فتح الحيرة *


في الطريق إلى الحيرة

الحيرة بلدة عربية قديمة ، تقع على نهر الفرات ، وتبعد حوالي ستة كيلومترات إلى الجنوب من الكوفة الحالية ، التي لم تكن موجودة يوم دخل المسلمون العراق ، على الحدود الفاصلة بين صحراء العرب وسواد العراق .

لما فرغ خالد ( رض ) من أُلَّيس ، أراد ألا يمنح العجم فرصة لالتقاط أنفاسهم وتجميع قواتهم ، ذلك أن من أهم مباديء الحرب ( خفّة الحركة ، والمرونة والمطاردة واستثمار الفوز) ، وكان من أهم ما يتميّز به خالد ( رض ) : خفة حركته ، وسرعة بديهته ، ومبادأته الأعداء ، ومباغتته لهم دوماً ...

وهذه تشكّل اليوم روح وجوهر حرب العصابات في العالم ...
فنهض من أُلَّيس وأتى أمغيشيا ، وهي مدينة كبيرة في طريقه إلى الحيرة ، فلما دخلها وجد أهلها قد هجروها وتفرّقوا في السواد من شدّة الخوف والرعب الذي أحدثته انتصارات خالد السابقة ، والتي كانت أخبارها قد ملأت الآفاق ، فاستولى عليها المسلمون بدون قتال ، وغنموا كلّ ما فيها حتى بلغ سهم الفارس فيها ( 1500 درهم ) ، هذا عدا الأنفال التي نفّلها خالد لأهل البأس والبلاء .!!!

ولما بلغت أخبار أمغيشيا إلى المدينة المنوّرة ، جمع الخليفة الناس كعادته ، وصعد المنبر ، وقال : ( يا معشر قريش ، لقد عدا أسدُكم ( ويعني خالداً ) على الأسد ( ويعني فارس ) فغلبه على خراذيله ( أشلائه ) ، أعَجَزتِ النساءُ أن يلدْنَ مثل خالد .!؟ ) ...

وأما خالد ( رض ) ، فبعد أن فرغ من توزيع الغنائم أراد أن يواصل سيره في خطّته المرسومة باتجاه الحيرة ، لكنه وجد صعوبة في السير على الأرض بسبب كثرة الفيضانات ، حيث كان الفصل ربيعاً ، والأرض مليئة بالمسطحات المائية ، فقرر أن يحمل قواته على السفن في النهر ، وبينما المسلمون يتسامرون على ظهر السفن ، إذْ راعهم جفاف مياه النهر ، وجنوح السفن إلى الأرض ، ففزعوا ، ولم يكن للمسلمين خبرة بركوب السفن .!!!

فلما سأل خالد ( رض ) أهل المنطقة عن السبب ، تبين له أن مرزبان الحيرة كان قد قطع مياه النهر وحوّل مجراه ، فنهض خالدٌ ( رض ) في مجموعة من الفرسان يقودها بنفسه ، وتوجّه مسرعاً باتجاه الحيرة حتى بلغ المقر عند فم العتيق ، فوجد خيلاً من طلائع جيش الحيرة عليه ابن آزاذبه ، مرزبان الحيرة ، وكان طلوع خالد ( رض ) عليهم مفاجأة غير متوقعة ، فدهمهم وهم آمنون حتى أبادهم ، وسدّ خالد فروع الأنهار ، وأعاد المياه إلى مجراها في الفرات ، ثم أرسل إلى بقية جيشه أن يلحق به بعد أن عادت المياه إلى مجاريها ، وعادت السفن إلى المسير ، واستمر هو بمن معه من الفرسان السريعة قاصداً الحيرة …

أما آزاذبه مرزبان الحيرة ، فقد فجع بخبرين مزعجين ، مقتل ابنه الذي كان يقود طليعة جيشه على يد خالد ، وموت أردشير في المدائن ، ولم يكن هناك من ينجده ويرسل إليه بالجيوش ، فما كان منه إلا أن انسحب بأهل بيته والبقية الباقية من عسكره إلى ما وراء الفرات ، تاركاً إقليم الحيرة يواجه مع خالد مصيره المحتوم.! وفي أمثال هذه المواقع الجهادية المشرّفة يحلو الشعر ، وتطيب ليالي الشعراء ، ومما قاله أبو مفزر الأسود بن قطبة :

لقينا يومَ أُلَّيسٍ وأمغى * ويومَ المَقْرِ آناء النهار
ولم أرَ مثلها فضلات حربٍ * أشدَّ على الجحاجحة الكبار
قتلنا منهمُ سبعين ألفاً * بقيّةَ حربهم نخبَ الأسار
سوى من ليس يُحصى من قتيلٍ * ومن قد غال جولانُ الغبار

فتح الحيــرة

الحيرة بلدة عربية قديمة ، تقع على نهر الفرات ، وتبعد حوالي ستة كيلومترات إلى الجنوب من الكوفة الحالية ، التي لم تكن موجودة يوم دخل المسلمون العراق ، على الحدود الفاصلة بين صحراء العرب وسواد العراق .

