العراق بفكّي كماشة ، كان ذلك في أواخر صفر ( 12 هجري ) الموافق لبداية أيار (633 م )..

انتهت هذه الأخبار إلى خالد ( رض ) وهو ما زال بالمذار ، فقدّر الموقف تقديراً صحيحاً وآثر أن ينسحب إلى الجنوب لكي يفلت من الكمّاشة ، ولم يكن خالد ( رض ) ممن ينتشي بالنصر فينسيه الحقائق العسكرية في أرض الميدان وما يجب عليه فعله لمواجهتها ، كما أن خطة العرب في جميع فتوحاتهم لم تكن لتركّز على الاحتفاظ بالأرض كما ذكرنا ، بل كانوا يركزون على سحق معنويات الخصوم وقوّاتهم المحاربة ، ثم تكون الأرض لمن غلب .!

علم خالد ( رض ) بوصول ( أندرزغر ) إلى منطقة الولجة ، فقرر مهاجمته قبل اكتمال قواته ، وقبل أن ينضمّ إليه بهمن أيضاً ، فزحف إليه على تعبئة ، ولما وصل إلى الولجة وجدها أرض منبسطة مفتوحة خالية من المسطحات المائية ، فعرف ببديهته العسكرية الفذّة أنها أرض صالحة للمناورات التكتيكية ، ووضع خطّته الرهيبة التالية : عبّأ قواته الرئيسية قبالة الفرس وأخفى قوّتين من الفرسان ، الأولى من يمين الجيش وعليها البطل ( بسر بن أبي رهم الجهني ) ، والثانية من اليسار وعليها ( سعيد بن مرّة العجلي ) ، وأمرهما أن لا يطلعان إلى القتال إلا بأمره ثم أنشب القتال ، ودارت رحى معركة ضروس حتى أنهك الجانب الفارسي وهزَّ معنوياته ، وبينما العجم ينتظرون طلوع المدد عليهم الذي يقوده بهمن ، إذ أمر خالد قوات الفرسان بالالتفاف عليهم ، فخرجوا من خلفهم ، من حيث ينتظرون المدد وأعملوا فيهم السيوف قتلاً وأسراً ، فذهلوا ، وأسقط في أيديهم ، وخارت عزائمهم ثم لاذوا بالفرار لا يلوون على شيء ، وكان على رأس الفارين قائدهم ( أندرزغر ) الذي تقول الروايات أنه مات في الصحراء من العطش .!!!

أما خالد ( رض ) فقد قام خطيباً في قواته يهنئهم بالنصر والفتح ، ويمنّيهم بالمزيد إذا هم صبروا واحتسبوا ، ثم أمر بالأسلاب فوزّعت على أصحابها كائنة ما تكون ، ثم نفّل كعادته أهل البلاء من خمس الغنائم ، وأرسل ببقية الخمس وبشائر النصر إلى المدينة المنوّرة ، وسار في الفقراء والفلاحين والمغلوب على أمرهم من الفرس من غير المحاربين ، بسيرته السابقة ، حيث أقرّهم على أراضيهم ، وأبقاهم في قراهم ، بدون أن يمسّهم أحد بسوء .

وبينما راح خالد ( رض ) يستعد للمواجهة المقبلة ، ويضع خطّته لموقعة تالية ، كان الأبطال من جنوده الأوفياء يحيون أمسياتهم بالفرح والسمر وإنشاد الشعر ، وكان مما قاله أسد العرب والإسلام ، القعقاع بن عمرو التميمي في تلك الملحمة :

ولم أرَ قوماً مثلَ قومٍ رأيتهم * على ولَجاتِ البَرِّ أحمى وأنجبا
وأقتَلَ للروّاسِ من كلِّ مجمعٍ * إذا ضعضع الدهرُ الجموعَ وكبكبا

* مقتطعة من موضوع دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة للدكتور أبو بكر الشامي

عن موقع رابطة أدباء الشام