كانت كلمات الشيخ إمام تلامس شَغاف قلبه. كان يضع شريطا متهالكا في مسجّلة متهالكة وقد أحكم إغلاق الباب والنافذة، ثم يخفض الصوت ويترنم مع الشيخ وهو يشدو:
غابة كْلابها ذيابَه
نازلين في الناس هَم
غابة وناسها غَلابه
خِيخه لا نابْ ولا فم
وتزلزله كلماته وهو يصدح:
شيّدْ قصورك عَ المزارع
مِن كدّنا وعمل إيدينا
والخمارات جنب المصانع
والسجن مطرح الجنينة
كان إمام عيسى الفارسَ المحبوب في دنيا الناس تلك، وما زاده الحظر غير حُبّ، ولا التضييق غير رفعة. ومَن ذا لا يَذكر "حطّه يا بطّه" و"مرمر زماني" و"أنا الأديب وأنتم أدرى" و"مسافر.. مسافر" و"بقرة حاحا" و"أنا الشعب ماشي" و"وهبت عمري للأمل"؟ آه يا سليمان، لقد كدتُ أنساك! باءَ بدمِك الغَدور، ودمُك وحده يُنزِل القصاص بمن صرّح كما يصرِّح الحقّ عن مَحْضه حين بلَغتْه شهامتُك "أنه في غاية الخجل". لكن هيهات! فماذا حين يحاكِم اللّكعُ اللكع؟ لكِ الله يا مصر! وكان بعض العزاء في سماع الرثاء، وأبدع محمود الطويل، فلله درّ الشاعر! ثم صدح الشادي:
وآخر كتابي أيا مُهجتي
أمانة ما يمشي وَرا جُثتي
سوى المتهمين بالوطن تهمتي
فداك بدماي اللي شاغلة الخواطر بطول الزمان.
وقُتل سليمان وهو يقول لأجنادِ الكنانة بثقة أولي العزم: "اذهبوا واحرسوا سيناء! سليمان لا يريد حراسة".
ولقد كنتَ تطلب نسخةَ شريطٍ رديء التسجيل بثمنٍ غالٍ ولا تجده، وكوكبُ الشرق تباع بثمن بخس. ولم يكن يضاهي الشيخَ حينها إلا شيخ آخر، ذلك هو عبد الحميد كشك رحمة الله عليه. ومع أن الأول فنان والآخر عالم دين، فقد اجتمعا على قول الحق بلا لفّ ولا دوران. ربما لم يكن يعلم أكثر المحبين أن المغناطيس الذي يملكانه ليس سوى الصدق. الله! ما أجمل الصدق! وما أروع الوضوح! ما أعظم أن يقال للأبيض أبيض، وللأسود أسود! وَلْيَهِمْ بالرّمادي عُشّاقه حبا! الصدق هو ما يفتقده سياسيّونا وعلماؤنا وكُتابنا وأدباؤنا وشعراؤنا وحكامنا وصحافيونا... لقد استمرأ هؤلاء النفاق وغرقوا في وحَل الميْن والزور. كنتَ حين تسمع الشيخ يصدح: "هنا مدرسة محمد" ينتصب شعر رأسك وأنت لا تدري لِم. لكنه الصدق وفعلُه في الأنفس. ثم أتى على الناس حين من الدهر أصبحتَ ترى فيه أشرطة الشيخ تباع على الأرصفة والناس فيها من الزاهدين. ولو استمعوا إليها لما حركت فيهم ساكنا ولا رفعت همّة، لأن صدق الملقي خانه صدق المتلقي. وأنّى للغيث أن يُنتفع به وقد أصاب الجلاميد؟
يَذكر اليوم دخولَ المعلم قاعةَ الدرس ذات شتاء، وكانت القاعدة أن يقف التلاميذ للداخل احتراما، فوقفوا جميعهم ولم يقف. وكان قد قرأ حديثا -الله أعلم بصحته- في اليومية العصرية "لبوعياد"، يوم كانت اليومية مصدر ثقافة، فلا إنترنيت ولا فيس بوك، وعلى الكتاب هالة قداسة. يقول الحديث: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتوكِّئًا على عصًا فقُمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعظِّمُ بعضُها بعضا". كان حينها ابن عشرة أعوام. سأله معلم الفرنسية: "tu es fatigué Mr Marwan?!"، فأجابه:
"non Mr, je suis malade".
لم يعلم حينها أن سبب المرض انفصامٌ بين الحلم والواقع. لكنه أقنع نفسه بالوقوف احتراما للمعلم لا تعظيما حين درس المفعول لأجله. وبقي في النفس شيء من أنفة وعزة. يَذكر الآن وقد اشتعل الرأس شيبا ذلك الطفلَ وعزّته الطفولية، متأمّلا تلكم الخشب المسندة وهي تقبّل يد الحاكم بهواه، وتهوي راكعة أمام جسد من طين. ثم بدا لرُوح هائمة أن تسأل: أرُكوع احترام هو أم تعظيم؟!