لحق جيش المسلمين بخالد ، فتقدّم بهم من الخورنق باتجاه الحيرة ، فتحصّن أهلها في حصونهم ، فأمر خالد جنوده أن يدعوهم إلى الإسلام وأن يمهلوهم يوماً ، ولكنّهم أبوا الإسلام أو دفع الجزية ، فلما انتهت المهلة نشب القتال وضغط المسلمون على الحصون فأكثروا القتل بأهلها ، وأدرك أهل الحصون أن لا جدوى من المقاومة فنادوا بالأمان على أن يصالحوا المسلمين وينزلوا على حكم خالد ( رض ) ، فقبل منهم خالد ( رض ) وأعطاهم بذلك كتاباً ، وتم له ذلك في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة للهجرة النبوية الشريفة ، الموافق لشهر أيار سنة 633 ميلادية .

وهكذا يكون خالد ( رض ) قد حقّق هدفه في الوصول إلى الحيرة في أقل من ثلاثة أشهر، وأنجز مهمّته المرسومة على أفضل وجه ، ولقد كان لفتح الحيرة آثاره البعيدة ، فقد كانت أول عاصمة من عواصم الأقاليم تسقط في أيدي المسلمين ، وكان لسقوطها أهمية ستراتيجية ومعنوية كبيرة ، هذا فضلاً عن كونها قاعدة تموينية متقدّمة تمد الجيوش العربية الإسلامية المتقدمة بما تحتاجه من العتاد والمؤن …

باختصار ، لقد كانت الحيرة ، وكما خطط لها الخليفة الراشد أبو بكر الصدّيق ( رض ) ، موطيء قدم مناسب لقفزة هجومية أخرى نحو الهدف الأكبر ، وهو المدائن عاصمة الفرس … هذا إذا سارت الأمور كما يشتهي المسلمون …

أما إن كانت الأخرى – لا سمح الله – فإن موقعها على حدود جزيرة العرب يمنحها ميزة عظيمة ، في أن تكون طريق انسحاب ، وخط رجعة آمن للمسلمين …!!!

ما إن ضرب خالد ( رض ) فسطاطه بالحيرة حتى جاءه أهل السواد من الدهاقين يرجون عفوه ويطلبون صلحه ، فصالحهم على أن لا يغدروا ولا يخالفوا ولا يعينوا كافراً على مسلم ، وكتب لهم بذلك كتباً وقّعها بختمه ، ثم بدأ بالكتابة إلى ملوك العجم في المدائن ومرازبة فارس فيها :
كتب للملوك قائلاً : ( بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس ، أما بعد ، فالحمد لله الذي حلَّ نظامكم ، ووهَّن كيدكم ، وفرَّق كلمتكم ، ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرَّاً لكم ، فادخلوا في أمرنا ندَعَكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم ، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غَلَب ، فقد جئتكم بقومٍ يحبّون الموت كما تحبّون الحياة ) …!

وكتب إلى المرازبة ورجال الدين :
( بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس ، أما بعد ، فأسلموا ، تسلموا ، وإلا فاعتقدوا منّي الذمّة ، وأدّوا الجزية ، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبّون الموت كما تحبّون شرب الخمر ) .!!!

ثم أقام خالد في الحيرة يشرّق منها ويغرّب ، ويصعّد ويصوّب ، ويرقب الأحداث قرابة سنة ، هذا والفرس مشغولون في المدائن بخلع ملك وتولية آخر ، ذلك أن شيرويه بن كسرى كان قد قتل كلُّ من كان يناسبه إلى كسرى أنو شروان ، ثم ثار الفرس بعده وبعد ابنه أردشير فقتلوا كل من كان بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور ، ثم بقوا بعد ذلك في أزمة ملوك ، لا يجدون من يملّكونه عليهم من آل ساسان.!!!

وفي الوقت الذي كان فيه الفرس يتصارعون على كرسي الحكم والملك ، كانت خيول المسلمين تجوب أعماق السواد بين دجلة والفرات ، حتى وصلت طلائعها إلى مشارف المدائن ، وفي تلك البطولات المشرّفة قال القعقاع بن عمرو التميمي :

سقى اللهُ قتلى بالفرات مقيمةً * وأخرى بأثباج النِّجاف الكوانفِ
( المناطق المحيطة بأرض النجف )
فنحن وطئنا بالكواظمِ هرمزاً * وبالثَّنيْ قرنَيْ قارنٍ بالجوارفِ
( يقصد موقعتي كاظمة والمذار )
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت * على الحيرةِ الرَّوحاءِ إحدى المصارفِ
( هنا يتحدّث عن فتح الحيرة )
حطَطْناهمُ منها وقد كاد عرشُهم * يميل به فعلَ الجبانِ المخالفِ
رمينا عليهم بالقبولِ وقد رأَوا * غَبوقَ المنايا حول تلك المحارِفِ

بهذا يكون العملاق خالد ( رض ) قد أنجز الشق الأول من الخطة ، وهي الوصول إلى الحيرة ، وجعلها نقطة ارتكاز للقفز إلى المدائن عاصمة الفرس ...

* مقتطعة بتصرف بسيط من موضوع دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة للدكتور أبو بكر الشامي

عن موقع رابطة أدباء الشام